سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في بداية الأسبوع السبت 11 مايو 2024    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    مندوب مصر لدى الأمم المتحدة: ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في غزة سيؤدي لخلق جيل عربي غاضب    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة مدنية بغزة    مأ أبرز مكاسب فلسطين حال الحصول على عضوية الأمم المتحدة الكاملة؟    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    الخارجية الفرنسية: ندعو إسرائيل إلى الوقف الفوري للعملية العسكرية في رفح    البحرين تدين اعتداء متطرفين إسرائيليين على مقر وكالة الأونروا بالقدس    هانيا الحمامى تعود.. تعرف على نتائج منافسات سيدات بطولة العالم للإسكواش 2024    أوباما: ثأر بركان؟ يحق لهم تحفيز أنفسهم بأي طريقة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    «كاف» يخطر الأهلي بقرار عاجل قبل مباراته مع الترجي التونسي (تفاصيل)    جاياردو بعد الخماسية: اللاعبون المتاحون أقل من المصابين في اتحاد جدة    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    ضبط المتهم بقتل صديقه وإلقائه وسط الزراعات بطنطا    أنهى حياته بسكين.. تحقيقات موسعة في العثور على جثة شخص داخل شقته بالطالبية    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حار نهاراً.. ننشر درجات الحرارة المتوقعة اليوم السبت فى مصر    مصرع شخص واصابة 5 آخرين في حادث تصادم ب المنيا    غرق شاب في بحيرة وادي الريان ب الفيوم    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    «عشان ألفين جنيه في السنة نهد بلد بحالها».. عمرو أديب: «الموظفون لعنة مصر» (فيديو)    عمرو أديب عن مواعيد قطع الكهرباء: «أنا آسف.. أنا بقولكم الحقيقة» (فيديو)    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    سيارة صدمته وهربت.. مصرع شخص على طريق "المشروع" بالمنوفية    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    حظك اليوم برج الجوزاء السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    تراجع أسعار النفط.. وبرنت يسجل 82.79 دولار للبرميل    محمد التاجى: اعانى من فتق وهعمل عملية جراحية غداً    الإبداع فى جامعة الأقصر.. الطلبة ينفذون تصميمات معبرة عن هوية مدينة إسنا.. وإنهاء تمثالى "الشيخ رفاعة الطهطاوى" و"الشيخ محمد عياد الطهطاوى" بكلية الألسن.. ومعرض عن تقاليد الإسلام فى روسيا.. صور    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. تقلبات جوية بطقس المحافظة    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    مادلين طبر تكشف تطورات حالتها الصحية    شهادة من البنك الأهلي المصري تمنحك 5000 جنيه شهريا    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    نقاد: «السرب» يوثق ملحمة وطنية مهمة بأعلى التقنيات الفنية.. وأكد قدرة مصر على الثأر لأبنائها    "سويلم": الترتيب لإنشاء متحف ل "الري" بمبنى الوزارة في العاصمة الإدارية    آداب حلوان توجه تعليمات مهمة لطلاب الفرقة الثالثة قبل بدء الامتحانات    حسام موافي يكشف أخطر أنواع ثقب القلب    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمى العدسات لعبدالله عنتر.. قراءة خاصة للنص وكاتبه
نشر في شموس يوم 26 - 05 - 2014

فن القصة القصيرة مثل النهر الجاري ، متجدد دائما ، ولا يعترف بالثبات أو الجمود . وهو جنس ادبي موغل في القدم يعود إلى ازمان قصص العهد القديم عن الملك داود ويوسف الصديق . وقد اعتبرت القصة القصيرة حالة احتجاجية على الانماط القديمة في الكتابات السردية ، ونتاج لتحرر الفرد من ربقة التقاليد والمجتمع وبروز الخصائص الفردية على حساب الانماط التقليدية من السرد القديم . وتطورات كتابة القصة القصيرة الحديثة مدهشة بداية من ادجار الآن بو الشاعر والكاتب الامريكي المولود في مدينة بوسطن الامريكية ، والمتوفي عام 1849 عن عمر يناهز الاربعون عاما فقط ، والذي يؤرخ له باعتباره رائد ذلك الفن في العصر الحديث مرورا بالأسطورة الطبيب والكاتب الروسي العظيم انطون لتشيكوف المتوفي عام 1904 وعاش 44 عاما فقط، وصولا لتشيكوف العرب الطبيب ايضا والكاتب يوسف ادريس المتوفي في اغسطس عام 1991 عن أربعة وستون عاما وحتى عبدالله عنتر صاحب المجموعة القصصية عمى العدسات يؤكد بتفاؤل أن نهر القصة القصيرة ما يزال يجري من دون توقف أو جمود بل ولن ينضب ابدا.
