مجلس جامعة كولومبيا يصوت على قرار للتحقيق مع الإدارة بعد استدعاء الشرطة لطلبة متضامنين مع غزة    قوات الاحتلال تطلق النار على سيارة خلال اقتحام مدينة طولكرم    الجيش الأمريكي: الحوثيون ألقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر الأحمر وأصابوا إحداهما    أحمد فهمي يحتفي بصعود الأهلي لنهائي إفريقيا    الأرصاد تحذر المصريين من طقس اليوم: الأمطار الرعدية والسيول تضرب هذه المناطق    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    كولر: مازيمبي لم يشكل أي خطورة علينا.. وسنحتفل اليوم بالتأهل    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    واشنطن تعلن عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 6 مليارات دولار    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    دوري أبطال إفريقيا| الأهلي يعزز رقمه الإفريقي.. ويعادل رقمًا قياسيًّا لريال مدريد    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    بشرى في العرض الخاص لفيلم "أنف وثلاث عيون" بمهرجان مالمو للسينما العربية    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصة القصيرة ومسار الابداع في مصر
نشر في شموس يوم 11 - 11 - 2014


بقلم دكتور أحمد الباسوسي
(قراءة في بعض النماذج الحديثة في فن القصة القصيرة)
مقدمة تاريخية لابد منها
مسار الابداع في القصة القصيرة في مصر راسخ في القدم ، وهذا الحديث ليس من قبيل الفخر أو مجرد ادراك أو مشاعر شوفونية ضيقة الافق ومعطلة بالتأكيد لمسارات التطور والتقدم ، بل يستند على أدلة تاريخية تثبت ولع المصريين بهذا الفن الإنساني الذي يتطور ربما كل لحظة مخترقا خلجات الإنسان والحجر والشجر ، ومشكلا نبضا ابداعيا حيويا رائعا يصنع البهجة في الواقع الإنساني /الاجتماعي على الرغم من ثقله ورداءته.
والحكي غريزة إنسانية مدهشة ، بفضلها احتفظت الإنسانية بالأرشيف الذي يكشف عن وجودها وكينونتها منذ الأزل . وبفضلها أيضا تشكلت وتطورت طبيعة التواصل الحي بين الإنسان على الأرض والخالق في السماء ، وتكشفت امور وعظات وحكم للإنسان المخلوق بغرض هدايته ، ورسم الطريق المستقيم الذي ينبغي ان يسلكه من خالقه عز وجل عن طريق رسله الذين بعثهم إلى عباده من بني البشر على مر العصور .
فن القصة القصيرة عبر الزمن
فن القصة كما ذكرنا موغل في القدم يعود إلى الازمنة القديمة وقد ورد في قصص العهد القديم والانجيل وفي القرآن الكريم قصصا وحكايات عن النبي موسى والنبي الملك داود ، والنبي الوزير يوسف الصديق ، وما ورد في القرآن الكريم بشأن قصة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، والسيدة مريم العذراء ام السيد المسيح عيسى ، وما ورد بذلك الشأن في سفر راعوث بالكتاب المقدس عن راعوث الموابية الشخصية الأشهر في الكتاب المقدس ، وغيرهم كثيرين ممن وردت اقاصيصهم ضمن الكتب السماوية الثلاثة ،اضافة إلى حواديت وحكاوي الاقدمين من الملوك والاولياء الصالحين والعبر والعظات المستمدة من هذه القصص الإنسانية المشوقة .
العصر الفرعوني
يظل الفضل الأعظم على البشرية في ارتقائها المادي والمعنوي مردودا إلى عصر الدولة المصرية الحديثة (1580-1150 ق.م) بداية من عهد احمس الأول مؤسس الاسرة الثامنة عشر ، يليه ابنه امنمحتب ، ثم عهد تحتمس الاول ، ثم الملكة حتشبسوت ، مرورا بعهد الملك تحتمس الثالث الذي شاركها الحكم ردحا من الزمان قبل ان ينفرد بالسلطة ويذهب إلى فلسطين لتأمين حدود مصر ويحارب الاعداء بقيادة امير قادش ويوقع بهم الهزيمة النكراء في موقعة ماجدو الشهيرة . ونشر الملك اخناتون مذهبه الديني الذي يدعو إلى عبادة اله واحد فقط ورمز له بقرص الشمس ، وانشأ للبلاد عاصمة جديدة تسمى اخيتاتون . ومع انشغال اخناتون بالشأن الديني ونشر مذهبه الديني سقطت الامبراطورية في الشام على يد الحيثيين ، وانتهى عهد الاسرة الثامنة عشر على يد الملك الشاب توت عنخ آمون الذي لم يمكث في الحكم سوى سنوات معدودة . حتى تولى الملك رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشر مقاليد الأمور في البلاد واستعاد فلسطين ، وطرد الليبيين من غرب الدلتا ، واصلح معابد آمون والكرنك ، وانشأ المقابر ووادي الملوك . وخلفه الملك رمسيس الثاني الذي استعاد الامبراطورية الآسيوية ، واستعاد مجد ومكانة مصر الحربية . واتسعت الامبراطورية ، واتسع وافديها من مختلف الاجناس ، وخلف رمسيس الثاني ابنه منبتاح الذي حافظ علي الامبراطورية بزخمها وتوهجها قبل ان يموت ويدب فيها الوهن حتى جاء رمسيس الثالث مؤسس الأسرة العشرين ليعيد المجد من جديد للإمبراطورية . ويطلق المؤرخون على هذا العصر تسمية عصر المجد الحربي وعصر الامبراطورية المصرية حيث تمددت في غرب آسيا ومدن فلسطين وسوريا وجزر البحر المتوسط ،
القصة في العصر الفرعوني
واستتبت الامور والحدود السياسية ، وحدث ارتقاء بفنون العمارة والآداب والموسيقى والتزين . وبرع المصري القديم في كتابة القصص ، وحرص على ان تكون الكلمة أداة لتوصيل الحكمة وآداب السلوك . أيضا ظل المصريين حريصين على رواية تراثهم من الحكم والامثال وتدوين تاريخهم والأحداث التي تعرضوا لها في حياتهم .
تاريخ فن القصة عند قدماء المصريين
تاريخ فن الحكي عند المصريين القدماء في هيئة المسرحيات الدينية وغيرها يسبق ما ورد عن اليونانيين ومسرحهم الشهير بنحو ثلاثة آلاف عاما ، ويتضح ذلك من تمثيلية " منف" في عهد الملك مينا ، ومسرحية "التتويج" في عهد الملك سنوسرت الاول ، ومسرحية انتصار حور على ست قاتل والده اوزوريس ، وهناك دلائل تشير إلى ان كاتبها هو الحكيم أمحتب في عهد الملك زوسر . وتدور أحداث القصة حول بحث ايزيس وابنها حور عن جثة زوجها واخيها اوزوريس الذي قتله ست ومزق جثته إلى نحو اربعون قطعة بعدد محافظات مصر وقتئذ ، واستغرقت رحلة البحث الشاقة مجهودات جبارة ومواقف دراماتيكية مثيرة للانتباه وخوض معارك شديدة البأس حتى تم تجميع قطع الجثمان واعادته للحياة . وكان المصريون يطلقون على هذه التمثيليات لفظة " اسرار " . حيث كان الكهنة من يكتبونها ويمثلونها أيضا ، وتعرض داخل المعابد .
مزاعم هيرودوت غير الدقيقة
اشار المؤرخ اليوناني هيرودوت عام 450 قبل الميلاد في اعقاب مروره ببلدة صان الحجر المصرية القديمة أنه كانت تقام في هذه البلدة ليلا تمثيليات تصور الآم ايزيس . واستطرد ان الاغريق اخذوا فن المسرح عن الفراعنة لكنه لم يتطور ولم يخرج عندهم ابدا من عباءة الدين . وللأسف لم يكن هذا التصريح على الطريقة الهيرودوتية والذي جاراه فيه الناقد المصري الاكاديمي الدكتور لويس عوض حيث قال "ان المسرح الفرعوني نشأ في احضان الدين ومات في احضان الدين أيضا " ، لم يكن هذا القول دقيقا . فالمسرح الفرعوني نشأ بالفعل في احضان الدين لكنه تطور ليتفاعل مع الواقع ومشكلاته والدليل على ذلك ما تم العثور عليه من برديات خطت عليها نقوشا شملت نصوصا قصيرة لروايات مصرية قديمة تناولت المسائل الدنيوية إلى جانب المسائل الدينية على شاكلة مغامرات حورس ، وقصصا فلسفية ونفسية تتحدث عن الصدق والكذب مثل قصة الاخوين وموضوعها عن المرأة العاشقة التي يصدها محبوبها عن الوقوع في الاثم فتشي به عند اخوه وزوجها ليقوما بالانتقام لها .
قصة سنوحي
نموذج قصة " سنوحي " ، أي ابن شجرة الجميز ، وهي شجرة مقدسة لدى قدماء المصريين ، من النماذج الباعثة على الدهشة والتأمل في الأدب الفرعوني القديم والتي تم تداولها على أوراق نبات البردى مثلما المعتاد ، ويقال أنها قصة حقيقية حدثت في زمن الاسرة الثانية عشرة . وتحكي عن الشاب سنوحي وكان يعيش في قرية اتيت اواي عاصمة مصر في ذلك الوقت ، وكان يساعد والده الطبيب الثري في عصر امنمحات الأول . وكان امنمحات قد كبر في السن وبدا التصارع الخفي على وراثة حكمه بين اثنين من ابنائه . ويحكي سنوحي في مذكراته أنه سمع ذات ليلة اثناء سيره في الطريق حديثا خافتا بين رجلين ،استشعر أنهما يدبران شيئا خطيرا ، اقترب ، وسمع حديثهما ، وعرف احدهما وهو سنوسرت الاول وهو احد ابناء الملك امنمحات . وكانا يرتبان خطة قتل الملك . اعتقد سنوحي ان احد الرجلين لاحظ وجوده وسمع حديثهما . ففر مسرعا وهو في حيرة بين امرين : ان يبلغ الملك لينقذه ، أو يهرب بما عرفه من سر خطير ليحافظ على حياته . وفي النهاية قرر الفرار ومعه بعض ادواته الطبية التي يستعملها في عمله مع والده الطبيب . هرب سنوحي إلى بلاد رنتو العليا (وسط بلاد الشام) وهناك استقر به المقام ، تزوج وانجب ، وعمل طبيبا للفقراء في بادئ الأمر حتى ذاع صيته بكنيته سنوحي المصري ، ومرض ملك بلاد رنتو وطلبه لمعالجته ، وتمكن سنوحي من علاجه فاحبه الملك واعتبره طبيبه الخاص المقرب ومستشاره لاحقا . في هذه الاثناء ساءت علاقة ملك رنتو بملك مصر وجهز جيشا كبيرا لغزو مصر وسلحه بالسيوف المعدنية التي لم تكن مألوفة لدى المصريين ايامها ، بل كانوا يعتمدون على السيوف الخشبية التقليدية . وكان السيف المعدني في هذا الوقت تطورا نوعيا مهما ووسيلة هامة لكسب الحروب . تمكن سنوحي من الحصول على احد هذه السيوف المعدنية وبعث برسالة إلى ملك مصر يطلب منه فيها الأمان واللقاء لأمر هام . وفي مصر التقى الملك سنوسرت الأول واخبره بقصة السيوف المعدنية والحرب الوشيكة . وأمر الملك سنوسرت الاول بتسليح الجيش المصري بنفس السلاح ، وتأتي الحرب وينجح الجيش المصري في صد الغارة وملاحقة جيش الاعداء إلى خارج الحدود المصرية . ويشكر سنوسرت الاول سنوحي على ما قدمه من خدمه للبلاد وله شخصيا ويطلب منه طلب اي شيء بمثابة مكافأة ، فيطلب منه سنوحي الأمان مرة أخرى ليقص عليه حكايته ويسمح له ولأسرته بالإقامة في بلده حيث كان فراق مصر صعبا جدا عليه . وكان له ما طلب ، ويحكي سنوحي لفرعون مصر قصته ، ويصفح عنه الفرعون ، ويصبح سنوحي طبيبه الخاص حتى وفاته . وتكشف هذه القصة عن معاني إنسانية رفيعة تتعلق بالحنين للوطن مهما طال البعاد والفراق ، وكذلك قوة الانتماء وشدته مهما كثرت الاغراءات في بلد المهجر ، ومهما كانت الغصة شديدة المراس من الوطن .
وخلاصة القول ان هذه الاشكال المتطورة من الروايات والقصص القصيرة في مصر الفرعونية تعكس تطورا في الاشكال والموضوعات التي تناولتها المسرحيات لاحقا . ويؤكد الباحث والناقد الاكاديمي عمر دسوقي في كتابه " المسرحية ، نشأتها ، تاريخها واصولها " ان المسرح الفرعوني القديم لم يقف على عتبة المعبد وحسب ، بل خرج إلى الشعب ، وكان يقوم بالتمثيل فرق متجولة ، ويدخله بعض الرقص والغناء .
