يعد فن القصة القصيرة من أصعب فنون القص ، كونه يعتمد على التكثيف والتركيز فى التعامل مع اللغة ، بما يقترب من لغة القص إلى لغة الشعر ، ومستفيدا فى الوقت ذاته من تقنيات الفنون الأخرى كالرسم والتصوير والسينما والدراما وغيرها ، بحسب ما تتطلبه كل قصة من رؤية وتعبير. ورغم أن القصة القصيرة لها روادها الذين قدموها للمتلقى العربي وخطوا بها خطوات واسعة ، إلا إنها لا تزال بحاجة للدرس النقدي كونه يملك العديد من الخصائص والإمكانات النوعية التي تجعل من قراءته متعة لا يمكن مقاومتها حينما يكون النص عاليا فى مستواه . بالطبع ليس كل من كتب القصة القصيرة على مستوى واحد أو حتى متقارب ، فالأمر معقد ، ويبقى للذين يمارسون فن كتابة القصة القصيرة شرف المحاولة فى تجويد أدواتهم والبحث عن تقنيات سردية ترتقى بمشاريعهم القصصية إن وصل ذلك حد المشروع الكتابى ، الذى يتطلب كثيرا من الجهد والمثابرة وإعادة الكتابة من أجل التجويد . وهنا فى قصص " حسبتني سندريلا " للكاتبة " أمل الشريف " نلمح منذ البداية ملامح السرد الموضوعي ، حيث البطل " سين " مجهول الهوية فى قصة (أسراب الهموم ورحيل الروح ) حينما دخلت إلى جو النص من منطلق الطبيعة ومسلماتها فتقول : ( بين إغفاءة الليل وإنبثاق الفجر يولد النهار ..) ، ثم تدخل لعملية السرد من خلال الاتكاء على عملية الإنابة فى الإفراغ الوجدانى واستخدام الوصف للتدليل على عمق معاناة " سين " وتجيد الكاتبة عملية التضفير لسرد الهموم وتقدم عالما قاتما مزعجا يتوافق تماما مع فكرة العنوان " أسراب الهموم .. ولنقرأ معا قول الراوى: (توجهت الى النافذة ونظرت الى الفضاء المحيط بها فما رأت غير بحر ممتد وطيور سوداء تتلاحق فوقه لتكون بقعة داكنة فى السماء كتلك التى بداخلها.) ونلاحظ بعد هذا المقطع من القصة ظهور الراوى البطل بديلا عن الراوى العليم، فتقول : (آه .. كم أتمنى أن أنغمس فى بطن هذا البحر..لم أعد أتحمل البقاء فى هذاالمكان البغيض ) . وهذا التمنى يدل على عمق المعاناة التى يعيشها البطل / البطلة ، ومن خلال الاسترجاع ينطلق بنا الراوى العليم عبر حركية الزمن وعبر أمكنة مختلفة ، تسلط فيها الكاميرا وأقصد الكاميرا هنا بالسرد السينمائى الذى يتعامل مع لوحات واقعية أورمزية فى الحياة ،لتنعكس كل تلك المرائي على نفسها ويزيد إحساسها بالحزن ، فتقول : (الريح تشتد .. تواجه جسدها النحيل .. تتلاعب به .. ظلت تقاوم الإندفاع الى الوراء .. لم تبالِ .. ولكنها خطت بخطوات قصيرة .. بطيئة .. تجهش بالبكاء ... ) . وهنا نجد مدى الشد والجذب بين الحياة وبين ( البطلة / س ) وعدم استسلامها رغم البكاء الذى يظهر لنا على السطح ، هو إصرار لمواصلة الحياة . أمام كل ما سبق من إصرار دفين على مواصلة الحياة تظهر محاولات يائسة للتخلص من تلك الحياة فتقول: (الريح تشتد والبرق يلمع فى صفحة السماء .. يتلوه صوت الرعد المخيف .. و " سين " تزرع الطرقات .. والممرات .. حتى أنهكها التعب .. وأعياها الجوع .. جلست على أريكة أمامها .. أغمضت عينيها ووضعت يديها على جبينها : ( أما سبيل لنزع هذه الروح من هذا الجسد ) . لنشعر بحتمية التوافق من جديد فى العنوان وعطف رحيل الروح على أسراب الهموم ، والحقيقة أننى رغم المعاناة النفسية والجو العبثي الذى واجهته البطلة " سين " لم أجد