وكاتبنا الشاب المولود في مايو عام 1980 في شبرا خيت بالقرب من نهر النيل فرع رشيد حيث يحدها في الغرب مدينة دمنهور التي تبتعد عن الاسكندرية عروس المتوسط بنحو 60 كيلو متر يقدم تجربة مميزة ومثيرة للاهتمام في عالم القصة القصيرة. ومجموعته القصصية التي نحن بصدد انجاز قراءة تفسيرية لعوالمها وشخوصها وغلافها الفكري على الرغم من كونها محاولته الاولى (منفردا) في عالم النشر والتواصل مع قارئه فإنها تبدو محاولة جادة، متواصلة مع المتغيرات الحادثة في عالم القصة القصيرة من حيث الشكل والمضمون وذلك ما سوف نوضحه لاحقا .
ومجموعته " عمى العدسات " تضم بالإضافة للقصة التي تصدرت عنوان الكتاب تتضمن خمسة عشر قصة قصيرة أخرى غيرها تشير اجمالا إلى جملة من التنوعات في الشكل والمضمون كما ذكرنا سلفا ، إضافة إلى تنوع في خبرة الكاتب ذاته ودقة حرفيته في التعبير عن الخبرة الانفعالية / الوجدانية ، وتصوير المشهد سواء داخليا وخارجيا .
واذا وضعنا في الاعتبار نشأت الكاتب في إحدى قرى مركز شبرا خيت الساكنة بالقرب من النيل ، من ناحية الغرب من مدينة دمنهور التي تبتعد عن مدينة الاسكندرية الساحلية بنحو 60 كيلو مترا ، وعن العاصمة المصرية القاهرة بنحو 160 كيلو مترا فإننا ربما قد نقترب من فهم مدى تأثر تجربته القصصية بذلك الموقع " الفريد" والمتأرجح ومبعث الحيرة والقلق بين مدينة الاسكندرية الساحرة عاصمة الثقافة والفن في العالم القديم ، ومدينة القاهرة الرائعة قلب مصر الحديثة وعاصمة الثقافة والفنون والآداب في العالم العربي ، ومصدر قوة مصر الناعمة في هذا العالم ، وانعكاسات هذا الموقع الجغرافي المتأرجح على تلك التجربة الوليدة كما سيظهر لاحقا في مضمون عالم الحكي لديه وادواته في السرد وما يعتمل داخله من تداخلات وتقلبات وتناقضات وحيرة .
والقراءة المتعجلة لصفحات المجموعة القصصية والتي تقل عن الستين صفحة من القطع الصغير تشي إلى اننا بصدد كاتب يعتمد على البساطة في كل شيء ، البساطة في السرد ، البساطة في الفكرة ، والبساطة في الواقع الدرامي .
كما يبدو الرجل حريصا بقوة على الالتزام بتقنيات القصة القصيرة بحذافيرها حتى لا يلومه أحد . لكن بالتأكيد الأمر ليس بهذه البساطة مع الكاتب عبدالله عنتر ، فالنصوص جميعها بلا استثناء ينطبق عليها مقولة السهل الممتنع ، وتحمل مضامين فكرية مركبة . كما أن أدوات السرد لديه متنوعة ، وتتأرجح ما بين السرد التقليدي ، والرمزية ، والعبثية ، والرومانسية ، والطبيعية .