قوة الدولة وازدهار الفنون
ويوضع في الاعتبار ان ازدهار العلوم والفنون والآداب مرهون معظم الوقت بقوة الدولة العسكرية وقدرتها على بسط نفوذها وفرض سطوتها بين الامم . والتطور الحضاري / الثقافي او ما يسمى بقوة الدولة الناعمة استجابة متوقعة لقوة الدولة وبسط نفوذها وسيطرتها على حدودها . والآداب والفنون احد هذه الروافد التي تنتعش في ظل شعور المواطن بالفخر نتيجة لوجوده داخل دولة قوية صاحبة نفوذ وفعالية وتأثير بين الامم ، الأمر الذي يشعل الملكات العقلية/الفكرية ويحررها للعمل بأقصى طاقة ممكنة . وهكذا كانت الدولة المصرية القديمة في لحظات قوتها مرتعا لفنون الهندسة والكيمياء والطب والمسرح والقصة والرواية والرسم والنحت وغيرها من العلوم والفنون . والعكس صحيح فإنه في حالة افول نجم الدولة ، وضعفها وانكماشها ، وضعف قدرتها العسكرية ، وانكسار نفوذها محليا واقليميا ودوليا يحدث تراجعا في قوة الدولة الناعمة على مستوى العلوم والفنون والآداب ، ولا نسمع سوى اصوات تنعق بالجهل والتطرف والارهاب رقصا على جثة الدولة الهامدة .
مسار الابداع المصري الحديث في القصة القصيرة
مقدمة تاريخية
في هذا السياق نقفز قفزة مستحيلة عبر الزمن ، ومتسقين مع ما ذكرناه في المقدمة بشأن العلاقة بين قوة الدولة وازدهار العلوم والفنون فيها وكذلك العلاقة بين انكسار الدولة واضمحلالها وشيوع حالات الترهل والجهل والتطرف الديني والارهاب بين جنباتها . وتعرضت الامبراطورية المصرية لهذه الحالات من الضعف والترهل عبر تاريخها الطويل /العرض ، وبالتالي تناوب على غزوها الهكسوس في نهاية عصر الدولة الوسطى قبل ان يتم طردهم وتحرير الامبراطورية المصرية . ونجح الآشوريين في احتلال البلاد في القرن السابع قبل الميلاد قبل أن يقود المصريون ثورتهم بقيادة الأمير بسماتيك الذي نجح في عقد تحالفات دولية انتهت بتحرير الامبراطورية المصرية من الآشوريين . وفي عام 525 ق.م احتل الفرس بقيادة قمبيز بن قورش مصر ، وكان شديد الشراسة وسيئ المعاملة للمصريين ، ويستهزئ بمعتقداتهم الدينية . وحدثت ثلاثة ثورات كبرى ضد الاحتلال الفارسي لتحرير البلاد وتحقق لهم ذلك . لكن الفرس عادوا مرة أخرى حتى نجح المصريون في طردهم في القرن الخامس قبل الميلاد . ودخل الاسكندر الكبر البلاد بجيشه وحاول استرضاء المصريين بادعائه أنه ابن الاله أمون غير أن المصريين لم يرضخوا لخلفائه من البطالمة . وقامت الثورات الكبرى لدحر الاحتلال حتى معركة رفح والنزاع الاسري بعد بطليموس السابع والثورة السادسة . ثم الغزو الروماني لمصر ومقاومة أهل الاسكندرية والثورات في مصر العليا والنوبة والدلتا . بلوغا للقرون الوسطى وغزوات الصليبيين للاستيلاء على مصر ، وزمن الحكم العثماني ، وغزوة نابليون الشهيرة على مصر وشراسة مقاومة المصريين لهذه الحملة واجبار الفرنسيين على الرحيل بعد ثلاثة سنوات فقط من الغزو ، ثم الاحتلال البريطاني الذي جسم على صدر المصريين مدة اثنين وسبعين عاما . وهكذا يتبين ان الدولة المصرية عانت كثيرا من فترات الفوضى والاضمحلال والانشغال بالثورات لطرد المحتلين لذلك لمسنا تراجعات قوية فيما يتعلق بنفوذ الدولة وقوة سيطرتها وبالتالي منتجات هذه الدولة العلمية /الفكرية / الثقافية / الأدبية والفنية مقارنة بالحقبة الفرعونية الأم التي اسهمت في اثراء البشرية بالعلم والفنون وكانت حضارتها وثقافتها وقوتها باعثة على الدهشة بالفعل.
نشأة القصة القصيرة في مصر
وحينما نشير في سياق عرضنا التاريخي سالف الذكر إلى ان منشأ القصة القصيرة في مصر انما قد يرجع إلى الدولة الفرعونية وحقب الامبراطورية المصرية القوية ، فاإن عبدالله النديم (1843-1896) الاديب والثائر المصري الملقب بخطيب الثورة العرابية يعتبر أول من كتب القصة القصيرة في مصر في القرن التاسع عشر ، وذلك في صحيفته الخاصة التنكيت والتبكيت ، وذلك حينما كتب قصة " عربي تفرنج" التي تحكي عن تنكر بعض المبتعثين المصريين في الخارج لوطنهم فيما بعد . أيضا اقدم عبدالله النديم على كتابة اقاصيص ذات قضايا تمس الواقع الاجتماعي ، وتهتم بمشكلات المجتمع مثل اقصوصة الفلاح والمرابي ، سهرة الانطاع . وكتب عبدالله النديم أيضا القصة الرمزية من خلال اقصوصته " مجلس طبي لمصاب افرنجي " . وهكذا لا نبالغ لو قلنا ان عبدالله النديم كتب القصة القصيرة قبل موباسان (1850-1893) ، وقبل انطون تشيكوف (1860-1904) . ويحتل اسم الكاتب الكبير محمد تيمور (1892-1921) مكان الريادة في كتابة القصة القصيرة في شكلها الحداثي وذلك حينما نشر قصته " القطار" في مجلة السفور عام 1917 ، إضافة إلى مساهماته في مجال المسرح واهتمامه بالأدب المسرحي والمسرح الكوميدي بصفة خاصة ، ويعد من رواد القصة القصيرة الواقعية وله مجموعة قصصية عنوانها " ما تراه العيون " ، وعلى الرغم من وفاته المبكرة قبل ان يبلغ الثلاثين عاما غير ان تأثيره على الحياة الأدبية والثقافية كان بعيد المدى .
ويرجح بعض المؤرخين والمهتمين أن بدايات كتابة القصة القصيرة المصرية كانت مع الترجمة التي اخرجها الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924) عن كتابات كبار الأدباء الفرنسيين والانجليز والروس والأمريكان في فن القصة القصيرة . وكتابه " العبرات " يشتمل على مجموعة من القصص الفرنسية المغرقة في الرومانسية . وبغض النظر عن الحكم على تلك الترجمات ومدى دقتها ؟ وعما يشاع عن الرجل بأنه لم يكن يجيد اللغات من أصله واستعان ببعض المترجمين غير الاحترافيين فان الثابت تاريخيا ان ترجماته للغة العربية للقصص الاجنبية تشهد على ريادة محاولة الترجمة لفن القصة القصيرة في مصر . ويتتابع طابور رواد القصة القصيرة في مصر فيسطع اسم الكاتب محمود تيمور (1894-1973) الذي كتب عدة مجموعات قصصية منها " الشيخ سيد العبيط" عام 1925 ، و "رجب افندي" عام 1929، و "الحاج شلبي" عام 1930 ، إضافة إلى الروايات الطويلة والمسرحيات التاريخية . وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1963. والأخوين اللبنانيين الأصل يوسف عبيد الذي وافته المنية عن عمر يناهز الأربعة والعشرين عاما ، وكان أديبا ثائرا متمردا ، ومن خلال جماعة السفور انطلقت دعوته وزملائه إلى ايجاد قصص مصرية عصرية والتوصل إلى أدب مصري موسوم بالمصرية الخالصة . وأخيه شحاته عبيد المتوفي عام 1961 وقد كف عن الكتابة الأدبية في أعقاب وفاة اخيه واحتجب عن دنيا الأدب نهائيا قانعا بالعمل في متجر القماش بالظاهر ، والكاتب اللبناني الأصل ورائد القصة النفسية ابراهيم المصري (1900-1979) الذي يعتبر واحدا من رواد القصة القصيرة المتميزة . بالإضافة إلى كتابات توفيق الحكيم (1898-1987) في القصة القصيرة ، ويوسف ادريس (1927-1991) ويحيى حقي (1905-1992) ، ومحمود البدوي (1908-1986) الملقب ب تشيكوف العرب بحسب نجيب محفوظ ، وحسين فوزي (1900-1988) ، وطاهر لاشين (1894-1954) وغيرهم كثيرين ممن رسخوا بنيان هذا الفن وابدعوا فيه كما لم يبدع احدا . وفي سياق بحثنا سوف نتناول بالتفصيل بعض النماذج الحديثة لشباب المبدعين ونحاول سبر غور محاولاتهم الجدية في وضع شكل ومضمون مختلف للقصة المصرية القصيرة
تعريف القصة القصيرة
تنوعت تعريفات النقاد والاكاديميين لمصطلح القصة القصيرة فمنهم من وقع عند حجمها وحدد لها عدد من الكلمات لا تزيد عنها وان زادت دخلت في اطار فن آخر . ومنهم من اشترط لقراءتها حيزا زمنيا لا تتعداه ، كأن يتحتم قراءتها في جلسة واحدة . ومن النقاد من قال انها تقرأ في أقل من ساعة ، ويقول رائد كتابة القصة القصيرة الأمريكي ادجار الن بو ان قراءتها قد تستغرق نصف ساعة إلى ساعتين ، وآخرون عينوا لها زمنا أقل . وحددها بعضهم بعدد الكلمات ، يقول مورلي ان اي قصة تقع في أقل من 1500 كلمة من الافضل ان تسمى سكيتش Sketch ، وان اي قصة تقع في أكثر من 1000 كلمة توصف بانها نوفولوتيه Novelette ، ومنهم من نفى عنها كثرة الأحداث والشخصيات والتفصيلات . ومنهم من ادعى خلوها من الحوار تماما . ونرى ان التعريف الأشمل للقصة القصيرة هو انها فرع من فروع الأدب النثري القصصي أو الحكائي الذي يقرأ بشكل مناسب في جلسة واحدة ، وهي مبنيه على القصة الواحدة التي لها تأثير واحد ، وتعرض مجالا واضحا وخاصا من الزمن . ومن حيث الطول فان هذا النوع الأدبي يقع فيما بين القصة القصيرة جدا التي لا يقل عدد كلماتها عن 2000 كلمة وبين النوفليته أي القصة القصيرة الطويلة التي يصل عدد كلماتها إلى 15000 كلمة . ويوضع في الاعتبار ان هذا التعريف يبدو غير دقيق الآن بسبب ظهور الاشكال الجديدة من القصة القصيرة على شاكلة القصة القصيرة جدا أو الومضة التي يمكن ان يقل عدد مفرداتها عن عدد اصابع اليد الواحدة في الإنسان ولا تعتمد النثر القصصي أو الحكائي اساسا في القصة . .ونجد انفسنا في حاجة إلى مراجعة التعريف السابق ووضع تعريف جديد يتوافق مع ظهور الاشكال الجديدة من القصة القصيرة يختفي منه شرط الرقم المعين من الكلمات للحكم على القصة بانها قصيرة ، كما ان مفهوم النثر القصصي أو الحكائي ينبغي اعادة النظر فيه بعد الثورة في عالم التجريب في القصة القصيرة ، ولم يعد الحكي بمعناه التقليدي مهمينا على عالم القصة مقارنة بهيمنة انعكاسات هذا الحكي على الشخوص والعوالم كما يظهر ذلك لدى كتاب القصة القصيرة الحديثة في كافة اشكال التعبير الرمزي ، والسوريالي والعبثي ، واصبحنا نألف لغة جديدة تتضمن مشاعر متفجرة ، وانفعالات غير متناسبة ومنفلتة ، ولغة القلق والاضطراب والتمرد واليأس بديلا عن شخوص بلحم ودم تمشي في الزقاق او تعبث بليل من دون هدف .
القصة القصيرة الشكل والمضمون
ما يزال الجدل بين النقاد والدارسين محتدم بشأن هوية القصة القصيرة وذلك ايجابي في حد ذاته ، فلا يوجد مطلق في الواقع ، بل افكار تتصارع لتبلغ الحقيقة المستحيلة . والقصة عموما والقصة القصيرة خاصة كما لاحظنا ظهرت في كنف المعابد وبين الكهنة ، وقصص القرآن الكريم والكتاب المقدس ، والحواديت والاساطير الفلكلورية المستمدة من التراث ، وقصص الف ليلة وليلة وتأثيرها السحري المذهل على العقول المتعطشة للخيال .
