المتأمل في المجموعة القصصية »جزيرة الحرمان« للقاص شوقي السباعي يشعر بقيمة ما أنجزه فن القصة القصيرة عند المتلقي بشكل عام، وذلك لأن فن القصة القصيرة يلعب دورا هاما في تحديث الرؤي وبلورتها من خلال ماتطلقه القصة القصيرة من أسئلة متوترة تسهم في خلق إجابات متعددة، تتعدد بتعدد المواقف والأيديولوجيات وبتعدد القراءات واختلاف أوجه الرؤي. وأول ما يلفت نظرنا في هذه المجموعة هو العنوان »جزيرة الحرمان« العنوان الذي يدهشنا بإيقاعه الموسيقي ومفارقته اللغوية، فهذا السياق الأسمي »جزيرة الحرمان« يدفعنا إلي عدة دلالات مشحونة بمعان تهدف إلي التضاد أكثر مما تهدف إلي التوافق وتفتح الباب واسعا أمام مايمكن أن يولده هذا المركب الاسمي من أسئلة قلقة للكشف عن ماهية العنوان ومختزله الفكري والاشاري فكلمة جزيرة تحمل معني التعدد في ذاتها والتضاد أيضا فربما تشير إلي جزيرة نائية بعيدة وهنا فالمفردة تحمل معني الخوف والرعب، وربما تشير إلي جزيرة ممتدة عن النهر بما تحمل من جمال طبيعي وهنا تشير إلي الراحة والاطمئنان، وعلي المستوي اللغوي في خبر حذف مبتدأه نظرا لأهمية الخبر في البناء اللغوي الملفوظ وكذلك ارتباطها بكلمة الحرمان تلك الصفة التي لا تلائم الموصوف وتحيله إلي انزياحات عدة ربما كان الهدف منها صدمة المتلقي وتهيئته لتلقي باقي الصدمات المؤلمة التي تكشف عنها متون النصوص في هذه المجموعة التي تحكي الواقع الانساني الريفي المصري البسيط بكل تجلياته وفق حرفية قصصية متمرسة وأنا هنا لا أضع فرضية مسبقة وإنما هذا ماكشفت عنه قراءة نصوص المجموعة. وتأتي الفضاءات العامة لقصص المجموعة كاشفة عن حرقة ومعاناة وتجربة في الحياة، هذه التجربة التي يمر بها كل إنسان يعيش واقعا مأزوما، فيحلم كما يحلم الجميع ويتألم كما يتألم كثير من الناس، علي اعتبار أن المجموعة القصصية هي في الأول والأخير مجموعة من الآمال والآلام التي أحسن القاص تطريزها باستقائها من المخيال الفردي والجماعي، إيمانا منه بأن الإبداع مرآة تعكس التغيرات الجوانية للنفس الإنسانية، وتحكي هموم المتلقي بلسان الكاتب، حيث تلتقي المصالح المشتركة بين المبدع و المتلقي. افتقار الوضوح وتشكل هذه المجموعة امتدادا متناميا لقصص القرية والريف المصري الذي احتل مساحة واسعة في ذاكرة القص في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وذلك بتكرار نفس الأجواء الرمزية والعوالم الميتافيزيقية في التعامل الحسي والنفسي مع معطيات وإفرازات الواقع المرئية وغير المرئية أيضا، إلا أن ما يؤخذ علي القصص هنا أنها تفتقر إلي وضوح الرؤية المنهجية في التشكيلات الفنية والفكرية لهذا نجد ثمة مراكز متعددة للقاص في رصد الحركة والفعل والحدث في عميلة تمثيل الواقع الانساني المعاش فتارة يستخدم الرمز كما في قصة »شواء/ قلب ميت« وتارة يستخدم الفنتازيا كما في قصة »مساءات أبدية / تغييبة« وتارة يلجأ إلي الواقعية الشعبية في التعبير عن جدل الواقع الطبقي والقومي في المرحلة التاريخية الراهنة للريف المصري كما في قصة »جزيرة الحرمان«. وإذا