مبررا لرحيل الروح كون النص يسير فى معظم مناطقه نحو الصمود ومجابهة الريح التى تحاول اقتلاع الجسد كمادة والروح كشق معنوى . ولعل الدليل على ذلك ما أوردته القصة أيضا فى فقرة لاحقة فتقول : (وغاصت فى أعماقها .. تفتش عن شئ جميل رابض هناك بداخلها .. ربما يخفف عنها حملها .. فتاهت بأعماقها .. وأجهشت بالبكاء .. ) ، وهنا تلمع محاولات المجابهة على المستوى النفسى المعنوى للخروج من تلك الأزمة النفسية التى واجهتها البطلة فى هذا النص ، لتختم القصة بتلك الفقرة التى تعبق بالأمل فتقول : (أحست " سين " بيد طفلتها تربت على كتفيها وتمر على شعرها .. تنبهت .. رأت الإبتسامة تفرش وجهها .. فأخذتها بين ذراعيها .. وأدركت أن الأوراق المتناثرة حول مكتبها وإبنتها حسِّا بما ألمِّ بها . ) . الكاتبة أمل الشريف قدمت فى هذا النص سردا موضوعيا جيدا شعرنا فيه بالحزن لما تعانيه (البطلة / سين ) واحترمنا تلك الشخصية التى أحبت الحياة وقاومت من أجلها ، ولم تستسلم لعبث الواقع من خلال الهروب إلى عتبات الماضى والنهوض تماما على أكتاف المستقبل " طفلتها " . بينما نجد فى قصة " من دائرة الصمت الى صخب الموت " اعتماد الكاتبة على فكرة منح المتلقى ملخصا منذ البداية للشعور العام للقصة ... الإجمال ثم التفصيل هكذا سارت حركة السرد فى هذا النص ولنقرأ هذه الفقرة حين تقول : أوراق مبعثرة على طاولة الكتابة .. ضوء خافت جدا .. وذكريات حملت في طياتها أعواما طويلة .. بدأت بحب أفلاطوني الى نهاية مفعمة بالألم .. " الحقيقة أن القاصة تزاوج بين ضمير الغائب وضمير المتكلم فى عملية السرد فضمير الغائب كما يقول " تودروف " ( ضمير الغائب هو علامة على ميثاق واضح بين الكاتب والمجتمع، إلا أنه أيضا، بالنسبة للكاتب الوسيلة الأولى للاستيلاء على القارئ بالطريقة التي يريدها). إذن فهو ميدان خصب يجب على القاصة استثماره بحيث ينجح فى استخدامه استخداما نوعيا ، يؤدي إلى تحريك حركة السردالقصصي . وهذا ما حاولته القاصة هنا فى هذه القصة بوضوح .. ولعل آليه السرد الموضوعي هي الآلية المهيمنة على السرد القصصي في هذه المجموعة كونها تحاول دائما إشغال مساحات سردية بحالات ورؤى تبدو كأنها خارج الذات الساردة ، محاولة إيهام المتلقى أنه ليس ثمة علاقة بينها وبين الحدث أو فضاء هذا السرد ، وبحيث يصبح عنصر التخييل والإيهام الحكائي وحركة السرد هى الفعاليات المسيطرة على عقل السرد القصصي وهو يروي ويشير ويرمز. ومن الجدير بالذكر أن هناك محاولة مهمة من الكاتبة لتوحيد " بطل / سين ".. المجموعة بحيث يلمح المتلقي فضاء المتوالية القصصية وهذا ما توافر عبر فضاء المجموعة من الانتقال من فضاء قصة قصيرة إلى أخرى من خلال البطلة / سين التى تربط بين كل تلك الفضاءات المتشابهة والمتقاربة ، حتى وإن كان البطل مبهما لا يستدعى كشخص من لحم ودم فإننا نستطيع أن نقول أن بطل هذه القصة هو ذاته بطل القصص السابقة عليه أو التالية .