وحيرة الكاتب تبدو واضحة منذ البداية في اهداءاته التي تتشعب حيث يصل إلى نفسه المغتربة في نهاية المطاف . وكأنه يحاول بشتى السبل ان يهرب من اغترابه عن طريق تصدير جملة من الاهداءات القصد منها التخفف من توترات غربته لكنه اخيرا يقرر البوح والاعلان عن اغترابه وتضامنه مع كل من طالت غربتهم في هذا العالم ، وكما سوف تبوح به نصوصه البسيطة لاحقا . واذا اردنا ان نلقي بإطلالة بانوراميه على السمات المميزة لطريقة الكاتب في السرد واستخدام ادواته ، وعلى شخوصه ومزاجهم واحوالهم وطريقتهم في التفاعل مع الواقع الصعب فإننا قد نتبين ما يلي :
اولا: ان واقع النشأة الريفية للكاتب يتردد صداه في العديد من قصص المجموعة (تحطم الأشرعة ، حلم حداثي ، حنين ، قوالب تصنع الحياة ) والمكان مجرد صدى ليس أكثر يربض في الخلفية ولا يملك تأثيرا على الشخوص والاحداث . بل يؤثر بالتأكيد في وعي الكاتب ويظهر مجرد ظلال خفيفة في خلفية المشاهد .
ثانيا: يظهر تأثر الكاتب بموقع النشأة في احدى قرى شبرا خيت الحائرة بين مدينتي الاسكندرية والقاهرة وذلك في العديد من قصص المجموعة بجلاء ، ويمثل السفر فكرة مركزية في العديد من القصص مثل (الخرساء ،حلم حداثي ، خوف وحنين ، لعنة الغجرية، قصة لم تكتب بعد ) . السفر أو الرحيل لدى الكاتب ليس بالضرورة مكاني ، بل فراقي نفسي في غالب الاحوال ، فالكاتب في حالة صراع وعدم توافق مستمرين مع ذاته والآخرين ، وجاهز للترحال في كل لحظة لان في السفر او الترحال تخفيف لحدة توتراته وقلقه الوجودي في هذا العالم ، وهذا ما انعكس بوضوح في قصته الرمزية (قصة لم تكتب بعد ) .. يقول : لماذا تغادر السعادة مدينتي ؟ تغادر إلى مدنهم البعيدة تاركة اياه في مدينته يعاني من كل شيء . ثم يعلن موقفه الشيز يدي التجنبي المتشكك حينما يصرح انه يخاف من القرب لأنه يعرف جيدا ان النهاية حتما هي البعد . ثم يتحدث لاحقا عن رحيل حبيبته دون احتفال ودون اعلان. إذن الرحيل عند الكاتب يبدو جليا في اعماقه ومركزيا في كتاباته ، وانعكاسا لموجة عاتية من الترقب والقلق والتوتر وكذلك التجنب والتشكك .
ثالثا: شخوص الكاتب كلها مهمشة ، من المعدومين والفقراء والبسطاء وتلك سمة شخوص كاتب القصة القصيرة عموما وكذلك المشاهد والغلاف المحيط (مشاهد القصة) ، ونجح الكاتب في ان يجعل قارئه يشتم رائحة الفقر في الشخوص والاحداث عن طريق قدرته الملحوظة في تطويع لغة السرد ودقة الوصف يقول في قصته (الخرساء) " افترشت الارض ، جلست متربعة على رصيف موقف سيارات الاجرة ، فتحت لفافة من الورق كان بداخلها رغيف من العيش الفينو وقطعة صغيرة من الجبن الابيض ، فتحت الرغيف بأصابعها المتسخة ، وضعت قطعة الجبن داخل الشق ، ظلت تأكل بنهم ، فرغت من الوليمة الشهية وطفقت تلعق اصابعها من آثار بقايا الجبن مستمتعة بلعق ما نشب بأصابعها من نتف الجبن " . انظر كم تبدو الصورة الوصفية للمتسولة المعدمة دقيقة وعاكسة لمضمون اجتماعي تفوح في سياقه روائح الفقر والظلم والاضطراب .
