لم تعرف الدولة المصرية الحديثة نموذج الآباء المؤسسين وجهودهم من أجل ترسيخ دعائم حكم المؤسسات وتداول السلطة، عبر ما تركوه خلفهم من رؤى وأفكار ومبادئ دستورية مكتوبة وأعراف غير مكتوبة تضمن استمرار مشروع ورؤى التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واستمرار المرجعية الفكرية والأخلاقية لنظام الحكم فى الدولة، مهما اختلفت وجوه وأسماء رجال الحكم. وأظن أن الثابت الوحيد فى الدولة المصرية الحديثة منذ مؤسسها الأوّلى محمد على باشا، هو جهازها البيروقراطى العتيد، وإدارته وتوظيفه بشكل يضمن استمرار عمل دولاب الدولة، فى كل مرحلة تاريخية، واستمرار مصالح القائمين على إدارة هذا الجهاز البيروقراطى. أما الشعب المصرى فى عمومه فقد كان هو الحاضر الغائب دائمًا؛ يتكلم الجميع باسمه، ويطالبونه بأن يعمل ويصبر ويقدم التضحيات من أجل خدمة الوطن، والدفاع عن الأرض والعرض على الجبهات المختلفة فى لحظات التهديد والخطر، لكنه لم يكن – فى أغلب الأوقات - موضوعًا حقًا فى الاعتبار، رغم أنه مصدر الشرعية والسلطة كما تصرح الخطابات الرسمية. وهذا يعنى أن الدولة المصرية فى العهد الملكى أو الجمهورى كانت - باستثناء عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين – هى التى تملك السلطة وأدواتها، وكان يوجد بينها وبين أغلبية الشعب فجوة قيمية واقتصادية ونفسية، رغم أنها تتكلم باسمه وتعمل لأجله فى الخطاب الرسمى. وهذه الدولة يرتبط مشروعها التنموى للتغيير والإصلاح بوجود شخص أو حاكم معين، ويتوقف هذا المشروع برحيله. وهذا فى ظنى هو الذى جعل الدولة المصرية فى عقود سابقة على ثورة 30 يونيو 2013، شبه دولة بتعبير الرئيس عبد الفتاح السيسى فى إحدى خطبه عام 2016؛ لأن الدولة بعيدًا عن تعريفها الاصطلاحى الذى ترتب على اتفاقية «وستفاليا» 1648، أى الدولة الوطنية المحددة جغرافيًا، التى يسكنها شعب معين، ولها نظام حكم معترف به دوليًا، وتتحدد فيها الممارسة السياسية بمراكز محددة للقرار والتشريع وفقا لما تمليه نظرية السلطات الثلاث، هى أيضًا بنية تحتية قوية، واقتصاد قوى، ونخبة سياسية واقتصادية وثقافية وطنية، ومؤسسات دولة متماسكة وراسخة، يُديرها رجال دولة مخلصون، ومرتبطون عضويًا بالشعب وطموحاته وأحلامه، ويعملون بجهد وإخلاص من أجل الحفاظ على وجود ومقومات الدولة، وحفظ وصيانة ميراثها الثقافى والحضارى ودورها ومكانتها، وتحقيق تقدمها وازدهارها، وتوفير الحياة الكريمة والآمنة لشعبها بكافة مكوناته وطبقاته. وفى حقيقة الأمر، لا يستطيع إنسان منصف أن يُنكر أن الرئيس عبد الفتاح السيسى قد نجح منذ توليه مسؤولية الحكم فى مصر عام 2014، وقبلها عندما كان وزيرًا للدفاع، فى أن يُجسد فى ذاته ودوره نموذج الزعيم المُخلص المُعبر عن إرادة الشعب لإسقاط حكم جماعة الإخوان واستعادة الدولة. كما نجح فى أن يُعيد الأمن والاستقرار للدولة المصرية بعد موجة الإرهاب وعدم الاستقرار إلى وجهتها. كما سعى الرئيس السيسى فى الوقت ذاته لبناء دولة حقيقية، واستعادة دور ومكانة مصر فى المنطقة والعالم، وصنع جمهورية جديدة، وتطوير اقتصادها وبنيتها التحتية، وتجديد شباب وفكر مؤسساتها الوطنية ورجالها، وصنع نخبة سياسية تكون ظهيرًا وقيمة مضافة للدولة. وهذا السعى يؤهل الرئيس السيسى فى حالة استكمال هذا التطوير والبناء بأيد وطنية مخلصة، وعلى نحو يخدم مصالح الشعب، لكى يصبح أبًا مؤسسًا لمرحلة جديدة فى تاريخ الدولة المصرية، هى مرحلة دولة المؤسسات التى يُمكن فيها تداول السلطة بسهولة تضمن استقرار الدولة، مع استمرار الفكر والرؤية والقيم والثوابت الوطنية الموجهة لعمل مؤسسات الدولة، واستكمال مشروع التنمية الشاملة، بصرف النظر عن شخصية واسم الحاكم. وفصل المقال، قديمًا قال الفيلسوف والمصلح الفرنسى الكبير مونتسكيو: «عند تأسيس دولة ما يكون الرئيس هو الذى يُشكل المؤسسة، وفيما بعد تُصبح المؤسسة هى التى تُشكل الرئيس القادم». وكم أتمنى أن يصبح الرئيس السيسى فى التاريخ المصرى المعاصر هو ذلك الأب المؤسس، بعد نجاحه أثناء ثورة 30 يونيو وبعدها فى أن يكون الزعيم المُخلص.