تاريخ القصة القصيرة العالمية
ومن الطريف ان نذكر ان القصة القصيرة الحديثة المتطورة بتقنياتها واساليب سردها وفكرتها ظهرت في وقت واحد وفي بلدين متباعدين ، البلد الأول الولايات المتحدة الأمريكية حيث بدأ الكاتب والناقد الأمريكي ادجار الن بو (1809-1840) كتابة قصصه القصيرة ونشرها ، وكان ذلك في نفس التوقيت الذي بدأ فيه الكاتب الروسي نيقولاي فاسيليفتش جوجول ( 1809-1852) نشر قصصه القصيرة . ويتباهى الكاتب الروسي مكسيم جوركي بمواطنه جوجول حيث يقول " جميعنا (يقصد كتاب القصة القصيرة ) خرج من معطف جوجول في اشارة إلى قصة جوجول القصيرة والأشهر في العالم وعنوانها " المعطف " . ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل خرج علينا الكاتب والصحفي والناشر البريطاني هولبروك جاكسان (1874-1948) بعد ان نشر الاديب الفرنسي جي دي موباسان (1850-1893) قصصه القصيرة ليقول " ان القصة القصيرة هي موباسان ، وموباسان هو القصة القصيرة " . وعلى أي حال تبق الريادة في كتابة القصة القصيرة وفق تقنياتها الحداثية لدى الكتاب الغربيين سواء جاءت من معطف جوجول أو من بين يدي موباسان . والعمل الابداعي متفاعل بطبعه مع السياق والواقع الاجتماعي المحيط ،
عوامل انتشار القصة القصيرة
يتميز العصر الحالي بالسرعة والتطور اللا محدود حتى الآن في وسائل الاتصال بالجماهير وبين الجماهير وبعضها البعض ، وظهرت وسائط اعلامية مدهشة وقادرة على وضع الشخص في الصورة في أي زمان ومكان . عصر يصفونه بانه جعل العالم أشبه بغرفة صغيرة من دون مبالغة . وظهرت مئات الصحف والمجلات وهي تحتاج في ذات الوقت لمئات القصص ، وبحكم الحيز المتاح والناحية الاقتصادية يفضل ان تكون القصة قصيرة جدا . كما ان الناس الذين سيطرت على حياتهم السرعة في كل شيء حتى فيما يختارونه للقراءة وجدوا ضالتهم في القصة القصيرة لأنها تلائم روح العصر بكل تناقضاته واشكالاته المختلفة . والقصة القصيرة بحكم طبيعتها لا تزدهر مع حياة الخمول والكسل بقدر ما تزدهر مع حياة المعاناة حيث تتخذ من الومضة النفسية أو الحضارية للمجتمع والإنسان محورا للاهتمام والمعالجة .
ويبق جل اهتمامها دائما وابدا بالإنسان البسيط ، المهمش ، وبالطبقات المسحوقة بصفة عامة . وحيثما تزداد المعاناة تجد القصة القصيرة وكتابها .
فنيات القصة القصيرة
يذكر عز الدين اسماعيل ان القصة القصيرة بشروطها الفنية المعروفة تعتبر فن حداثي جديد حيث لم تظهر بصورتها تلك سوى منذ قرن تقريبا ، وربما اصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجا . وباتت القصة القصيرة لا تعتمد الشروط التقليدية للحكي من مقدمة ، وعقدة وحل العقدة أو لحظة التنوير ، وكذلك العناصر التقليدية من شخصية ، وحدث وبيئة ، وزمان ، ومكان . لم يعد كل ذلك يشغل ذهن كتاب القصة الحديثة بقدر ما ينشغلون بالولوج في مغامرة تجريبية ربما واضحة الهدف ويسعون لالتقاط المعنى من براثن الواقع الغامض او المشاعر المزيفة أو حتى لحظات الانفعال الضيقة ، ويسيرون في طريق مفعم بالأسرار والمطبات بلوغا للهدف والوصول لكلمة النهاية . والقصة هنا تنبع من ذات القاص ، فيتحملها عند كتابتها ومعايشتها حتى تتمكن من تقرير مصيرها بنفسها فنيا . ويشترط توافر الصدق الفني إلى جانب جاذبية الاسلوب او طريقة السرد وقدرته على تفجير الاسئلة في ضمير المتلقي .
ومع ذلك لا نستطيع التقرير بوجود شروط ملزمة لكاتب القصة القصيرة الحديثة . وذلك لآن اية شروط سوف تكون قابلة للنقض ، مثل غيرها من الشروط العامة التي تخضع حين تنفيذها لظروف مختلفة عن تلك التي كانت حين فرضها وهذه الشروط قابلة للتجاوز وفق درجة وعي المبدع . ذلك الوعي الذي لا يتيح للمتلقي فرصة الوقوف والسؤال عن لماذا تم تجاوز هذا الشرط أو ذاك . حيث يحسب للمتلقي انه بصدد عمل ابداعي متكامل ، تم تشكيله وفق رؤية جديدة ، ومتطورة ولا يملك المتلقي حيالها سوى الاعجاب .
ويقوم عالم القصة القصيرة على محاكاة نسيج الحياة اليومية القريبة من جو الأسرة مع اعلاء خاص لقيم أو عناصر الزمان والمكان واهتمام أكبر بالشخصية وابعادها الأكثر عمقا . وهناك عدة اشكال أو انماط للقصة القصيرة نوجز عرضها على النحو التالي :
اشكال القصة القصيرة
اولا: النمط التسجيلي : قصص مألوفة الاطار لكن بإضافات ابداعية جديدة تضمن للكاتب الحرية والوجدانية .
ثانيا: النمط السيكولوجي : قصص تصل إلى المستوى النفسي للإنسان وتصور افكار الإنسان الداخلية ، وتتحدث دائما عن اشياء خفية في النفس البشرية .
ثالثا: النمط الميتوبولوجي : في هذا السياق يمزج الكاتب بين الاساطير والزمن المعاصر دون التأثر بما شكلته لنا الاساطير من سحر وجمال ، ودون التقيد بزمان ومكان الاسطورة .
رابعا: نمط الفانتازيا : الكتابة في سياق هذا النمط تعد ثورة على الاساليب التقليدية ، وخروج عن المألوف ، وهو اسلوب ثوري في العموم ، له طابع التمرد ، ويتميز بالغربة والضياع . وكاتب هذه النوعية من القصص يرفض التقليد أو الرضوخ للواقع .
وتتميز القصة القصيرة بصفة عامة بوحدة الحدث والغرض والموقف ، ووحدة الانطباع . كما تتميز أيضا بالتركيز في كل شيء . وعنصر التركيز مقوما اساسيا لفن القصة القصيرة حيث انها تتلقى مردود تأثيرها في نفس اللحظة ، لذا لابد ان تكون مركزة ومكثفة جدا . وفي السياق التالي نعرض لنماذج من القصة القصيرة المصرية لأدباء شبان معاصرين ومن خلالهم يمكننا الاطلاع على مسار الابداع المصري الحالي في فن القصة القصيرة حاليا .
نماذج من القصة القصيرة المصرية المعاصرة
مجموعة " أما بعد " للكاتبة ريهام حسني
الدكتورة ريهام حسني باحثة شابة في علوم الترجمة ، وتقدم نفسها في هذا السياق باعتبارها قاصة تلج عالم الحكي على طريقتها الخاصة بعد ان خلعت عن نفسها عباءتها الاكاديمية ، والنقدية ، واطلقت العنان لروحها الحرة للتجول في عالم التجريب في فن القصة القصيرة تارة ، وفي السباحة داخل مشاعرها الذاتية تارة أخرى محاولة الامساك بلحظات الحياة والموت ، الخير والشر ، والسعادة والتعاسة دون ان تدري انها ربما تقترب من عوالم حكمة الحكي والشعر معا وتحقق بهما ومعهما هارمونية مدهشة سواء داخل سطور حكيها ، او بين هذه السطور . ومجموعتها القصصية " أما بعد " التي تعتبر باكورة ابداعاتها في مجال الحكي القصصي القصير تسترعي الاهتمام والدهشة ، وهي مكونة من ستة عشر قصة ، وستة عشر عنوانا ليس من بينهم قصة تحمل عنوان المجموعة القصصية " اما بعد " وذلك عكس الدارج والمألوف بين الكتاب حيث اعتادوا تقليديا على انتقاء عنوانا للمجموعة القصصية من بين عناوين احدى القصص المفضلة لديهم في المجموعة من وجهة نظرهم ، أو أحد العناوين الشيقة أو الجذابة المثيرة للانتباه . وكأن الكاتبة تريد ان تخبرنا منذ بداية حكيها انها تلج طريقا يخصها ، كما انها تدق ناقوس الانتباه والاهتمام لما سيرد مما سوف تقوله لشدة اهميته ، وانها سوف تدخل في الموضوع مباشرة من دون مقدمات ، أو لف ودوران . وكأن الكاتبة في هذا السياق أيضا تتقمص شخصية سحبان بن زفر بن اياس الوائلي الذي عاصر النبي صلي الله عليه وسلم ولم يجتمع به ، ومات سنة اربع وخمسين للهجرة ، وكان اخطب العرب ، لا تعوزه الكلمة ، ولا يستعصى على لسانه الحرف ، واذا خطب تصبب عرقا ، ولم يتوقف ولم يقعد حتى يتم خطبته . وقال له معاوية رضي الله عنه انت اخطب العرب ، قال سحبان والعجم والانس والجن . وجعل سحبان الوائلي كلمة " أما بعد " علامة فخرة وأمارة سبقه يقول " وقد علم الحي اليمانون انني .. اذا قيل " اما بعد " اني خطيبها . وقيل ان اول من قال " أما بعد " كعب بن لؤي في الجاهلية ، وقيل بل قيس بن ساعده الايادي . وقيل أيضا ان اول من قالها النبي داود عليه السلام وفسروا قوله تعإلى " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" بان فصل الخطاب هي " أما بعد " ، وقد نقله الطبري عن الشعبي ولم يرجحه . وخلاصة القول ان الكاتبة على ما يبدو تدرك ما الذي تفعله ، وتضع عنوانا لمجموعتها لا يعكس وجهة نظر قصتها المفضلة مثلا مثلما يفعل الآخرون بقدر ما يعكس وجهة نظرها فيما سوف تخبرنا به لاحقا في حكيها القادم حيث تريد ان تبلغنا ان ما سوف تقوله هو القول الفصل ، وهو القول الذي عكسته لوحاتها المكتوبة على مدى ستة عشر لوحة ، وبدى من الواضح في معظمها لغة الشعر ، أو روح الشعر ، أو رغبة الحكي بالشعر ، وكأن الشاعرة في باكورة اعمالها تسعي للتمرد السافر على لغة القص السردية التقليدية ، وتلج في عوالم التجريب سعيا وراء ادراك منظومة جديدة تناسب ما يعتمل داخلها من ثورة ، وطموح ، ورغبة في ابداع شكل اصيل يعكس خصوصية ذاتها ، ويعلن للناس تفردها الابداعي والنفسي . والقصة المفتتح للمجموعة القصصية " لوحة على جدار الوجه " تعكس تقريبا كل ما ذكرناه . من غلبة الحكي بلغة الشعر ، وتبدو القاصة /الشاعرة كأنها متورطة في كيفية تصريف شحنة انفعالاتها المتأججة ، فاختلقت المشهد ، او ربما يكون المشهد هو الذي اقتحمها بصورته السريالية المتمردة على لغة المنطق والعقل ، وعلى الواقع الإنساني الرديء الذي تسيطر عليه لغة الدم والقتل والحروب الشاملة . تقول الشاعرة
كان حلما إذن !!
ويكبر الحلم ويتسع باتساع الكون ...
يتلون بكل الألوان ، ويحتل صفحة السماء...
- ما أجمل أن ترسمن فرشاتك!!
هنا يتضح المشهد امامها بالتأكيد على انه حلم يكبر ويتسع ويتلون ويصبح هو السماء . والحلم تحقيق رغبة ، ورغبة القاصة /الشاعرة ان تتوحد مع هذا الكون " الملون" ، داخل لوحته التي يرسمها الفنان لتصبح كخارطة الوطن
تعبث بملامحي ... تغير خارطتي لتصبح كخارطة هذا الوطن
لكن الوجع السياسي ، والاضطراب يظلل اللوحة لتصبح مثل خارطة الوطن مفعمة بالبؤس والشقاء .حتى نحسب اننا اصبحنا وطنا من دون ظل ، مجرد جسد يتلحف الهواء ويتدثر بالوان صفحة بيضاء
جميل أن تظلني ألوانك بعد ما تعريت تحت سماء وطني ...
وطني الذي فقد ظله !!
وطن بلا ظل ... جسد يلتحف الهواء ... جسد يتدثر بألوان صفحة بيضاء
وكأن صوت القاصة/الشاعرة يرتفع محتجا ، نابضا بالحيوية ، والثقة على الرغم من مشاعر الامتنان لمجرد التواجد على جدارية في سماء الوطن البائس وتشرح له عن رغباتها وطلباتها بمنتهى البساطة ، تحدثه عن ذاتها اللانهائية ، مشاعرها وانفعالاتها وعواطفها ، مظهر وجهها الكريه . تقول
سترسمن إذن ؟
فلا تنسَ فرشاتك أبعادي اللانهائية ...
جروحي الغائرة ... ندوب وجهي الكريهة...
أريدها صورة كلية ...
من بداياتي إلى نهاياتي . . من سمائي إلى أرضي...
أريدها صورة سريالية . .
دادية . .
وفي هذا السياق نستشعر مدى تأثر القاصة بالثقافة الأجنبية (شعرا ونثرا) ومخزونها المتراكم داخل وعيها ربما بفعل التخصص ، فتذكر رسامها بان لا ينسى ملامحها ولا احزانها ولا التشوهات التي لحقت بصورتها لأنها تريد صورة كلية تعكس مرارة ما يعانيه وطنها من عبثية وغياب المنطق والعقل ، انها لوحتها الان ، اللوحة السريالية أو الدادية . وفي قصيدتها ، اقصد قصتها القصيرة التالية " لا معقولة في زمن اللا معقول " تعزف الكاتبة على نفس وتر الوجع والانشغال بمحنة الوطن ، لكنه عزف بالريشة أيضا يكشف ولع الكاتبة بفن الرسم واللوحات التشكيلية ، تقول
" عيناي نهران نبتا من ويل السنين ... يرويان صحراء الوطن ، فينبت الصبار .