رابعا: علاقة الكاتب بلغة السرد أو الحكي تبدو سوية خالية من المط والتطويل غير الضروريين ، واللغة لديه بسيطة ، مختصرة مكثفة ، كاشفة للعمق بدرجة اكبر من كونها كاشفة لكل ما هو سطحي ، وتلك من سمات وتجليات القصة القصيرة الجيدة.
خامسا: استخدم الكاتب تنويعة من المناحي المتباينة لطريقة السرد أو الحكي مثل الرومانسية كما في (لعنة الغجرية ، والخرساء وحلم حداثي ، حنين ، الممر التجاري ) ، والطبيعية كما في (تحطم الاشرعة ) ، والرمزية في العديد من المواطن ، رمزية مباشرة كما في عمى العدسات ،وخوف وحنين . وبليا تشو وغير مباشرة كما في جدارية ،وعسل بنكهة الموت ، وقصة لم تكتب بعد .
وفي السياق التالي نعرض بالتحليل لقراءة في نصوص الكاتب لعلنا نستجلي امورا ربما تساعد على فهم النص
قصة المفتتح دائما ولا بد أن يكون لها مغزى لدى صاحبها ، " والخرساء " أولى قصص المجموعة ومفتاح منهج القاص في التفكير واستخدام أدوات الحكي لديه . وهي عبارة عن مشهد صامت أخرس لفتاة معدمة تجلس على رصيف موقف سيارات الاجرة تأكل بنهم رغيف من العيش فينو بالجبنة ، وشخص داخل سيارة اجرة يراقبها في الجهة المقابلة ، وفلاش باك بلغة السينما لهذا الشخص المستعد للسفر على ما يبدو وقد تذكر لحظات بؤسه وحرمانه وبطالته. ثم قرار هذا الشخص بمنح الفتاة كل ما يملكه ومغادرته سيارة الاجرة وعزمه اكمال رحلته مع الحياة .. والسطور في هذا المشهد الذي يبدو بسيطا تشي برائحة الفقر والعدم والبطالة والاحتياج والارتباك ايضا .. فالقاص يضعنا في رحلة من الغموض وردود الافعال التلقائية المدهشة التي توضح ارتباك الهدف والفكرة في ذلك العالم المليء بالشقاء والفقر والبطالة والحرمان . هذا العالم الاخرس والمسكوت عنه والذي قرر صاحبنا ان يتركه ويغادر ليكمل رحلته .. والسرد هنا يتميز بالبساطة ، والرومانسية على الرغم من قسوة الواقع وشدة المه.
وعلى نفس المنوال تدور قصة " الممر التجاري" وستوتة بائعة الطماطم ، وصوت ام كلثوم في مذياع المقهى واسقاطات تعكس مرارة الواقع والأيام .
وتتوهج قدرة الكاتب على استخدام الرمز وتوظيفه بطريقة سلسة ومعبرة في قصة " بليا تشو " وذلك الرسام الصغير الموهوب الذي تم استبعاده من مسابقة الرسم بتعسف غير مفهوم نتيجة لرغبة عضو لجنة التحكيم في تقليص عدد الاطفال المتسابقين ، وحالة الاحباط التي تعرض لها الرسام الصغير ثم تمرده ، وقراره برسم صورة هذا الشخص عضو لجنة التحكيم في الغالب في شكل بليا تشو على كل جدران المنزل .
والقصة هنا تعكس حالة العبثية والعشوائية التي تحكم سياق مجتمعنا وعدم الاكتراث والاستهانة سواء بالطفولة او الفن ذاته .. كما تعكس ارهاصات التمرد والثورة لدى الكاتب والتي تجلت بسفور في القصة الرئيسية للمجموعة "عمى العدسات " ، والسياق هنا لا ينعكس في صورة حبكة درامية تقليدية مثل القصص السابقة بقدر ما يعكس مجموعة من المشاهد التي تلقي الضوء على عبثية الواقع والرؤوس التي تموج بالمتناقضات .فالكاميرة مثبتة مسلطة على الوزير الفاسد المترشح للانتخابات البرلمانية ويقوم بخداع الجماهير ، ترى هل يصدق الناس أنه مترشح من أجلهم ؟ بالطبع لن يقتنع احدا بذلك .