كان من بين مهام اللغة نقل الواقع بآلية معينة يفهمها الأديب فقط دون غيره فإن القاص في قصة جزيرة الحرمان استطاع ان ينقل الواقع المحزن في القرية المصرية بلغة محددة سلفا وتعكس بأسلوب أدبي ما آل إليه المجتمع من إهمال ومعاناة الفلاح الضعيف،نظرا لتردي أحوال الناس وانحطاط المجتمع وكثرة الصفقات الوهمية التي ينتفع منها المنتفعون في هذا البلد فيقع الإنسان ضحية لهذه الخروقات والإهمال، فبطل القصة الذي بدا مدللا ونموذجا فريدا غنيا بحالته النفسية ووضعه الطفولي المميز ينتهي محروما فقيرا نفسيا وماديا علي حتي مستوي المشاعر صار مسلوبا عاجزا عن أن يحقق حلمه في إقامة علاقة عاطفية مع إنسانة أحبها أو توهم انه يحبها مستعرضة بشكل واضح وفاضح للواقع المزري وأخطاء الآباء القاتلة وفقدان القيمة الإنسانية في موت أصحاب الخبرة والفطرة، ومرتبطة كذلك بالحالة النفسية للأصوات المتحاورة داخل هذه القصة التي بدت وكأنها فصل من رواية حتي علي مستوي استخدام الجملة القصصية فيها والتعامل مع الفضاء الزماني والمكاني ومع ذلك فالبطل في هذه القصة لا يمتلك غير الذكري والألم والمرارة ويظل أسير النوازع الرومانسية والتطلعات الفوقية لكنه يعجز عن تحقيقها كنوع من العجز العام الذي يصيب هذا العالم القروي الوسنان الغافي المحروم من كل شئ. رؤي نافذة ويلجأ القاص في قصة » الذاكرة البيصاء « إلي لعبة الصور0والأفكار في التداخل الصوري والتزاوج الفكري ومعالجة الحدث بطريقة المونتاج فالبطل حين يفقد هاتفه المحمول الرخيص الثمن إنما يحزن لأنه فقد السند الذي يحقق له إنسانيته وذاته المحتاج إلي الشعور بها، فهو لم يكن حريصا علي الهاتف بقدر حرصه علي الأسماء المسجلة عليه من العظماء وعلية القوم والذين لا يعيرونه اهتماما رغم حرصه الدائم علي افتعال المناسبات لتهنئتهم وكان موفقا في استخدام المونتاج وتداخل الصور والأفكار كمبرر فني لتكرار الحدث والوصول بالبطل إلي الحقيقة الصادمة وهي وحدته وغربته وانحطاط شأنه بين الناس فلم يعد حريصا علي هاتفه رمز الوجود الانساني ووهم الذات لأنه وصل إلي الحقيقة المرة فألقي به في النهر. إنها رؤي نافذة في قلب العالم، رؤي تتقاطع عموديا وأفقيا مع الطرح الانساني للمحرومين والذين يشبهون الأنعام في الحياة، وتعبر عن آلامهم وآمالهم بكل صدق وإحساس مرهف، وربما كانت لهذه الطريقة في الكتابة أثر كبير في نفسية المتلقي حيث إنه يصبح عنصرا مشاركا في عملية السرد القصصي. كما يصبح المتلقي هدفا عندما يستوعب المجموعة القصصية ويتذوق دلالاتها وحمولاتها الفكرية، ومن تم يتحول بدوره إلي عنصر مشارك متورط في عملية السرد، وذلك من خلال قراءة ما وراء السطور، فلا تلبث عيناه تزيغان عن القراءة حتي يجد نفسه منغمسا في جوهر مواضيع المجموعة القصصية، فيتدخل في اقتراح مجموعة من الحلول الممكنة التي تعطي تفسيرا وتأويلا للأسئلة المطروحة، والإشكاليات التي تبقي معلقة وتحتاج إلي إجابات تقترب أو تبتعد من المشروع الفكري والمنهجي المخزون والمنقوش في ذاكرة القاص شوقي السباعي. ويمكن اعتبار