شفتاي غيمتان بلون الشفق عندما يتلون بدم الشهداء .
تتلوان ترنيمة حزن على قتلانا ...
ينفثان سموم الكوبرا في وجه المارينز" .
وهنا يبدو ان الشاعرة تعيش نفس الحالة الشعورية السابقة من الوجد والتوحد والانشغال بمحنة الوطن ، وحينما تقصد الكاتبة التعبير باللفظ عن حالتها الشعورية المتفاعلة بقوة مع محنة وطنها (النهر ، الصحراء ، الشهداء ، وترانيم الحزن على القتلى ) في صياغة قصصية يدهمها شعور جارف بالتوحد والوجد لا يمكنها السيطرة عليه ، وتجد نفسها وفد انجرفت في بحر القصيدة من دون استئذان وتستمر في مخاطبة رسامها الفنان مناشدة اياه ان يصنع منها " اسطورة جدارية" على حدود العقل ! تقول
ارسمن إذن
في نوبة جنون ... في لحظة عشق ...
ألوانك يا فنان جروحى النازفة
دموعي الغارقة في صفحتك البيضاء
كم من الوقت استغرقته فى استحضار معالمي ؟
رسمتن من خيالك ؟
لا تمتلك لي صورة ؟
هل كنت مطبوعة كجدارية على حدود العقل ؟
هنا نلمح تدفقا في المشاعر من دون حساب ، وانسيابية سلسة في الخيال حينما تستعرض اشكال التحولات التي ترتضيها ... تقول
ارسمن أُمًّا طيبة ، تُطعم أولادها خير بلادي ...
ارسمن شيخًا بمسبحة ، قائما يؤدي الصلوات ...
ارسمن طفلا يحبو على الثرى الطاهر ...
يشتم رائحة الطين ، ينتشي ، فيلعقه في لذة واستمتاع
ارسمن قلبًا كبيرًا كبر الأرض والسماوات
ارسمن شاعرًا ينتحر احتجاجا ...
ارسمن كلمة كتلك التى يقتلونها فى أقلامها
تلملم فرشاتك أطرافي المبعثرة على حدود صفحتك
تأبى جروحي أن تتدثر بألوانك
وعلى الرغم من تقليدية الصورة مقارنة بالصور السابقة وبمتن النص بصفة عامة فان صداها يبدو جيدا على الرغم من الصوت المرتفع والترتيب الروتيني المعقول في قصيدة " اللامعقول في زمن اللامعقول" . ونلاحظ تواتر نفس الاصوات بنفس الحماسة بنفس الصور التقليدية كما السابق تقول الكاتبة مخاطبة الفنان في داخلها مقترحة عليه الشكل المثالي والشامل للوحة المطلوبة على طريقة القص واللصق تقول
أيها الفنان :
لا تنسَ . .
أريدها لوحة كولاجية ...
شرقها معاركي . . غربها انتكاساتي . . . جنوبها شهدائي . . شمالها ثوراتي...
وبوجع العمر الصق محتوياتي على صفحتك البيضاء
وبوتر القلب الموجوع شُدَّ الإطارات من حولي . .
لملمني
احصرني داخل حدود صفحتك
ولتُقَبِّلَنَّ فرشاتك
قبلتها الأخيرة ...
وتخوض الكاتبة تجربة قصصية أخرى لا تقل أهمية عن الاولى ويتجلى ذلك في عدة نصوص منها نص " هذه الدائرة " حيث ينقسم النص إلى " مفتتح " وتسود فيه لغة الشعر ، والقسم الآخر " المتن " ويعكس نوع من الحكي غير تقليدي على الرغم من تقليدية الحكاية في حد ذاتها ، الانثى المتباهية المحلقة في سماوات الشعر والفن والرقة والتي وقعت في براثن رجل خدعها باسم الشعر والفن والرقة ، وفي الحقيقة كان يبحث في ذرات وخلجات جسدها الانثوي الفائر . قصة التوقعات الجميلة حينما تتهاوى مع الايام لتنقلب إلى كوابيس ومحن ، ويظل السؤال الابدي المحير بخصوص ذلك الثقب الضيق الذي يرى من خلاله الرجل الانثى ، وتلك الدائرة المغلقة في عقل الرجل بخصوص الانثى حيث لا يرى فيها سوى جسد جميل بعيدا عن العقل والشعر والفن . والتجربة في حد ذاتها جيدة على الرغم من اعتقادي ان تقسيم النص إلى مفتتح ومتن لم يضيف للعمل بعدا اعمق من الذي قصدته الكاتبة . لكن مسألة المزج بين النص الشعري والحكي التقليدي تظل تجربة مثيرة للاهتمام تحسب بالتأكيد للكاتبة.
ويتواصل سعي الكاتبة نحو كتابة النص عن طريق لغة سردية تقليدية نوعا ما لكن بروح ونبضات حيوية مختلفة تؤكد على تفرد الكاتبة فيما يخص حالتها الشعورية من جانب ، وعلى درجة سيطرتها على ادواتها سواء بالنسبة للغة السرد ، او الصور التي تمكنت من تشكيلها ببراعة على شاكلة اللوحات التشكيلية في فن الرسم من جانب آخر ، ونختار نموذجين لقصتين مهمتين في المجموعة ، القصة الأولى : بعنوان لحن لم يكتمل حيث تعزف الكاتبة ببراعة أخاذة لحنا غريبا ندخل به إلى عالم الاغتراب الموحش داخل القصر الكبير ، وكيف قاوم صاحبنا هذه المشاعر وهذا العالم حتى استقر في نهاية المطاف في بيته الجديد الذي صنعه من الواح الاخشاب داخل حديقة القصر واستقر أيضا مع صديقه الجديد العصفور وقد ضربا موعدا مع الحياة الحرة الجديدة الخالية من الروتين الباهت والاشخاص التماثيل الذين بهم تجمدت الحياة ، واصبح الواقع مرا اليما . لكن الجميع في القصر يستيقظ فجأة على اصوات ارتطام وشاهدوا اشلاء القبو وربما اصحابه .. وكأن الكاتبة تقول ان لا مفر من الاغتراب وما من سبيل لعلاجه على اي حال . وفي القصة الثانية : يا طالع الشجرة تعزف القاصة لحنا مكونا من عدة مستويات للحكي يشرح بسلاسة وتناغم مع التيمة الفلكلورية " يا طالع الشجرة هات لي معاك بقرة " قصة كفاح المرأة المصرية وتمثلها هنا الفتاة الصغيرة المراهقة التي ندرت نفسها لتحمل مسئولية العائلة ومواجهة ظروف الحياة القاسية من اجل اعالة ابوها وامها واخوانها . وكيف تحدت والدها وتحملت غضبه وسخريته وضربه لها من اجل احضار البقرة التي اعلنوا في الجمعية الخيرية عن تسليمها للفقراء في القرية .. انها قصة كفاح المرأة المصرية عبر تاريخها قررت الكاتبة اخراجها في صورة هذا النص السلس الفلكلوري البسيط . واستخدمت الكاتبة كما وضحنا عدة مستويات من الكتابة والتعبير لتعكس فكرتها ما بين الرمز ، والتعبير ، والواقعية ، ثم الرومانسية وكان هناك تداخلا وتمازجا جيدا في الادوات المستخدمة في التعبير او اللغة السردية يحسب ببراعة للكاتبة .
وبصفة عامة يتميز عالم الكاتبة القصصي حتى هذه اللحظة بحالة من عدم الاستقرار في البحث عن اسلوب تعبيري يمكن على اساسه تحديد ملامح اساسية لنظام الكتابة لديها . فما تزال تبحث في تجربة المزيد من الاساليب التي تناسب حالتها الشعورية الخاصة ، ويظل الخيط الرفيع بين ما هو شعر وما هو نص قصصي سردي غائما في حالتها الشعورية ، وما يزال انشغالها بالجديد يحتل جزءا كبيرا من خارطة التفكير لديها . وتبدو الكاتبة متأثرة بقوة بالثقافة الغربية ويظهر ذلك في الافراط نوعا ما في استخدام لغة " التناص " ، وفي التفكير احيانا بلغة " الخواجات " ، لكن هذا ليس عيبا على اي حال بالنسبة لكاتبة جادة مشغولة طول الوقت بإنتاج ابداعي جديد واصيل . أيضا تظهر براعة الكاتبة في امتلاك ادوات السرد اللغوية لديها وتوظيفها بحنكة جيدة ، وتحاول تجنب المباشرة الفجة السطحية لحساب العمق واخفاء بعض من جوانب الصورة الأمر الذي يحفز القارئ على البحث عن الجزء الناقص في الصورة وهي لحظة تفاعلية مع النص تحسب للكاتبة ولنصها .
ثانيا: مجموعة نعيم الاسيوطي " الحاوي "
والنموذج الثاني يخص الكاتب نعيم الاسيوطي ومجموعته القصصية القصيرة جدا " الحاوي " عن دار الاسلام للطباعة والنشر ، وتشتمل على عدد (92) قصة قصيرة جدا يتراوح عدد اسطر القصة منها ما بين سطرين اثنين فقط حتى عشرين سطرا بالتمام . ويمكن توزيع النسب المئوية لعدد الاسطر في كل قصة مقارنة بعدد قصص المجموعة على النحو التالي
عدد قصة قصيرة ذات سطرين فقط (9) بنسة ( 9.78%) .
عدد قصة قصيرة ذات ثلاثة اسطر فقط (19) بنسبة ( 20.65%) .
عدد قصة قصيرة أكثر من ثلاثة اسطر حتى اقل من سبعة عشر سطرا (63) بنسبة (68.47%) .
عدد قصة قصيرة يتراوح عدد سطورها من سبعة عشر سطرا حتى عشرين سطرا (3 فقط) بنسبة (3.26%) .
والقراءة المتعجلة للنسب الاحصائية تكشف عن ان غالبية قصص المجموعة (أكثر من 68%) يتراوح عدد اسطرها بين ثلاثة وحتى اقل من سبعة عشر ، أي بمتوسط عشرة اسطر للقصة الواحدة . وان الطرفين الممثلان للقصة القصيرة جدا ذات السطرين اثنين فقط ، والقصة القصيرة جدا ذات السبعة عشر سطرا فأكثر تتراوح نسبتهما على الترتيب من 9.78%-3.26 الأمر الذي قد يشير من حيث الشكل إلى وجود توجه نوعي لدى الكاتب نحو الاقتصاد الشديد في لغة الحكي بصفة عامة ابتداء ، وغلبة نمط القصة القصيرة جدا لديه بمتوسط العشرة سطور لا أكثر . وفي هذا مسايرة للاتجاهات الحديثة وموجاتها التجريبية التي تتوالي محدثة ثورة (بدون مبالغة) في شكل القصة القصيرة الجديد ومضمونها ، ويتمثل ذلك فيما اصطلح على تسميته " بالقصة القصيرة جدا بحسب وصف الكاتب على غلاف المجموعة ، أو ما اصطلح على تسميته بالقصة الومضة ، وسوف نشرح لاحقا التطور في مضمون القصة القصيرة الحديثة خاصة عند الكاتب نعيم الاسيوطي . لكننا نقرر ابتداء هنا ان هناك اختلافا كبيرا في تسمية هذا النوع من الحكي ، وخرجت مسميات كثيرة تحاول وصف هذه النوعية من النصوص على شاكلة القصة الجديدة ، القصة الحديثة ، القصة اللحظة ، القصة البرقية ، القصة الذرية ، القصة الومضة ، القصة القصيرة ا لقصيرة ، القصة الشعرية ، الاقصوصة ، القصة الكبسولة ، مقطوعات قصصية ، بروتريهات ، اللوحة القصصية ، و مسميات أخرى غيرها كثير بعدد النقاد والاكاديميين التي اهتموا برصد هذا النوع من النصوص تقريبا ، واستقر الأمر اخيرا إلى مسمى القصة القصيرة جدا ، أو القصة الومضة ويمكن وصفها باعتبارها نوع من الحكي ينزع إلى اللغة الشعرية ، وتنهض على العلاقة المتوترة دلاليا بين المفردات ، واعتمادها لغة رشيقة يجعلها تحتكم إلى الكلمة المشعة والشفافة لا الجملة ، وتقوم القصة القصيرة جدا على اربعة مقومات رئيسية وهي:
Hولا: التكثيف والتركيز ، بمعنى الاقتصاد في الكلمات والاكتفاء بالقليل منها مما يفي بالغرض ، والقصة القصيرة جدا لا تخضع للبناء الارسطي ، فهي بدون بداية ، وتركز على النهاية ، وتشبه الرصاصة التي ينحصر هدفها في اصابة الهدف بكل طاقتها الانفجارية ، وعادة تكون خالية من الحشو الوصفي والاستطرادات ، اضافة إلى تركيزها على خط قصصي هام يتمثل في النقاط التي توصل إلى الموقف . وفي القصة القصيرة جدا تعتمد الكتابة على فن الحذف بعكس القصة التقليدية التي تعتمد على فن الاضافة . وفنيات تكثيف اللغة في القصة القصيرة جدا تعتمد على الآتي : استخدام افعال الحركة ، والتقليل من استخدام افعال الوصل والافعال الناقصة . تجنب استعمال الصفات او الظروف الا ما كان ضروريا لتطوير الحدث ، أو بناء الشخصية . الاعتماد على الجمل القصيرة والتقليل من استخدام حروف الربط . واخيرا استخدام الحوار بدلا من السرد .