وكذلك ثبتت الكاميرا على سيادة اللواء الذي ينزل من سيارته الفارهة ويحدث الناس عن الديمقراطية وحرية التعبير وأحلامهم بالمستقبل وسماع شكاويهم ، والعدالة الاجتماعية ، هل يصدقه الناس ؟ لا يبدو ذلك .
ولا تنسى الكاميرا ان تظهر لنا ذلك الصحفي العاهر حيث تكشفه يسير بدون ملابس ، فقد تعرى من فرط النفاق واللعب على جميع الاحبال ولم يعد لديه ما يستره . وأخيرا تذهب الكاميرا إلى ذلك الشيخ المتاجر بالدين وبالقيم السماوية ، وقد اعتاد ان ينصح الناس بعكس ما يسلك ويتصرف في الدنيا . فهو يحث الناس على الزهد والعدل والمواجهة والشجاعة لكنه كذاب ومنافق ، ويخدم في بلاط السلطان . واخيرا تسقط الكاميرا على الارض وتتحول إلى شظايا متناثرة في جميع الارجاء ..
القصة يبدو فيها الرمز صارخا بشدة ، كما أن تقليدية الاحداث والصوت العالي للغة السرد كل ذلك ربما يتسبب من دون قصد في اضعاف المقصود بالرسالة التي اراد الكاتب ايصالها . ومن المعلوم ان الرمزية المباشرة عموما تجنح بالنص نحو السطحية على حساب العمق وقوة المعنى . ولكن يحسب للنص قدرته الفائقة على التنبؤ بالثورة وبالأحداث التي يموج بها الواقع المصري في ايامنا هذه .
وقصة " تحطم الاشرعة " إحدى مفاجآت الكاتب غير السارة ، فالكاتب يسكب الضوء على عجوزين فقيرين يمضيان في السوق ، الزوجة تحمل بيدها اليمنى شنطة من البلاستيك واليسرى مقيدة بحبل مربوط طرفه الآخر بيد زوجها اليمنى ، ويستمر الكاتب في سرد هذا المشهد الإنساني الرائع بامتياز ، وهذا المشهد في حد ذاته قصة رائعة لو توقف كاتبنا عند هذا الحد . لكننا نفاجأ بقصة ثانية متعلقة بزوجة ابنهما اللعوب التي تعشق ابن الجيران طالب الجامعة وتمضى معه لحظات العشق اليومية في غرفة الغسيل فوق سطوح المنزل حتى يكتشف العجوز الامر ويخبر ابنه الذي لم يصدق واتهم والده بالخرف وتبادلا الصفعات وسقط الأب صريعا على ما يبدو ، وجاءت الأم مع شجار الأب وابنه وعاينت المشهد ، أمسكت طرف الحبل وربطت به يدها اليسرى وطفقت تنظر إلى الطرف الآخر حيث كان الأب وظلت تبكي . وهكذا يأخذنا الكاتب إلى احد المشاهد الدراماتيكية للسينما المصرية التي تتميز بارتفاع الصوت والسطحية والمباشرة . وكأننا بصدد قصة برأسين ، أو قصتين في قصة واحدة . لكن يحسب للمؤلف رغبته باستمرار في اخفاء شيء ما في نصه وتحريض القارئ على البحث والتحري واستكمال البازل المفقود . الأمر الذي يعكس احترامه لعقلية قارئه باستمرار .
وفي قصة " جدارية " يتمازج الحلم مع الرمز ويخرج علينا الكاتب بلوحة سريالية تنتهى بحكمة ربما أراد الكاتب ان يفك شفرة هذا الحلم بعد ان اشفق على قارئه " وهي ان الانسان معادلة صعبة وغير محلولة " ، لكني لا اعتقد انه فك الرمز بقدر ما كشف شيئا كان من الأفضل ان يظل مستترا ، واللبيب دائما بالإشارة يفهم ، وليس في حاجة للتوضيح .