فنجد " سين " فى ( زغرودة القمر - لست كبائعة اللبن – كرامتي - المشهد الأول ... ) . وربما يقف الأمر عند هذا الحد من القصص .. على اعتبار أن المجموعة القصصية هذه تحمل تقسيما آخر يتعلق بالفضاء الشعري وحتى طريقة الكتابة تتوافق مع كتابة الشعر الحر أو قصيدة النثر وتعتمد فيها القاصة على التكثيف والحوار والشاعرية والتى بدت ملامحه فى قصة " زغرودة القمر" فتقول: (هناك .. عند البحيرة .. وجدت كل النوارس البيضاء.. تزف قدومها .. وتملأ الفضاء السرمدى بأصوات جذلة .. تبارك حريتها .. مرفرفة بأجنحتها الفضية مهللة.. فقفزت " سين " فى الهواء وكأنها تتشبث بجناحى إحداهما .. ليحلق بها عاليا .. فابتلت قدميها بماء البحيرة .. شعرت بقشعريرة تسري بداخلها .. لكن .. راودتها فكرة مجنونة .. أن تنغمس داخل البحيرة بكامل جسدها .. وفعلت .. فأحست بماء الحرية العذب يداعبها .. ويحتويها فى حنين.. وكأنه يحتضنها .. فأنعش روحها .. وبعث فى أوصالها نبض الحياة ) ثم فى قصة" المشهد الأول " حيث تقول : ( تنتظر قدومه كعادتها كل ليلة .. تميل بها الرياح ويقرصها البرد .. تجلدها كرات الثلج الشتوية.. يرتعش جسدها ؛ وهي تتلذذ الإنتظار .. ) . هذه فقرة شاعرية تحمل كما مبدعا من المشاعر ، لتنطلق القاصة عبر التقسيم الثاني الذي يحمل صراحة اللوحة والكتابة بداية من ( أنثى الكبريا – اعتذر – رقص ليلة شتاء – غروب حب ... الخ ) ولنقرأ معا هذه الفقرة من رقص ليلة شتاء التي تقوم على الحوار بين قال وقالت : قالت :راقصني .. مولاي .. أعشق رقص ليل الشتاء سامبا .. تانجو كيفما تشاء ودَع الكورال يعزف لحن وفاء ودُر بيْ ، ودُر ف السماء فوق الغيم خذني وبين جناحيك قل ضمي وضمي .. وضمي ورتل وغني أنا مثلك أحب الغناء لقد قام الحوار في هذه النصوص على تفعيل الحضور الذهني والنفسى للشخصيتين المتحاورتين وأتاح لهما حرية التعبير عن خلجاتهما ، ورفع حالة الوصاية التى لمحناها بعض الشئ من الراوى فى القسم الأول من المجموعة .رغم أن الحوار جاء أحاديا عبرت فيه شخصية واحدة عن حركة وعيها الداخلى في حضور متلقٍ واحد متعدد ، حقيقي أو وهمي ،وهو أقرب للمونولوح أو المونودراما منه لأي شيء آخر . ثم نلمح أطياف القصة القصيرة جدا فى القسم الثاني أو فلنقل بأن تقسيما ثالثا داخل فضاء المجموعة جاء معتمدا على التكثيف الشديد واللغة الدالة واللوحة الخاطفة كما فى ( غروب حب – قدر امرأة - حسبتني سندريلا – حسبته ينادينى – أنا والبحر ) . ولنقرأ هذه الأقصوصة حسبته ينادينى : ( قال : ياقدري ، يا أملي ، ياكل كل الحياة .. حسبته يناديني ..التفت ؛ وجدته : يمسك بطرف ردائها !!!! ومازلت أركض بين أحلامي الفوضوية .. ويل لقلب أرهقته الأيام ...... ) هكذا عبَّرت القاصة فى سطور قليلة عن حالة من الفقد والحرمان فى علاقتها مع الآخر الذي تحبه بينما هو ينشغل بأخرى .. معبرة عن عمق المعاناة وطولها من خلال ختام الأقصوصة حينما أشارت للزمن وطوله فى قولها : ويل لقلب أرهقته الأيام ... الكتابة القصصية تحتاج لبعض الانتظام ، لكنها فى كثير من تلك النصوص جاءت على قدر كبير من ذلك ، وهى تبشر بملامح كاتبة قادمة تحمل حسا سرديا يقوم على اجترار هموم الذات ليعبر عبر مفازات الواقع تحية للقاصة أمل الشريف فى مجموعتها الأولى " حسبتني سندريلا" التي حملت فضاء المتوالية القصصية وفضاء الشعر وفضاء يمزج بين السرد القصصي والشعر .. ولعل ذلك يضع أيدينا على أن الكاتبة ما زالت فى مرحلة البحث عن طابع يميزها فى الكتابة .. حتما بالمثابرة والإصرار على الكتابة سيتحقق ذلك .. وليس ذلك ببعيد .. لأن لديها القدرة على فعل ذلك بما لديها من أدوات بدت جليةً فى ثنايا نصوصها .