ثانيا : الايحاء بمعنى تشبع الكتابة بالإيحاءات والدلالات ، والتلميحات بعيدا عن المباشرة والافتعال .
ثالثا: المفارقة ، طريقة في الأداء الفني تقوم على ابراز التناقض بين طرفين كان من المفروض ان يكونا متفقين . وهي صيغة بلاغية تعني قول المروء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وتأكيد الذم بما يشبه المدح ، ويمكن ان تحمل ابعاد التقابل أو التضاد ، الرفض أو القبول ، الواقعي وغير الواقعي ، وهي تقنية تبعث على الاثارة والتشويق .
رابعا : الخاتمة المدهشة ، وتمثل الغاية والهدف وليست وليدة السرد ، او احدى مفرزاته ، كما انها ليست معنية بالمضمون الذي من الممكن ان يفرض خاتمة ما ، والخاتمة تعد الحامل الأقوى لعناصر القصة القصيرة جدا. حيث تعد قفزة من داخل النص المتحفز إلى خارجه الاندهاشي ، الاستفزازي . والقصة القصيرة جدا لا يهمها الانشغال بالحدث والأحداث بقدر ما يهمها ان تؤدي غرضها الفني في ان تبرق وتشع داخل النص القصصي ابتداء ، ثم داخل وجدان المتلقي .
ويلخص الامر كله الناقد المغربي القدير محمد رمصيص في قوله ان قصر طول هذا الجنس ليس خاصية كمية بقدر ما هو خاصية جمالية بمعنى ان اعتماده على التكثيف والحذف يجعله يترك وحدة الانطباع من جهة ، كما ان قصره يعوض بامتدادات المعنى وتداعيات الدلالة من خلال جعل القارئ في قلب تشكيل دلالة النص ، وملئ فراغه ، وبياضه ، الآمر الذي يستدعي من القاص المتميز انتقاء اللحظة القصصية واعتماد النهاية غير المتوقعة ، والمفاجئة ، وبالتالي نهجة لكتابة مجازية تحيل ولا تصرح ، ترمز ولا تقرر. والنظرة الاجمالية على مجموعة الحاوي للكاتب نعيم الاسيوطي تشي بحدوث توحد مع زملة القواعد الاساسية والفرعية لما اصطلح على تسميته بالقصة القصيرة جدا ، ونجح الكاتب على ما يبدو في طرح وجهة نظره بهذه الطريقة الشيقة الجديدة المبدعة ، وكانت برقياته ، او رسائله التلغرافية ،أو قصصه القصيرة جدا وسيلة ، أو متنفسا لآن يعلن عن وجوده في هذا العالم .
يقول الكاتب في قصة " حب" . " يوما ما احببت فيها نعومة الجسد ، الصوت : استقوت وتمنعت ، كسرتني الشهوة : استسلمت : استيقظت لعنتها وفقدت عقلي " .
هذه القصة المكونة من خمسة اسطر فقط تتميز كما ذكرنا بالتكثيف والتركيز ، والايحاءات ، ومفارقة في نهاية الأمر . وهنا فنحن بصدد علاقة حب أو عشق من قبل الراوي لأنثى كاملة الاوصاف ، لكنها جامحة ، غير مروضة ، ولم يستطيع فعل ذلك فاستسلم لجموحها ، حتى فقد عقله . كأن الكاتب يذكرنا بعدم جدوى عشق الجسد الجميل ، لأنه في النهاية سوف يفضي إلى الاستسلام وفقدان العقل ، وهذا احد مستويات التفسير ، لكن هناك مستويات أخرى من المؤكد سوف تظهر لدى آخرين من يقرأون النص ، ويتوصلون من خلاله لدلالات وايحاءات أخرى ربما تكون أكثر عمقا . وفي قصة " زنزانة " تتجلى قدرة الكاتب على التعامل مع اللغة والفكرة بطريقة مدهشة ، واستطاع بتمكن ان يمزج بين الغوص في اعماق الواقع سواء كان بشري أو حيواني ، وبين الحكمة المستخلصة يقول " يحرس الذئب الغنم ، يشرب لبنهم : يفتنهم بالنهار ، ويأكل لحومهم بالليل : بنوا له زنزانة ،فتفرقت بهم السبل . والكاتب " الحكيم " ينبئنا اننا نتجمع ، ونكون معا في لحظات الخطر ومواجهة العدو ، لكننا نتفرق ونضيع حينما نستشعر الأمان . هذا احد مستويات التفسير ، وهناك مستوى آخر ربما يوحي به الكاتب وهو ان وجودنا في كنف حاكم لص وفاسد وقوي خير من غيابه ، لان في غياب الحاكم حتى لو كان ظالما وفاسدا تتفرق السبل وتعم الفوضى وينتشر الخراب . وربما كان في هذا الامر إسقاطا على فترة زمنية عاصرها الكاتب والمجتمع عقب ثورة 25 يناير المصرية . ومع احترامي لحكمة الكاتب لكنها مفعمة بالتشاؤم ، وبث روح اليأس وعدم الجدوى في المجتمع . وفي قصة " وسام " تتجلي قدرة الكاتب على الاختزال والتكثيف والايحاء والغموض ، واصابة الهدف أيضا . وينكأ جرحا غائرا في جبين الكتاب والمبدعين والمثقفين عموما وهو موضوع جوائز الدولة ، يقول " يؤدي دوره بإتقان : تتغير الاضاءة إلى اللون الأحمر . يتقمص دور الشيطان : يختبئ الابعد والأقرب ، يمشي في الأرض مرحا . ينتهك الاعراض : يقلدوه وسام الضاد . الافاقين والمحتالين والمتزلفين والمنافقين ومنتهكي الاعراض هم من يتصدرون المشهد دائما ، وهم من يحصدون جوائز الدولة في الابداع والكتابة دائما . هكذا يصرح الكاتب في مواربة وتحايل وابداع أيضا . ويوضع في الاعتبار ان تفاصيل القصة يمكن ان تنطبق على جميع الشخصيات التي تتصف بالصفات الذي ذكرناها آنفا غير ان جملة " يقلدوه وسام الضاد" في نهاية القصة كشفت عن غرضه والمستهدف الخاص (وليس العام ) من القصة وهم فئة المبدعين والمثقفين ، وهذا في حد ذاته ابداعا واعيا . وقصة " الحاوي " احدى قصص المجموعة الاطول مقارنة بغالبية قصص المجموعة ، وتتكون من سبعة عشر سطرا ، وهو نص عبثي شديد التكيف ، والغموض ، يلعب على تيمة الحاوي وجرابه الممتلئ بكل شيء ، ثعابين وعقارب وصراصير ، واضداد الاصل والظل ، العقل والقلب ، والروح والجسد ، والكسوف والخسوف . انه دنيا الواقع المتردي المهترئ ، الباعث على الخوف والغثيان . لكن حينما ينفجر الجراب ، يتبعثر كل شيء ، وتظهر سيدة قديمة موجوعة تحمل قربة مياه وتنادي على الفلاحين والحدادين والنجارين وجميع البشر ابناء حواء وآدم ان يكتبون وثيقة للمستقبل تجمعهم وتصالحهم . وفجأة نجد الحاوي القديم يستيقظ من فراشه على صوت المغني القديم يقول " يا بهية خبريني ع اللي قتل ياسين " . انها بحق لوحة عبثية تحمل في سياقها دعوة للسلام والوحدة والتعاون العالمي ، وهي دعوة نبيلة لكن في توقيت عبثي للغاية يعاني فيه العالم من ويلات الحروب والارهاب ، ومخططات خطف موارد الدول الصغيرة وتقسيمها لحساب الامبراطوريات الكبيرة القوية ، والدليل ان الحاوي استيقظ على جرائم القتل البشعة المنتشرة حواليه . واحسب ان الكاتب ابدع في رسم صورته العبثية عن جدارة ابداعية يستحق عليها الاشادة . والنظرة الاجمالية لقصص مجموعة " الحاوي " للكاتب نعيم مسعود تكشف عما يلي
اولا: قدرة الكاتب على امتلاك ادواته خاصة فيما يتعلق بلغة السرد وانتقاء الفاظها الدالة بكفاءة وتوظيفها من اجل اظهار فكرته جلية واضحة على الرغم من التكثيف ، والغموض ، والايحاءات الشديدة ، واصبح بمثابة من يمسك مسدسا ويصوب رصاصته شديدة الانفجار نحو الهدف (الفكرة) ويصيبها ببراعة .
ثانيا: عدم وقوع الكاتب في ورطة التباهي بمقدرته اللفظية على الاختصار والتكثيف في ايصال فكرته وبالتالي عدم سقوطه في فخ الاندفاع في كتابة نصوص مبالغ في غموضها واقتصادها دون البعد القصصي الابداعي مثلما يفعل الكثيرون ممن يكتبون هذه النوعية من النصوص ، واحسب للكاتب حرصه على تسجيل الصور القصصية حتى في النصوص التي احتوت على مجرد سطرين اثنين فقط .
ثالثا: تتميز صور الكاتب بخصوصية في لغته السردية ، وفي افكاره التي تتسم بالجنوح والعبثية وفقدان الثقة في الآخر والسخرية من الواقع الاجتماعي المحيط .
رابعا: نجح الكاتب في العديد من المواضع في سبر اغوار النفس الإنسانية ببراعة ، وفي تشريح واقعه الإنساني الاجتماعي المحيط مستخدما لغة إنسانية شديدة الكثافة ، شديدة الغموض ، وشديدة الوضوح أيضا وهنا يكمن سر ابداع الكاتب ، وسر حيوية النص نفسه
بقى اخيرا ان نقرر ان هذه النوعية من النصوص شديدة الخصوصية والتكثيف والايحاء مغرية بجاذبية فريدة في الوقوع في براثنها ، لكن من الضروري التنبيه على الحاجة الدائمة لنصوص تكتمل وتتوحد فيها عناصر القصة القصيرة مع القصة القصيرة جدا وتكون ذات نفس أطول من نصوص القصة القصيرة جدا ، فما تزال التوقعات بالنسبة للقصة القصيرة في اثراء الحياة الأدبية والواقع الإنساني الثقافي كبيرة بشرط اطالة النفس ولو قليلا ، والتركيز على الافكار الأكثر ابداعا وتشويقا . ومع الاهتمام الموازي بالتجريب في مجال القصة وفي مجالات الابداع الأخرى .
ثالثا: مجموعة منير عتيبة " كسر الحزن "
والنموذج الثالث من الكتابات المصرية في فن القصة القصيرة يخص الكاتب منير عتيبه ومجموعته القصصية القصيرة " كسر الحزن " . وهي الخامسة في دفتر ابداعاته في عالم القصة القصيرة ، اضافة إلى اسهاماته في عالم الرواية الطويلة برواية واحدة ، ودراستين . وكتاباته في مجال ادب الاطفال . ومجموعة كسر الحزن التي نحن بصدد قراءتها تشتمل على (34) عنوانا , والقصص متباينة الطول ، يغلب على معظمها نمط القصة القصيرة جدا على النحو الذي ذكرناه انفا في مجموعة الكاتب نعيم الاسيوطي . والسمة المميزة لقصص مجموعة كسر الحزن كما تعكسها افكار الكاتب ، وصوره وخيالاته هي الاستغراق في مشاعر خيبة الأمل والمرارة التي تفيض داخل شخوصه ، وفي جنبات الأماكن والازمنة التي يلجها ابطاله في سعيهم المحموم نحو الاتصال بواقع لا يكون في الغالب لهم مكان او دور فيه . وقصة المفتتح للمجموعة " الرحلة الأخيرة " ومفارقاتها المتعلقة بتباين المصالح عكست أزمة عم حسن صاحب المعدية حيث ينقل عمال مصنع الغزل ، والطلبة والطالبات ، والفلاحين ، والتجار ، وبائعات الجبن والسمن الفلاحي، والارز والجرجير والبيض والطيور ، والبهائم والحمير في يوم السوق إلى الشاطئ الآخر من ترعة المحمودية . هذا هو عالم عم حسن المتخم بالأحداث ، والناس والحواديت ، شريان حياته الآن . لكن لا احد يدرك ذلك أو يفهمه من اولئك البشر الاغبياء . يقول الكاتب على لسان احد عمال الغزل الذين تنقلهم المعدية للمرة الأخيرة بعد ان فرغ العمال من بناء الكوبري ، واصبح الاستغناء عن حسن ومعديته أمر حتمي ، وكان حسن شاردا بذهنه إلى بعيد " – اين سرحت يا عم حسن ؟
* هيا .. جدف .. نريد أن نصل إلى بيوتنا بسرعة لننام !!
* هل انت متعب يا عم حسن ؟
* جاء الكوبري في الوقت المناسب !!