والذكريات دائما تجذب البشر و "حنين " على وجه الخصوص تلك الشابة الريفية الجريئة التي اعلنت وعاشت الحب بقوة من خلال المذياع لكنها متأكدة من الفراق تقول " ما دمت احببت شيئا بهذا القدر فسوف افارقه " .. وتستدعي ذكريات فقدها لكل ما احبته في طفولتها .. وهنا يضعنا الكاتب في مضمون فكري خاص يتعلق بان الاقتراب بقوة من الشيء معناه بداية الافتراق عنه . واذا ما احب المرؤ شيئا بقوة فذلك معناه أنه سوف يفارقه . وهذه احدى تجليات الحياة والواقع بمرارته وحلاوته ايضا ويمكن اعتبار ان هذا الموقف يعكس بوضوح فلسفة الكاتب فيما يتعلق بالاقتراب من الآخر وفي الحب ايضا .
ويسترسل الكاتب في قصته التالية " خوف وحنين " فلسفته المجردة حول الخوف من الموت والحنين إلى الماضي ، ويستخدم الكاتب لغة سردية غير تقليدية مشبعة بالتجريد والرمزية ، ونجح بامتياز في قتل ماضيه ليكتشف في نهاية المطاف انه قتل حنينه الدائم ولم يعد له سوى الخوف .. النص اعتمد سبر غور الحلم والولوج في خبايا التأمل والاستغراق . وحكمة الكاتب في هذا السياق تبدو منطقية في الانتصار للماضي الذي يمثل متنفسا للبشر لكي يستمرون في حياتهم وكذلك لمواجهة اشباح الخوف من الموت ومن المجهول . والنص يبدو مركبا وقد غاص الكاتب في ثناياه ويعد احد نصوص المجموعة الملفتة للانتباه .
وتشير قصة " سفران من اجل الحياة " إلى تجربة مختلفة تميزت بالتكثيف والوضوح .. في " سفر الانتظار " ذلك الطفل الذي يطلب من الراوي ان يعبر به الشارع خشية ان تدهسه سيارة مسرعة ، ثم يفر بسرعة بمجرد ان عبر به الشارع إلى الامان .. وفي سفر "الوقوف " يختلف المشهد ، سائق سيارة الاجرة ينطلق بأقصى سرعة قبل ان يوقفه الشرطي ، ثم نسمع صوت خافت في الخلفية يتمنى على السائق فرم هذا الشرطي ، في انعكاس ذكي لأفكار واتجاهات الناس حول هذه النوعية المتغطرسة من جنود وضباط الشرطة في علاقتهم بالجماهير .واشهد ان الكاتب في هذين السفرين بلغ قمة تجربته القصصية في السرد والتكثيف والفكرة ، واصبح قادرا على نسج مشهده القصصي ببراعة .
ويبدو ان للرومانسية نصيب واسع في هذه المجموعة القصصية لكاتبنا الذي يشدد على قيم الكفاح والصبر والمصابرة والنضال من اجل تحقيق الحلم الهدف . كما يؤكد كثيرا على روح التحدي من اجل تغيير الواقع بآخر اجمل . وتعكس قصة " قوالب تصنع الحياة" هذه المعاني تقريبا . الشاب الذي تحدي والده وتزوج من يحبها ، وعاشا معا لحظات صعبة وشكلا فريق عمل نضالي من اجل ان يكون لهما بيتا خاصا بهما ونجحا في نهاية المطاف في بناء المنزل بالدماء والعرق .. اللغة السردية بسيطة ، والمشهد منسوج ببراعة ورومانسية مفتقدة في ايامنا هذه .
واخيرا يدخل الكاتب في تجارب مع ما يسمى بالقصة الومضة ، أو الشرارة ، وتبدو قصة " نقاب " مميزة وتعكس مدى الاضطراب الفكري المصاحب لهذه المسألة . والمجموعة اجمالا تشي إلى اننا بصدد كاتب بارع يمتلك ناصية الحكي وادواته بأريحية ، ولديه مخزونه الفكري الخاص الذي يعد بالتميز وبالأصالة وهذا ما ظهر في نصوص هذه المجموعة بوضوح على الرغم من كونها تجربته المنفردة الاولى في عالم نشر الكتب .
د. احمد الباسوسي
معالج نفسي وقاص


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.