قصص »جزيرة الحرمان« سيرة ذاتية ممتدة في التخييل الذاتي تحكي تجارب القاص المختلفة والمتنوعة مع الواقع المعيش والمحيط الاجتماعي الذي ينقله من خلال المنجز القصصي، فاضحا مجموعة من السلوكيات الخاطئة التي تمارسها فئة عريضة من فئات المجتمع. توريط القاريء ونلاحظ كذلك بأن القاص يتكلم في قصصه بضمير المتكلم في كثير من قصص المجموعة في إيهام بالترجمة الذاتية أو بضمير الغائب ليختبئ وراء الشخصيات لكي يتمكن من تسييرها وحثها علي تأدية أدوارها انطلاقا من منظوره الخاص، فنري بأن القاص يشرك القارئ المتلقي في عملية السرد بل يورطه في أحايين كثيرة في تشكيل الرؤية إلي العالم انطلاقا مما يسمي بعملية التلقي والتأويل، بل أحيانا ينسحب القاص ليتدخل القارئ في بلورة هذه الرؤية وتحديدها مثلما في قصة »شواء« والتي تعد في تقديري من أجمل قصص المجموعة ففي هذه القصة التي تبدو فيها كبكبة الزمن حيث البطل المقبل علي الشواء يستدعي الموقف عنده طفولته وما عاشه من حرمان فتتري الصور أمام عينيه ثم يتركنا القاص أمام مشاهد تتطلب من التورط في تفكيك النص وتأويله واقتحام السرد بشكل مدهش، وهنا يمكن استحضار الصراع المحموم حول موت الكاتب، فالكاتب لا يموت باعتباره الشخصية الفاعلة وإنما يموت باعتباره الشخصية العاملة، بمعني موته كعامل نحوي ليحيا بدله القارئ وينتج نصا يتماشي وذائقته أو لذته القرائية. مستويات البنيه الفنية ومما يميز »جزيرة الحرمان« هو ما يسميه النقاد بالشعرية فلم تكن المجموعة القصصية مرآة تعكس الواقع بشكل آلي وإنما كانت ترفعه إلي عالم المتخيل الذي يمزج بين الواقع و الخيال، بأسلوب السهل الممتنع الذي ينقل معاناة المجتمع بجميع شرائحه و فوارقه الاجتماعية، حتي أن كل واحد يفهم ذلك الحرمان حسب مستواه الثقافي، وهكذا تتعدد القراءات بتعدد الرؤي والزوايا النقدية. والبنية الفنية في »جزيرة الحرمان« بنية بسيطة لا تغرق في الترميز والغموض الذي يفقد الكتابة الأدبية مصداقيتها ويبعدها عن الواقع الاجتماعي، فالألفاظ تتحرك بحرية من التركيب إلي التعبير لتصل أخيرا إلي مرحلة الدلالة لتتخذ الجمل القصصية بعدا فكريا وعمقا دلاليا. كما كان لبنية الأفعال دور هام في حركية القصص حيث اشتغل القاص شوقي السباعي علي الأفعال الماضية التي تستحضر المتخيل المتراكم في الذاكرة لتوظيفه داخل فضاء القصة، ومن الماضي ينهض ويتحرك في اتجاه المضارع الذي يزيد من وتيرة الحركية المفضية إلي المستقبل الملئ بالمفاجآت والفاضح لمستجدات الواقع ومتغيراته . وفي قصص كثيرة من هذه المجموعة نلاحظ أن القاص وكأنه يحمل كاميرا علي كتفه ويتجول بها في الأزقة وداخل البيوت، وينقل بحرفية ما تلتقطه عدسة كاميراته من وقائع وأحداث اجتماعية. فالواقع هنا يختلف عن الواقع الفيزيقي لأنه يمزج بين مادية الواقع وإحساس الأديب، لأن المنجز الأدبي يعتبر نتاجا حياً للفكر والإحساس ونتاجا لما يحس به الأديب من صدام بينه وبين الواقع، ومن هنا ينبغي أن نميز بين الواقع كما هو قائم في العالم الموضوعي، وبين الواقع كما يرتئيه الأديب.