هذه المفارقة تعكس بجلاء ازمة عم حسن والتي نجح الكاتب في النفاذ داخل مشاعره وعقله فيقول " بدأ يجدف ، كلما غرس المدرة في صفحة المياه أحس بطعنة في القلب ، ونغزه في الصدر ، هل انتهى كل شيء؟ الن يستيقظ ليصلي الفجر وينظف المعدية ليستقبل الطلبة والطالبات والعمال الذاهبين إلى الاسكندرية ؟ هل سيكف عن الصراخ والزعيق والدعاء باللعنة على بائعات الجبن ، والسمن الفلاحي والزبد والجرجير والارز والبيض والبهائم واصحابها الحمير الذين ينقلهم يوم الاحد يوم السوق ؟ أ هذه آخر مرة يسهر فيها منتظرا العائدين آخر الليل ؟ . والمفارقة التي يقصدها الكاتب ليست بين القديم والجديد ، بل بين مشاعر البشر التي انبنت على المصالح . وقد اجاد الكاتب بدرجة ملفتة في ان ينقل للقارئ هذا الأمر بوضوح حيث هناك فارقا بين ان اكون كائن عديم البصر والبصيرة ، متبلد المشاعر والاحاسيس ، لم اتمكن من الانتماء لواقع مكاني او اجتماعي على الرغم من مرور السنوات ، وبين مجرد الانجذاب لواقع جديد ( الكوبري الجديد بديلا عن المعدية) يسهل الحياة وانقضاء المصالح ، ويجعل الواقع افضل . وما حدث ان عم حسن لم يرفض الواقع الجديد ، أو الكوبري ، أو خشى على نفسه من ازمات مادية بسبب بناء الكوبري الجديد ، بل فاض لديه شعور جارف بخيبة الأمل والافتقاد والفقد لعالم المعدية ، وناس المعدية ، وحواديت المعدية التي احتلت كل كيانه لدرجة انه اصبح ينتمي إلى هذا العالم الذي احتل كامل وجدانه وعواطفه . اصبح هذا العالم بمثابة نمط حياته حيث تأسس على مدى عشرات السنين ، ومتنفسه ، بل وشريان حياته الآن . لكن المشكلة ان لا احد يدرك ذلك ، أو يفهمه . كلهم متكالبون على الجديد الذي يحقق لهم مصالحهم بسلاسة ولا يأبهون بهذا العجوز الذب احبهم ، وأتنس بصخبهم وضوضائهم ، وحتى الشجار معهم .يقول الكاتب في اعقاب شعور ركاب المعدية بان عم حسن شارد ويبطئ في الحركة " حاول احدهم ان يأخذ منه المدرة .. شاب قوي .. وليست هذه اول مرة .. كان يتركها له ممتنا .. لكن هذه المرة لا ... شعر الشاب بأصابع عم حسن تتخشب فوق المدرة فلم يصر على اخذها .. واصل عم حسن التجديف ، اقتربت المعدية من الشاطئ الآخر ، اخذ العمال يقفزون ويجرون كالخارجين من السجن أو العائدين من سفر دام لسنوات ، ربط عن حسن سلسلة المعدية في المدق الحديدي ،جلس في المعدية ينظر إلى الكوبري بيأس ، شد آخر انفاس سيجارته ، القى العقب في الماء تجاه الكوبري " . والسؤال المطروح الآن وربما لم يجب عنه الكاتب في نص الرحلة الأخيرة كيف يمكن المواءمة بين جاذبية تقبل جديد مفضي لحياة سلسة سهلة ، وبين أهمية احترام ومراعاة مشاعر وعواطف من ينتمون للواقع القديم الذي تجاوزه الزمن ؟ ان عم حسن نموذج فريد نجح الكاتب في النفاذ إلى خلاياه ليجعلنا نبتأس مثله ، ونجلس على الشاطئ الآخر من ترعة المحمودية ننظر بغضب مثله أيضا تجاه الكوبري الجديد .
ويتواصل العزف على تيمة مشاعر الاحباط وخيبة الامل في قصة " رؤية " ووهدان العجوز الثمانيني الاعزب الذي فشل في غواية سيدة المنزل حيث كان يعمل في زريبته مساء يوم صيفي شديد الحرارة ، فهرب للقاهرة وعمل في كل شيء ، وجمع مالا كثيرا ، وعرف نسوة أكثر ، وتزوج عدة مرات قبل ان يعود لقريته ويشتري الأرض والمنزل والزريبة الخاصة بسيده السابق حسان بك زوج السيدة التي فشل في غوايتها في الماضي وحيث كان يعمل ، ولسوء الحظ تأتي الثورة وتصادر معظم الأرض التي اشتراها ، ولكن يبق المنزل ، وتبق ذكريات الواقعة الشهيرة تؤرقه . يصف الكاتب شعوره بعد ضياع أرضه التي اشتراها توا " لم يهتم ... المهم ان البيت بقى له .. عندما الح عليه السؤال قال باقتضاب .. كنت ابن السابعة عشر عاما ، وكانت (الهانم التي حاول غوايتها) في الخامسة والثلاثين ، كان من المستحيل ان اجد مثلها ، واذا وجدت لم أكن استطيع !! تجاهل اسئلة كثيرة انقضت عليه .. اخذ مكنسة وقام يستند إلى الجدران ليؤدي واجبه اليومي تنظيف القاعة البحرية " .
والكاتب في هذا السياق يشير إلى البعد الطبقي ، والمسافة الاجتماعية الكبيرة بين وهدان عامل الزريبة والهانم زوجة صاحب الاملاك حيث يعمل وهدان ، ووعي العجوز بهذه المسألة ، وكيف كانت سببا في فشله في غوايتها وعجزه الجنسي امامها بهذه الطريقة ، وحينما حاول التحرك إلى طبقة اعلى بالسفر وجمع النقود وشراء الاراضي جاءت الثورة وصادرتها ليعود وهدان العجوز قافلا إلى مكانه في الزريبة وعاداته القديمة في تنظيف القاعة البحرية حيث كان يعمل زمان ايام حسان بك والهانم التي فشل في اعتلاءها . وهكذا يظل الفاشل مطاردا لوهدان وكل من على شاكلته من الفقراء والمساكين الذين يحلمون بالقفز إلى الامام دون جدوى . وفي قصة " عصفور " يجذب الكاتب منير عتيبة انظارنا إلى تفاصيل لعلاقات ومشاعر مختلفة ، فهناك علاقة حميمية من نوع خاص بين الطفل الصغير والعصفور الذي فقد والديه بفضل القبح الإنساني وعدم الشفقة يقول " نزلت قطرات عرق فوق آثار الجرح الصغير الذي تسبب فيه الولد عفان عندما اصطاد العصفور الأب بنبلته ، فتعاركت معه وحصلت على العصفور بالقوة ، وحفرت له قبرا بجوار الشجرة ، لم تمر عدة ايام حتى سقطت العصفورة الام من عشها ميتة بجوار القبر الذي كانت تتأمله طوال الوقت فحفرت ودفنتها مع زوجها في نفس القبر ... واصبحت وعصفوري وحيدين " . وهناك أيضا مجزرة بيئية وتفاصيل لمعركة خاصة بين سائق البلدوزر والشجرة العتيقة في الحديقة (حيث يعيش العصفور حبيب الطفل) يريد اقتلاعها بالقوة بعد ان اتخذ قرار بتحويل الحديقة إلى مصنعا للأدوات الصحية ! . والطفل الصغير يقف شاهدا على تلك الأحداث البشعة ، من قتل العصافير ، واقتلاع الاشجار بقوة المعدات الخارقة وتدمع عيونه بحرقة على هذا العالم الذي اختفى منه الحب والرحمة والشفقة ، وبات ميدانا لمعارك وعنف . عالم يحارب العصافير ويطاردها مثلما يحارب الاشجار ويقتلعها من اجل زرع بنايات الاسمنت والحديد ، وبناء مصنع لأدوات صحية نلقي فيها فضلات امعائنا ، مفارقة ملفتة ومبدعة من الكاتب ، وكأنه في هذا الطرح يقول اننا في حاجة إلى قلب العصفور لكي نحيى حياة البشر الرحماء . كما يطرح الكاتب في المقابل مفارقته بين عالمي الاطفال والراشدين في تعاطيهما مع هذا الواقع الرديء ، فالطفل الصغير يتعارك مع الولد عفان الذي اصطاد العصفور الأب بنبلته ، ويتحرك ايجابيا بالمسارعة في دفن والدي العصفور ، وتدمع عيناه ويهلع قلبه من حركة البلدوزر وهو يفتك بالشجرة ، ويرى جذورها وهي تطلب الرحمة من جراء قسوة معدة القتل وسائق تلك المعدة عديم الرحمة والقلب .وفي المقابل يقف والد الطفل الرجل الراشد وحارس الحديقة في نفس الوقت لا مبالي يقول الكاتب " ربت أبي على كتفي ليهدئ انتفاضات جسدي المحموم ، نظرت إليه فوجدته مطمئنا ، لا شيء تغير بالنسبة إليه ، كان حارسا للحديقة الكبيرة ، سيظل حارسا لنفس المكان بعد ان تصبح أرض الحديقة مصنعا للأدوات الصحية " . وفي هذا السياق نطرح تساؤلا عرضيا ، ما الذي يحدث فينا بعد ان نشب عن الطوق ، ونغادر عوالم الطفولة ؟ اين تذهب الرحمة ، والحب ؟ وما كل هذه البلادة التي تسيطر على مشاعرنا ، فتجعلنا اقرب إلى الاشخاص الآليين القساة الذين يتحركون وفق اوامر وبرامج محددة من دون قلب أو مشاعر ؟ . الواقع تغير كثيرا من دون شك ، لكن يظل التطلع للشعراء والكتاب والفنانين حتميا في التأكيد على قيم الحب والرحمة والتسامح والعدل ودفع البشر دفعا في هذا الاتجاه لكي لا ننسى اننا بشر ، خلقنا الله سبحانه وتعإلى لكي نكون أجمل ، وارحم ، واكرم ، واعدل مخلوقاته سبحانه وتعإلى . ويبدو ان الكاتب نجح في ابلاغ قارئه بهذه المعاني الطيبة . ويأخذنا الكاتب إلى مستوى آخر من مستويات الحكي ولغته ، وندخل في عوالم أكثر تعقيدا ، ورمزية ، وتداخلا وذلك في قصة " كسر الحزن " ، فنلحظ تغيرا دراماتيكيا في التكنيك مقارنة بالقصص السابقة ، حيث ينتهج الكاتب الرمزية ، والاخفاء ، وطرق عوالم أشبه بالصوفية في مشاهده . والكاتب في هذا النص لديه الكثير مما يبطنه مقارنة بما يعلنه . وتتداخل الأحداث فيما بينها على طريقة الارابيسك لتفضي في نهاية الأمر إلى شكل متكامل لكن غائم وليس واضحا أيضا . يقول الكاتب " استلقت على ظهرها ، يطل عليها من تهاويم سقف الحجرة ، يتساقط العسل من عينيه في حفرة دموع على خدها ، ابتسامة فمه تتسع ، يمتلئ الفم برغاوي بيضاء ، تتجمع الرغاوى فوق الشفتين ، تسيل سحابات صغيرة تحيط جسده العملاق ، تخرج الاسنان من الفم على اقدام سوداء ، تنغرس في الرأس المتصحر ، يتسع المنخران ، يشفطان كل هواء الغرفة ، في هذا السياق يضعنا الكاتب في موقف مفاجئ يخص امرأة وهي صفية تبدو مستلقية على ظهرها ، نصف نائمة ، وخيالات لرجل مريض يشغل بالها بقوة ، والصورة على هذا النحو تبدو مثل لوحة تشكيلية يملأها الرسام بالأشكال المتداخلة الجاذبة للاهتمام . وبدخل اللوحة هريدي زوج صفية ، ويتزامن خلع ملابسه مع تكسر أوراق الصفصافة الجافة في مفارقة تدهش المتلقي ، وتعكس مدى السقم الموجود في اللوحة والواقع يقول عن هريدي " يلقي ملابسه على الأرض قطعة .. قطعة ، يتجه إلى السرير كالمكبل بأغلال . يحاول إسقاط الحجارة المثيرة الرابضة فوق صدره .. يسحب نفسا عميقا .. تنغرس الحجارة في قلبه .. يسقط على الأرض .. يعلو نشيجه " . يغرقنا الكاتب في صور تعبيرية /عبثية عميقة الدلالة فيما يتعلق بالمزاج العام الذي عشناه منذ البداية . وفي سياق آخر وفي غرفة مجاورة تظهر ام صفية تدق الأرض بقوة بعصاها وتقول لابنتها " اكسري الحزن الليلة " . فتأخذ صفية بعضا من العسل المتبل بالدموع وتدهن به شفتيها .. وتبدأ طقوس كسر الحزن من قبل صفية لكي تنقذ اباها من شبح الموت ، يصف الكاتب في لوحته شديدة الخصوصية وعميقة الدلالة الموقف فيقول " يكوم هريدي السجادة ذات التهاويل الفارسية بجوار السرير ، يفرد جسمه على بلاط الغرفة ، تطش نار جسده في برودة البلاط ، تتشد كل أعضاءه وتتمدد ، تنغرس الدموع حواليه سياجا من النباتات القزمية الجافة ، اكسري الحزن الليلة والا عشش في جنبات الضلوع ، تنزلق (صفية زوجة هريدي) من فوق السرير ، تتمدد على صف بلاط بجانبه ، قدماه تسبقان قدميها بمقدار بلاطة ، تتمشى اصابعها في الغابة السوداء التي تسكن جلد صدره ، تغوص يده بحميمية متقدة ، يبتلع كل منهما دموع الآخر ، سحابات السقف والجدران والعسل الدامع تصبح قطعة واحدة من العجين المتضاغط ، اكسري الحزن واستعيدي اباكي الليلة والا فقدناه إلى الابد (والد صفية زوجة هريدي) تتضاغط العجينة ، ملأ وجهه السقف ، ضحكته المجلجلة تهزها تحت هريدي ، عيناه الحانيتان الحازمتان تطلان على هريدي من فرج البلاطات الباردة ، يذوٌب هريدي روحه في كأس صفية ليستعيد عمه (والد صفية المريض) تشد صفية هريدي أكثر ، تتضاغط العجينة أكثر ، تعمل لحسابها الخاص للحظة ، تتقطر الذكريات وتتساقط من روح هريدي في عمق صفية ، تتفتح بطن صفية فترى اباها طفلا مبتسما عابثا ، يضع هريدي يده على بطنها فتنغلق ، ترتسم الابتسامة على جلد البطن المشدود ، تتعإلى دقات العصى في الحجرة المجاورة كأنها طبول هيام صوفي ، يتنفس هريدي رقصا كفرخ مذبوح ، ثم يسٌاقط فوق صفية كثلج سماوي منتوف ، تلملم صفية أشلاءه ، يعاودان رقصة الحياة " . وهنا ينبغي التوقف عند هذا المشهد شديد الخصوصية كما ذكرنا ، ونشهد للكاتب أنه تمكن ببراعة من تشكيل قطعة مبهرة من الارابيسك ، وعلى الرغم من تباين الاشكال والاحجام غير ان براعته كانت غير محدودة في تعشيق المختلف والمتعارض والمتضاد ليفضي في نهاية الامر إلى منحنا لوحة متجانسة منسجمة شكلا ولونا ومضمونا .ويجد المتلقي نفسه في مواجهة نص غير اعتيادي ، من حيث لغته السردية ، ومن حيث فكرته المارقة وفي نفس الوقت عليه ان يكون مستعدا للتأمل ، والهدوء ، والاستمتاع ، والاستعداد لتلقي حديث غير تقليدي يتعشق فيه الرمز مع التعبير مع العبث ، مع الصوفي ، مع الدهشة بإصرار .
