فى زمن "الترند" واللايكات، لم تعد القيم تُغرس فى البيوت والمدارس، بل تُبث على شكل فيديوهات قصيرة، رقصات سخيفة، أو "تحديات" لا تعترف بالعقل ولا بالأخلاق. تيك توك – رأس الحربة فى هذه الثورة الرقمية – صار يشكل خطرًا حقيقيًا على نسيج المجتمعات، التي تعاني من الهشاشة الثقافية. ولأن أمن الوطن مسؤوليتهم .. وأمن المواطن جزء من تلك المهمة.. والحفاظ على قيم وثوابت المجتمع وأخلاقياته وهويته يأتيان فى مقدمتها.. كما أن الأمن الداخلي والحفاظ على السلم المجتمعي جزء لا يتجزأ من مهمتهم الوطنية التي أقسموا يمين الولاء عليها؛ كان تحرك الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية خلال الأيام الماضية حفاظا على المجتمع.. وتنفيذا للمهمة المكلفين بها، وهي حفظ أمن واستقرار وسلامة البلاد، ومواجهة أكبر عملية تدمير ممنهجة لقيم وأخلاقيات المجتمع، عملت عليها قوى الشر فى إطار عملية تجهيز المجتمعات للفوضى. الأسابيع الماضية نجحت الأجهزة الأمنية فى القبض على عدد ممن يطلقون على أنفسهم، صناع المحتوى (تكتوكر ويوتيوبر)؛ وهم ليسوا سوى صناع فساد أخلاقي، وإحدى أدوات عملية تدمير الشعوب من الداخل. فهم لعبة فى يد من يحركونهم بالخفاء عبر الشاشة الزرقاء، لخلق مجتمع فاقد لهويته وانتمائه وأخلاقياته وقيمه، وهي إحدى أخطر مراحل تجهيز المجتمعات للانقضاض عليها، وصناعة الفوضى بها. ففي الوقت الذى كانت أدوات وعناصر تجنيد هؤلاء الشخوص تعمل باحترافية شديدة فى السيطرة عليهم.. ليقدموا للمجتمع نماذج سطحية فاقدة للهوية، تعيث فسادا وإفسادا للقيم والأخلاقيات المجتمعية، وترسخ فكرة الثراء السريع من لا شيء، سوى عرض الأبدان، وتقديم محتوى مليء بالألفاظ الخادشة للحياء والمدمرة لثوابت الأسرة. بدعوى الترند، تدافع هؤلاء بحثا عن الثراء على حساب أي شيء يخالف القانون، فكانوا بمثابة خناجر تطعن فى جسد المجتمع. كانت تحركات الأجهزة الأمنية لمواجهة هذا السرطان المدمر للمجتمع من الداخل، بعد تصاعد البلاغات المقدمة من مواطنين ضد عدد من البلوجرز، يتهمونهم بنشر محتوى «يخالف قيم المجتمع المصري»، ومطالبين بفتح تحقيقات موسعة فى مصادر تمويلهم والأنشطة التي يمارسونها عبر منصات التواصل الاجتماعي. فلم تقف وزارة الداخلية مكتوفة الأيدي أمام هذه الظاهرة، التي وصفها خبراء بأنها "إساءة مقننة" عبر الإنترنت. فقد كثفت الإدارة العامة لحماية الآداب جهودها لرصد وضبط المخالفات الإلكترونية ذات الطابع الخادش أو المسيء. وعلى الفور قامت الأجهزة الأمنية المتخصصة بمتابعة المحتوى الذي يقدمه هؤلاء (لا يليق أن نذكر أسماءهم فى وسائل إعلامنا لأنهم ليسوا سوى أدوات سيئة السمعة) وتم تقنين الإجراءات القانونية بشأنهم، بعد تحليل بيانات الصفحات الخاصة بهم عبر الأجهزة المتخصصة داخل وزارة الداخلية، للتأكد من صحة البلاغات، وعقب إلقاء القبض على 11 بلوجر تم عرضهم على النيابة العامة وفق