حكاية «شلبية» أشبه بالأساطير، رغم اننا في زمن الارتباط بالتكنولوجيا، هل لأنها بدأت ترسم كما تتكلم وعمرها لم يتجاوز 17ربيعا, أم لأنها ترسم الحكايات الأسطورية الأثيرة التي كانت جدتها في قرية جزي بالمنوفية ترددها على مسامعها, تلك الحكايات التي تحمل حكمه الفلاحين وارتباطهم بالأرض وتعلقهم بالقمر والنجوم ومراقبة طلوع شمس النهار, وترقب غروبها خلف الشجر, والجري وراء ذهابها إلى المجهول, أم لأن لوحاتها تلتقي مع فحوي لوحات الفنان الروسي شاجال أو أن زوجها الفنان «نذير نبعه» يقف وراء هذا الفيض والود للألوان, لكن أغلب الظن أن الموهبة الكامنة في روح الفلاحة «شلبية أبراهيم» التي جاءت من دلتا النيل, وراء هذا التفرد.. تلك الروح الكامنة التي راهن عليها المربي والفنان «حبيب جورجي» (1892-1965)، في مواجهة الإنجليز, عندما هيأ لفلاحين قرية الحرانية مناخا فنيا, فبرعوا في إبداعات وتجربة مثيرة تحدى بها رواد علم التربية الفنية في الغرب, بعد أن أعتمد على نظرية الكوامن الفطرية لدى الإنسان وقدرته على الإبداع حتى ولو يكن داخل دائرة ثقافية وتعليمية. وإن كانت شلبية إبراهيم دخلت دائرة ثقافية بزواجها من الفنان «نذير نبعه» طالب الفنون الجميلة الذي جاء الي القاهرة للدراسة في زمن الوحدة من الأقليم الشمالي (سوريا) وارتادت معه بذلك عوالم جديدة ومثيرة وفوقية، إلا أنها ظلت متمسكة ببكارة علاقتها الأولى بعالم اللوحة, ومن أبرز ما احتفظت به شلبية طوال مسيرة فنية تجاوزت الأربعة عقود تلقائية التناول دون مراجعة وهي التي تقول: أنني أرسم كل ما يحلو لي من دون تحفظ أو تردد، كما أحب أن أعمل كل ما في نفسي. فيما يقول الناقد والفنان السوري د.أسعد عرابي: تنجز شلبية اللوحة في طقوس معيشية لاتقبل المراجعة مثلها مثل الشهيق والزفير والنفس ونبض القلب فمنهجها الكشفي لا يحتمل أي تردد أو تعديل, تعمل بنوع من التجلي والتواصل الغامض مع مكونات اللوحة. أما زوجها نذير نيعه فيقول: مازلت أذكر رغم مرور الزمن, حركة يدها فوق الأوراق التي قدمتها لها كهدية, بعد أن شاهدتها ترسم على جدران بيتها الريفي وربما رسمت قبل ذلك على رمال شاطئ النيل أو تراب الطريق. ويروي نذير نيعه: عندما أبدت شلبية رغبتها في دراسة الفن, بعد أن تملكها حبه وتجاوزت في ذلك اللعب وإرضاء الآخرين أو إدهاشهم, وكان أن قررنا أن تدرس في القسم الحر في كلية الفنون بالقاهرة, وقدمت مجموعة من رسومها إلى أستاذي الفنان عبد العزيز درويش أستشيره الأمر, وكان جوابه رحمه الله ورحم خفة دمه.. العم ماتيس كان عاوز يعمل كده..أنت عاوز تبوظ الحاجات الجميلة دي بالأكاديمية بتاعة اهلك.. وهنا ينتهي كلام درويش ويعلق الزوج «نذير نبعه»: لم تكن الأكاديمية بتاعة أهلي ولا أهله.. بل كانت بتاعة أهل الغرب الذين نقلنا عنهم وقلدناهم في بداية النهضة, المهم أن جوابه لاقى هوى في نفسي وفي نفسها أيضا وفي الوقت الذي تداعت فيه الكثير من المعاني في زمن العولمة زمن الاغتراب والتفتيت.. احتفظت شلبية لفنها بنصيب من البراءة ومن فرط الدهشة, يرى البعض أن هذه البراءة الاستثنائيه, لكنها البراءة والموهبة الفطرية التي أستمدتها من صفاء صفحة النيل أو حتى عندما انتقلت مع زوجها إلى بلدته في دير الزور على حافة البادية أقصى الشمالي الشرقي السوري, فقد وجدت شلبية هناك نهر الفرات يحمل البلدة الصغيرة على كتفه بين أشجار النخيل، لذلك يقول الزوج المحب نذير نبعه: كنت مشفقاً عليها من هذا التغير بين الجنوب والشمال ألا أن طبيعة هذا البلد ووجود الفرات وأجوائه المشابهة للريف المصري (كانت دير الزو أقرب أجواء محيط مدينة المنصورة) وكان نتاج التعايش مع هذه البيئة الجديدة المعرض الأول في المركز الثقافي العربي بدمشق عام 1970 . تطرح لوحات شلبية حاله إبداعية عصية على من تعلقوا بالميراث الفني والثقافي الغربي والنموذج النهضوي (نسبة إلى عصر النهضة الأوروبية).. حيث تفيض لوحاتها وشخوصها وألوانها بالبساطة والسحر والتدفق الإلهامي الذي يتجاوز التنظير, والنسق الجامد من القواعد الأكاديمية, والأطر المتعارف عليها, وتشترك في ذلك مع إبداعات الفنانة الجزائرية باية محي الدين وفاطمة حسن من المغرب, وفخر النساء زيد من الأردن. علمت شلبية نفسها كيف تبوح للورق بأسرار ومكنون النفس, كيف تعبر عن ما يدور في خلدها من دون مواربة، كيف تعيش مشاعرها كما هي؟ فالشجرة في لوحاتها يمكن أن تتحول إلى امرأة تسبح في الفضاء, أو تمتطي مع الرجل صهوة القمر في أول الشهر(هلال) فيما نرى ثغر الفتاة وقد تحول إلى باقة من الزهور. استطاعت شلبية أن تجعلنا نرى قوس قزح بكامل ألوانه داخل لوحاتها ونتأمله في الصبح وفي الليل, استطاعت بشفافية أن تصنع جناحان للمرآة, لذلك تقول الروائية د. «نادية خوست»: أسطورة شلبية سفر في عمق الواقع, حيث أساطيرنا المروية التي لا يستحيل فيها القفز من جيل إلى جيل، هناك تخترع حرية عناصر الواقع و مرونتها وتنقلها, فلا توجد حركة ممنوعة, وتصل المرأة بالجنية, وتظهر في قامتها رقة لا مثيل لها, ومع ذلك فهذه الأسطورة من مادة الأرض. عناصر المستحيل هي خطوط الحسم التي تبنتها «شلبية» في الواقع, أطلقتها من السجن, وهي العالم البيئي الفطري الذي أحبته, العالم المهجور المنسي الذي طردناه وتعالينا عليه, العالم الذي تولد فيه المرأة من ضوء القمر عارية عري الأطفال وتركب فيه السمكة وتمخر بها البحر. يبقي ان شلبية تصيب جمهورها دائما بصدمة الدهشة دون أن تقصد في عالم معقد مرتبك لاهث فقد الكثير من براءته وفطرته السليمة.