ويبهرنا الكاتب بطقوس كسر الحزن أو رمزية هذا الطقس بالشكل الذي وصفه تفصيلا في تلك العلاقة الجسدية الكاملة لصفية مع زوجها في حضرة والدها المريض وتأثير هذا الحب الجسدي والمعنوي في امكانية استعادة حياة الرجل المريض من جديد . فالاستغراق في الحب حتى الثمالة يعني الحياة ، والميلاد الجديد . ويقولون ان الحب يصنع المعجزات ، ويقول الكاتب ان الحب وحده هو الذي يكسر الحزن ويحيي الاجساد والقلوب الميتة . وقصة "عبور " من القصص الدالة على تفاعل الكاتب مع قضايا المجتمع الآنية ، وتشغله مسألة التعصب الديني والطائفي ، وفي سياق لغة سردية تقليدية بسيطة ، وتداخل في الزمن ومشهد الجدة الطيبة المتسامحة ، يبدو البطل الذي تم أدلجته دينيا على شاكلة شباب هذه الايام الذين يتم تشكيل ادمغتهم على اسس من التعصب الفئوي والطائفي . لكن موقف المواجهة مع الآخر المختلف كشف عن الفطرة الطبيعية النقية للشاب ، تلك الفطرة البريئة التي لا تعترف بالتعصب لا لدين ، ولا لفئة أو طائفة . والقصة تبدو بسيطة ، لكنها تبدو كأنها " مصنوعة " لمناسبة ما ، أو بمناسبة ، لذلك بدت بعيدة نوعا ما عن العمق . ويدلي الكاتب بدلوه في مجال القصة القصيرة جدا ، حيث اشتملت مجموعة كسر الحزن على العديد من هذه النصوص المتباينة الطول مثل قصة " بصيرة " حينما نكتشف ان ما نعجز عن فعله أو نعجز عن ادراكه هو الشيء المهم في الحياة ، وان العكس صحيح . يقول على لسان البطلة " لم أكن واثقة بنفسي لدرجة ان اصرخ ، لكنهم عندما حكوا لي ، وسن الابرة مغروس في العرق المرزوق النافر من ذراعي ، عما لم اشاهده/عما شاهدته بالفعل ، علمت ان صرختي كانت تستطيع ان تنقذ تلك الطفلة التي تركت يد امها فجأة ، وطارت مصطدمة بمقدمة الاوتوبيس لتصبح نثارا .ندمت كثيرا ، بكيت كثيرا ، احتجت إلى الكثير من الشجاعة والثقة بالنفس لأصرخ صرختي الأولى ، ثم الثانية فالثالثة ، واعتدت ان اصرخ في كل مرة ، واعتدت ان يحكوا لي في كل مرة عما لم اشاهده /عما شاهدته بالفعل . والكاتب في نسجه لهذا النص ملتزم بقواعد القصة القصيرة جدا والتي ذكرناها في مقدمة هذه الدراسة . وفي قصة " متطرف " يكشف الكاتب عن المفارقة الازلية بين من يمتلك قدرة المواجهة والصدام مع السلطة مطالبا بحقه في الحياة الكريمة ، وبين اولئك المستسلمين الذين يقبلون الفتات حتى لو كان على موائد الاعداء يقول " أخيرا حضرت سيارة الشرطة ، علمت انني تجاوزت اقصى الحدود عندما حرضت زملائي على التصدي لضربات رجال صاحب المصنع فخطفوا منهم العصي والاحزمة ووقفوا في مواجهتهم . علمت انني اخطأت عندما رفضت ان انزل من درجة عامل فني إلى عامل عادي تحت رئاسة الفنيين الاجانب الذي استجلبهم صاحب المصنع حين وافق زميلي اشرف ، صحيح أنهم خفضوا راتبه أكثر من مرة لكنه لا يزال يعمل ، بينما احاول أنا – فاشلا – قراءة ملامح المستقبل في عيون ضابط أمن الدولة في السلطة عليٌ " وفي نصه القصصي " شرط المواطنة " يرتفع صوت الكاتب بقوة احتجاجا على الواقع المتردي ، وزمن التخنث ، حيث تعتصر الرجولة وتنتهك بشدة ، في حين ينحصر عدد المفردات المستخدمة ليصبح النص القصصي القصير جدا بمثابة شعار سياسي زاعق يقول الكاتب " ايتها الامازونية العتيقة
اعتصري رجولتي بقبضتك القوية ، والق بغصنها في بئر الذكرى المطموسة
لا استطيع ان اصبح مواطنا صالحا في زمن التخنث .
وفي قصة " شواء " يثبت الكاتب للمتلقي أنه يملك قدرة ادراك الواقع بطريقة سريالية مثلما يعاينها الناس ، ويسخرون منها في منتدياتهم ، ويدخل في المغامرة بالتحديق بقوة داخل نفسه والولوج في اعماق الاعماق ويخرج الينا باكتشاف مثير للدهشة والعجب ، اكتشف أنه ينظر إلى نفسه في طبق الشواء وأنه يأكل نفسه ، وهذا حالنا بالفعل يقول " اتشمم الرائحة بكل جلدي ، يمتلئ جوفي باللعاب السائل ، تضع يد مومياءيه طبق الشواء امامي ، امسك الشوكة والسكين ، ابدأ في تقطيع الرأس المشوي الموضوع في الطبق القاني السداسي الاضلاع ، الاحظ حركة غريبة ، اتمعن في الرأس ، من وسط الطبق : عيناي تنظران الي " . والكاتب في هذا النص المثير الشيق يؤكده قدرته على التجريب ، وأيضا مقدرته على صياغة الواقع بطريقة مختلفة جديدة واصيلة .واخيرا بقى ان نعترف للكاتب بقدرته في انتاج نصوص قصصية مثلما تتوافر فيها شروط الحكي القصصي في مجالي القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا ، تتوافر فيها أيضا قدرته على امتلاك ناصية الحكي عن طريق لغة سردية قصصية سلسة ، وبسيطة ، وواضحة ، وعميقة الدلالة ، إلى جانب اجادته فن رسم صور قصصية معبرة بدقة عن الافكار والأحداث التي يلجها . أيضا يحسب للكاتب قدرته النوعية على توظيف مهاراته الابداعية على عمل تشكيلات متجانسة من الفاظ وصور وتخييلات تبدو في الواقع غير متجانسة وذلك ما اطلقنا عليه الارابيسك في فن القصة القصيرة عند الكاتب منير عتيبة . وكذلك قدرته المتميزة في الولوج في عوالم مختلفة ومتباينة من مدارس الابداع المختلفة .
رابعا: مجموعة ياسر عبد العليم سقوط التمثال
والنموذج الرابع من الكتابات المصرية المعاصرة فن القصة القصيرة يخص الكاتب ياسر عبد العليم ومجموعته القصصية " سقوط التمثال" وتتضمن ستة عشر قصة قصيرة تفصح بجلاء عن عالم الكاتب وطريقته الفريدة في فن الحكي والسرد ، وفي السياق التالي نستعرض نماذج من هذه الابداعات ، ولتكن البداية من حيث بدأ الكاتب في تصدير كتابه بقصة " سقوط التمثال " وتكشف بطريقة ساخرة عن مفارقات واقعنا المعاش فيما يتعلق بقضايا الحرية والديمقراطية وحرية الافراد ، والقصة لشاب يكتب المشهد الأخير من مسرحيته وخلفه في المشهد اطار زجاجي لصورة حبيبته يقول " التمثال ذو التاج المسنون يحمل شعلة النور يبدد مساحات معتمة من العالم الثاني والثالث ناظرا إلى النهر الصغير والبنايات العالية ، فتفوح من الحمام القريب رائحة الديمقراطية وحرية الافراد " .والمقصود بالتمثال من دون شك تمثال الحرية الأمريكي المطل على خليج نيويورك بولاية نيويورك الأمريكية ، وكانت فرنسا قد اهدته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1886 بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الأمريكية ، ويرمز إلى امرأة وقد تحررت من قيود الاستبداد . وتخيم على النص عموما أجواء السخرية تلك التي تأتت من المفارقة بين منظر تمثال الحرية ورائحة الديمقراطية وحرية الافراد التي تفوح من الحمامات . ويذهب الكاتب في تخصيص الحالة من العالمية إلى العربية والمحلية من دون مواربة فيقول " تحت قاعدة التمثال الرخامية العريضة كان النمرود والحجاج والرجل النتن سداسي الملامح ! ، والرجل الذي تعلق صوره في الميادين الكبيرة عندنا ويشير الينا بابتسامة بلهاء يحاولون أحداث شرخ في قاعدة التمثال ، ينظر إليهم حامل الشعلة في سخرية ويعلق نظره في البنايات العالية " . ويبدو ان الكاتب اخذته الحماسة غير المسيطرة في هذا المقطع من النص ، واذا اعتبرنا ان الرجل " النتن سداسي الملامح ! " مجرد رمز للقبح والشر ، فان مصر لا تعلق فيها صور للحكام في الميادين منذ زمن بعيد كما يلمح الكاتب ! ، ولكن ما يزال هذا الامر موجودا في بعض البلدان العربية . ويربط الكاتب بين الواقع الشخصي لبطل النص ومعضلات اجواء النص مثل الانتخابات والديمقراطية ، وضرورة قيام الدولة الفلسطينية المعضلة الاصعب في العالم منذ أكثر من ستين عاما في عالم الصراعات الدولية ، لنكتشف ان مشكلة ارتباطه بحبيبته معضلة كبرى مثل معضلة الحرية والديمقراطية في العالم العربي ومعضلة قيام الدولة الفلسطينية في فلسطين يقول " رشف قطرات القهوة المرة ، أشعل سيجارة أخرى ، نظراتها الزجاجية خلف اطارها تستنكر انشغاله عنها ، لا تريد ان تفهم ان راتبها الضئيل كمدرسة للرسم وراتبه كمدرس عربي بينه وبين الدروس الخصوصية مصانع الحداد لا يكفي لبناء عش العصفورة الذي تتحدث عنه المطربة المشهورة " . وينقلنا الكاتب بهدوء إلى ساحة التمثال لنشهد الحدث الاعظم هناك حيث يوجد السافحون الاربعة بمعاولهم والكلاب منزوعة الانياب ، ووصول شخصية الكاو بوي أو راعي البقر الأمريكي الشهيرة التي ترمز للغرب الأمريكي بصورته التقليدية كما نشاهدها في افلام الغرب الأمريكي يمتطي فرسه الأدهم ، ويطوح حبله في الهواء ، ويدخن غليونه او سيجارة المارلبورو ، يخرج راعي البقر الأمريكي من بنطاله الضيق طيورا سوداء يطيرها في الهواء ، اصبحت طيرا ابابيل تدمر كل البنايات العالية ، وترتعش يد التمثال وتسقط الشعلة في النهر الصغير ، ويتلاشى السافحون ويبقى راعي البقر يقهقه في الهواء ، وانتشرت الشروخ في جسد التمثال حتى احنى رأسه العالية وهو يشاهد السنة النار والدخان خنق السماء ثم سقط . والصورة على هذا النحو تبدو عبثية سريالية تهدف إلى السخرية من كل ما عشناه من اوهام متعلقة بالحرية والديمقراطية والثراء على الطريقة الأمريكية . ويضع الكاتب نبوءته عن انهيار هذا النظام القائم على الكذب والخداع ، والاستغلال . وكأن الكاتب يقول ان هذا النظام سوف يسقط بنفس الطريقة التي سقط بها ابرهة الحبشي وفيله وجيشه العظيم حينما غزو مكة وحاولوا هدم الكعبة بيت الله ، فارسل الله عليهم طيرا ابابيل لتجعلهم كعصف مأكول ، ويتنبأ الكاتب ان طيرا ابابيل أخرى سوف تظهر وسوف تدمر مدنهم الزائفة التي بنيت نتيجة لاستغلال شعوب الأرض الضعيفة ، وقيمهم التي قامت على اساس استبعاد الشعوب واستغلالها ودعم حكامها المستبدين ليكونوا خدامهم ، وان كل شيء سوف يسقط حتى التمثال ذو التاج المسنون الذي لم نذق منه سوى المرارة والقهر ودعم الحكام المستبدين والظلمة قاهري الشعوب . والكاتب من دون شك يحمل قضية الحرية على كاهله ، ويتحمس لمتلقيه لدرجة انك تحسبه يكتب مقالا سياسيا وليس قصة قصيرة ، ويتوتر