القانون، لاتخاذ الإجراءات القانونية بشأنهم. لقد عمل هؤلاء المخربون تحت شعارات خداعة، يسوّق البعض أنفسهم على أنهم "مؤثرون"، فيما هم فى الحقيقة يسهمون فى تقويض المنظومة القيمية، لا سيما لدى فئة الشباب والمراهقين، من خلال محتوى يضرب بأخلاقيات المجتمع عرض الحائط، ويستغل الفضاء الرقمي لأغراض تسويقية أو ربحية، سواء عبر الإعلانات أو جمع التبرعات أو جذب عقود دعائية. إن ما قامت به الأجهزة الأمنية الأسبوع الماضي يعد ردعا لكل من تسول له نفسه أن يقدم محتوى يهدم به قيم وأخلاقيات المجتمع. وهنا لا بد أن أشير أيضا إلى أن تيك توك ليس مجرد تطبيق، بل آلة إدمان متقنة. خوارزمياته مصممة لجذب الانتباه لأطول فترة ممكنة، وكلما أطلت البقاء، كلما ازداد المحتوى تطرفًا وسطحية. وفقًا لدراسة نُشرت فى Journal of Behavioral Addictions، عام 2023 فإن استخدام السوشيال ميديا بشكل مفرط يؤدي إلى تدهور الصحة النفسية، ويخلق حالة من القلق والاكتئاب، خاصة عند المراهقين. إن تسطيح الوعي وتشويه القيم يعد المحتوى الرائج على تيك توك فهو يروّج لقيم جديدة تمامًا تسوق للشهرة الفورية على حساب المضمون، وتسليع الجسد والأنوثة، والتحفيز على التصرفات الطائشة للحصول على المتابعة. لم يعد "الشخص المحترم" أو "المجتهد" هو القدوة. الآن، من يملك كاميرا وحركات استعراضية يمكن أن يصبح نجمًا. هذا يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويزرع مفاهيم خطيرة مثل: المكانة الاجتماعية تُشترى بالمشاهدات، لا بالمبادئ. ما كان يُعد سابقًا خادشًا للحياء، أصبح اليوم "محتوى جريئًا"، وما كان يُستنكر، يُحتفى به على أنه "حرية شخصية". تيك توك وغيره من المنصات سهّلوا نشر المحتوى المخل، دون رقابة حقيقية. والنتيجة؟ تطبيع ألفاظ وسلوكيات خارجة. انهيار مفاهيم مثل الحياء، الاحترام، والخصوصية. لقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي منبرا للشائعات وتزييف الوعي. ففي وقت الحروب والأزمات، صار تيك توك وسيلة تضليل بامتياز. معلومات كاذبة تنتشر كالنار فى الهشيم، دون مصادر، ودون محاسبة. وهوما يُضعف الوعي السياسي ويغذّي الانقسام المجتمعي، ويخلق رأيًا عامًا هشًا وسهل التوجيه. بالإضافة الى تفكيك الأسرة والعلاقات الاجتماعية لقد استطاعت السوشيال ميديا أن تخلق فجوة بين الأجيال: الآباء لا يفهمون ما يستهلكه أبناؤهم. الأبناء يعتبرون الجيل الأكبر "رجعيًا" وغير مواكب. كما أن الهوس بالمظاهر والإنجازات الزائفة يُشعر الآخرين بالدونية، ويؤدي إلى تفكك العلاقات، وتحول التواصل الإنساني إلى تفاعل رقمي بارد. فى الختام السوشيال ميديا، وخصوصًا تيك توك، ليست فقط منصات ترفيهية. إنها أدوات ثقافية عميقة التأثير، تُعيد تشكيل الأخلاق والقيم، وتخلق نموذجًا إنسانيًا جديدًا قائمًا على السرعة، السطحية، والمظهر. إن المجتمعات التي لا تمتلك مناعة ثقافية قوية، ستذوب أمام هذه القنبلة الناعمة.