لدرجة الاضطراب . ويتداخل عنده الزمن والصور والأحداث لدرجة التشابك وفرط التجريد ... وعلى نفس المنوال يتكرر الأمر في قصة " اما بعد " التداخل والتشابك بين الصور والأحداث والغموض يسود على أي حال . كأن المهدي المنتظر ظهر مع قلة من اتباعه يقول " تناقلت وكالات الانباء خبر ظهوره في منطقة نائية مع قلة من اتباعه ". وهناك المرجئة المذعورين المحاصرين بالمسجد يعدون الله ان يخلصهم من الفئة الباغية " تلقى المرجئة –الذين أغلقوا عليهم أبواب المسجد – الخبر في هلع وجأرت اصواتهم بالدعاء إلى الله ان يخلصهم من الفئة الباغية " ، وهناك الغالبية العظمي من الجماهير خارج المساجد يتبادلون التهاني يقول " خارج المساجد كانت الساحات مملؤة بالجماهير العريضة ، يتبادلون التهاني مع نوبات الرقص لأنهم تخلصوا من اتهامات البيت الابيض لهم ، وكانت النساء العاريات على الشواطئ بأثدائهن واردافهن يتمرغن بتلذذ على الرمال الدافئة وفتحت البارات وعلب الليل اوكارها ، واكتظت دكاكين الحلاقة بالزبائن لنز الذقون المستعارة ، والتهم الصغار ساندويتشات الخلطة السحرية واصبحت الكولا المشروب الرسمي على موائد الرحمن ، وعادت الاغاني الماجنة تدغدغ الاجزاء الحساسة في اجساد المراهقات ، كانت الاطباق فوق الاسطح تلتقط كل الاوضاع ال.... خلف الجدران النظيفة في بلاد ما وراء البحار " . والكاتب في هذه المشاهد الثلاثة الرمزية يستعرض ثلاثة مظاهر للتطرف ، سواء تطرفا دينيا ، او سلوكيا دون مراعاة للتقاليد والثقافة العامة للشعب المحافظ دينيا واخلاقيا ، وينبه ان وراء ذلك هو العملاق الابيض والمقصود بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية وشركاتها العالمية العملاقة صاحبة النفوذ القوي في بلدان العالم مثل شركة الكوكا كولا صاحبة المشروب الأمريكي الشهير . ولا ينسى الكاتب ان يدخل في المشهد الاحزاب السياسية يقول " في موكب كبير خرجنا إليه لنشاهد آخر فصول المأساة التي قضت مضجعنا وخوفتنا من وقوع العقاب ، تتقدمنا الاحزاب الكبيرة ، وكان العملاق الابيض خلفنا يحثنا على مواصلة السير " . اذا فالمشهد برمته يبدو مضطرب ، مرتبك ، استعان عليه الكاتب باستخدام مفرط للرموز المباشرة ، والعجز عن اخفاء هويته المحافظة ، والحماس لدرجة الربط بين ما نعانيه من اضطراب وفقدان للهوية والاستسلام للعملاق الابيض وشركاته وبين طفل الحجارة الصامد في غزة يقول " في حين بقى الطفل الممسك حجرا يبكي وحده وقد حفر الدمع في وجهه اخدودين عميقين " . هذا هو المشهد العبثي الذي استغرق الكاتب حتى الثمالة لدرجة ان يستمر في تكرار التذكير بقوة ومدى هيمنة العملاق الابيض ، وكذلك الخوف الرهيب منه يقول " لكن الولد النافر ذو الشارب الكث قد لمح سكينا يلمع في بنطال الابيض فتظاهرنا جميعا بعدم رؤيتنا له ، وحين صرخ في وجه القائد انهالت عليه اكفنا بالصفعات والسنتنا باللعنات وأجبر على مواصلة الطاعة مطأطئ الرأس " . وتستمر الصورة العبثية فيذكر الخوارج والشيخ ذو العينين الكسيرتين ورائحة الدم والجثث ، والابيض الذي يقرقع من الضحك وهو يشرب الكوكاكولا بينما تتساقط قطرات الدم القاني من بين اصابعه وهو يعدل المؤشر لتذاع اغاني النصر . إنها المفارقة المأساوية التي يعاينها النص وكاتبه . واحسب ان جهدا كبيرا قد بذل اثناء مرور هذه الصور في خيال الكاتب ، واحسب ان الكاتب بلغ ذروة توتره واضطرابه اثناء الكتابة وتسجيل هذه الحالة التي عكست المدى الذي ينشغل به صاحب النص على الوطن لدرجة القلق المفرط ، واحسب أيضا ان النص كان يمكن ان يختزل ، ويتحرر من الترهل الواضح الذي جلبته حالة الكاتب الشعورية ، فليس كل ما خرج وقت الكتابة يكون مناسبا وداعما للفكرة . وان يتم التعامل مع النص بانضباط أكثر ليتحرر من تلك الرمزية المباشرة الأمر الذي قد يكسبه عمقا أكثر مما هو عليه الآن .
وفي قصة " مقاومة " تهتاج المشاعر الداخلية بشدة مع انقطاع التيار الكهربائي ، ويخرج المكبوت ، او المسكوت عنه متراقصا مع شريط مصباح الكيروسين ، وتلك مفارقة اجاد الكاتب صيدها ببراعة لافتة ، بنفس القدر الذي اجاد فيه انتقاء مفرداته ، وصوره الخاصة . المدرس منهمك في انجاز عمله في تصحيح كراسات تلاميذه على شريط لمبة الكيروسين ، وزوجته راقده في الغرفة المجاورة يصل إليه صوت شخيرها ، وفجأة يقرأ اسم تلميذته /حبيبته على الكراسة يقول " في حركة عصبية عدل من وضع نظارته ، حين قرأ الاسم ، لم يستطيع ان يزيح الدهشة عن وجهه ، ستكون درجتها مثار تذمر باقي التلميذات في الصباح ، عيناها الفيروزتان وبحة صوتها الحنون تدمر كل الحصون التي حاول ان يختبئ بداخلها " . هنا لا بد من ان نتوقف حول قدرة الكاتب في اصطياد الحالة ، واللحظة ، وتوظيف اللغة البسيطة المقتصدة في ان تفضح كل ما يعتمل بداخل هذا المدرس المسكين . وفي الحقيقة احسب ان الكاتب نجح باقتدار في اصطياد لحظته ومشهده ولغته في بلوغ هدفه . ويستغرق الكاتب في الحالة ويسترسل لكن بحذر هذه المرة دون افراط في الكلام او الصور وينتهز صاحبنا المدرس فرصة الظلام وضوء مصباح الكيروسين الخافت في الولوج لما هو اعمق . انها لحظة داخلية نادرة ، رائعة وجميلة عاشها المدرس مع حبيبته لدرجة التوحد يقول " تتسلل من الباب المغلق في منامتها الزرقاء ، تحمل كوب الشاي الساخن ، تفرش وردة بيضاء على صدرها العريض ،تقترب ، تقترب أكثر براحة كفيها ، تمسح الوجه المتعب وتعيد تشكيل الملامح ، تقترب ، تقترب أكثر ، تدلف عبر مسام الجلد ، تنسحب اشياء أخرى ، تستقر هي مكانها ، تتجمد اطرافه ، تقترب أكثر . يتوحد معها تماما ، وينثر على ضفاف شفتيها مسحوق الحب ". حقا ما اروع تلك اللحظة الخالية من المقاومة ، وما اروع الحب قبل ان يعود التيار الكهربائي ويبدد كل شيء وتعود المقاومة مرة أخرى .
وقصة " ترنيمة على باب اللحد " من اعمال المجموعة التي تسترعي الانتباه ، فإلى جانب تقديم الكاتب لوجبة سردية مختلفة تتميز بكل جماليات لغة السرد والوصف ، ودقة الكلمة وعمق المشاعر ، وجاذبية الموضوع وأصالته فان الكاتب تمكن من الغوص في اعماق النفس البشرية باقتدار لافت ، إلى جانب المفارقات المدهشة التي ميزت هذا النص . فالقرية مشغولة بقصة نبش مقبرة الحاج دسوقي وجز رأسه وسرقتها ، وتحدث المفارقة ويموت والد الراوي الرجل الذي كان يسخر من كل شيء ، والذي يتصف بالحكمة . وينشغل باله والعائلة كلها باحتمال نبش مقبرة والده وجز رأسه ، وينجح في نهاية الأمر بعد سهر متصل لثلاثة ليال بجوار المقبرة في الحفاظ على رأس ابيه في مكانها وحمايتها من لصوص المقابر يقول " تشرق شمس اليوم الثالث ، في البيت ارى امي تبتسم للمرة الأولى بعد وفاة ابي ، اصب الماء فوق رأسي ، ادعك جسدي بالصابون ، البس جلباب المناسبات الصوفي ، في شوارع القرية كنت انفخ صدري قد ما استطيع وانا ارد على تحايا الناس بصوت أتعمد خشونته " ، وفي موضع آخر يقول " في المساء وانا التقط انفاسي كان ابي يدق عكازه في الأرض ويلملم على كتفيه العريضتين العباءة السمراء ، ويرسم على وجهه المقدد المنحوت ابتسامة النصر " وفي هذا السياق نلحظ التداخل بين الحالة الداخلية والخارجية وكيف نجح الكاتب في تبيانه في صورة فنية عميقة الدلالة ، فالشمس تشرق مع اشراقة الداخل ، وشعور عارم بالزهو التباهي لأنه حقق انتصارا لنفسه قبل ان يكون لوالده . وعلى الجانب الآخر ترى خلجاته صورة والده وهو يمشي متباهيا هو الآخر ، مرتدي عباءته ، ويدق الأرض بعكازه مختالا ، ويبين على وجهه المقدد المنحوت علامة النصر لأنه احتفظ برأسه بعد موته . تلك العلامة التي يستحقها كاتب النص أيضا عن جدارة . وتتواتر قصص المجموعة وفي قصة " الهزيمة " يواجه الكاتب اشكالية الحب ، وتعقيداته ، ويكتشف أنه ليس مجرد كلمات معسولة وقصائد واشعار وحواديت ، بل يستحقه من يملك الجرأة على البوح به بجسده وليس بلسانه فقط ، ويعترف بهزيمته امام صاحبه الذي لفت انتباهه لذلك ، وحينما لم يكترث كان صاحبه قد استولى على حبيبته بطريقته الخاصة . وقصة " محاكمة " يبدو النسج السردي شديد الأهمية على الرغم من تقليدية التيمة وتكرار تداولها في الاعمال الفنية عن مريض القلب الذي يتعرض لعملية زرع أو ترميم لقلبه الضعيف بآخر جديد من البلاستيك ، ويعتقد الراوي أنه تخلص تماما من متاعبه ، لكن العكس صحيح ، يكتشف أنه اصبح غريبا لا يستشعر اي طعم للحياة مثل الكائن البلاستيكي ، ويختلق الكاتب صراعا داخل الرجل الذي انقسم ليصح اثنين احدهما صاحب القلب البلاستيكي والآخر صاحب القلب العليل ، وكيف ان صاحب القلب العليل لديه المقدرة على الاستمتاع بحياته مقارنة بالمتعافي صاحب القلب البلاستيكي يقول صاحب القلب القديم لصاحب القلب الجديد البلاستيكي " تتأمل زوايا صورة الممثلة المفضلة ، لا تشعر بالنهم القديم ، والرعدة التي تنتابك ، انا ايها المسكين اشعر بهما فما زال في صدري القلب القديم وكان قلبك يوما ما " . وكأن الكاتب يخلق صراعا من نوع جديد ، صراع بين القديم والجديد ، الاصالة والمعاصرة . وينتهى الصراع في النص بانتحار صاحب القلب الجديد البلاستيكي لأنه عجز عن التعاطي مع الحياة والواقع . وكأنها نبوءة الكاتب بانتصار القديم والاصيل على الجديد الجامد الزائف معدوم الحياة ، مجرد وجهة نظر .
واجمالا نعترف ان نصوص الكاتب ياسر عبد العليم ليست سهلة ، حتى المباشر منها شديد التداخل ، شديد العمق ويتميز اسلوبه بالسلاسة ، والولع بالاستغراق في اعماق النفس البشرية ، والنفاذ بنصل حاد داخل الشخصية وقدرته المميزة على الامساك بعدة لحظات متداخلة في الزمان والمكان في آن واحد . كما أنه حاول السباحة داخل افكار اصيلة بقدر المستطاع واعتقد أنه نجح في ذلك .
د. احمد الباسوسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.