حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بوح الصحراء

هكذا وجدت التشخيص بعد خمس سنين عجاف من تقرحات الروح والجسد ولا بديل عن الكورتيزون لإيقاف الزحف الذي بدأ من الفم وكما شخصه العلامة النفساني حسين عبد القادر أنه صوم عن الكلام وقطع للصلة بالآخرين ممن خانوا الروح وخذلوك.
تأرجحت الآمال بين أقوال حكماء وأطباء في بلاد الدنيا بين تشخيص للعرض دون اكتناه جوهر المرض وظللت متجلدا أمام تساؤلات الأصدقاء التاريخيين : أين وسامتك القديمة وما كل تلك السِمْنة؟
وحتي في الحارة الشعبية حيث ميلادي قابلتني نسوة الحارة بهمسات : ماشاء الله العز ظهر عليك.
ولم أكن قادرا علي تعليق لافتة علي صدري إنه الأثر الجانبي للكورتيزون الذي يحجز المياه والأملاح تحت الجلد ويحيل الوجه لما يسمي Moonface
وجه قمر مستدير كباذنجة تبدو فيه العينان كخرزتين سوداوين محاطتين بدائرتين بيضاوين.
ولا سبيل للفكاك من الكورتيزون وآثاره الجانبية اللعينة من توجس وريبة وهلع نفساني مزيف وثقل في الحركة وهَم بالروح لا ينقضي,
كسل في الحركة مشاريع كتابة لا تتم أبدا واغماءات مزيفة.
فضاء السماء مفتوح والقمر في يومه الثالث عشر يقاوم عتامة غبار القاهرة ...
حاولت تفادي القمر
لو نظرته مليا
سأقاسي أسبوعا كاملا من الأرق وهدة البدن
خشية من ضوء للقمر أشعره يأتي ملوثا .
أعطيت ظهري للقمر ونظرت في اتجاه آخر , العين تنشد براحها وتصطدم بأبراج أسمنتية تغطي علي منظر كان مبهجا لصحراء الجيزة وسقارة وعشرة أهرامات وكان قبلهما النيل, عشرات الرماح الأسمنتية والخرسانية وقفت مابين الروح وبراحها.
ما أنا فيه أسماه ابن سينا في قانونه عن الطب هَمٌ وانعقد بالقلب
ووصفه المتنبي ببساطة
علي قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوباً أو شمالا
مشتت بين ما يستحقه اليوم من شاعرية وكتابة وفن
يحلق بعيدا في براح النفس
وبين واقع غارق في أوحال السياسة
ربما أشعر بالحاجة لنمو براعم الأجنحة فوق الكتفين الآن والتحليق بعيدا للبراح , خارج دائرة الهموم - استراحة قصيرة للروح والنفس.
فجرا قرأت عن آبار الماء الساخنة الرومانية في الفرافرة وتحبيذ نزولها مع اكتمال القمر بدرا, لتمام الأسطورة حيث تقوم الطبيعة بالتوحد مع السابح في الماء فيتبادلان الأخذ والعطاء تسحب المرض وتمنح الصحة والراحة .
من الممكن أن يكون للصحراء مزاجها المتقلب اذ يمكننا أن نظهر حبها وعطفها )
في بعض الأحيان ويمكنها كذلك أن تذيق محبيها طعم الجحيم, الا أنه في الصحراء يمكنك أن تختبر صبرك ومقدرتك علي مواجهة كافة أنواع الصعاب، وهنا كذلك تتذوق لذة الانتصار, انه في الصحراء حيث تشعر أن الهواء الذي تتنفسه يبدو نقيا وأن الماء أعذب مذاقا , وفي سكونها تكون أفكارك دائما نبيلة وقلبك حافلا بالتسامح.
تسلل الي شيخ الآثاريين العلامة أحمد فخري في مقدمته للموسوعة النادرة الثرية عن الصحراوات المصرية البحرية والفرافرة.
تليفون قصير للإستعلام عن مواعيد المواصلات للفرافرة .. بعد ساعتين .. ما الذي أحتاجه للوصول للفرافرة؟ اختيارات مفتوحة .. ماذا أحتاج ؟
جهاز الكومبيوتر المحمول .. وصلة الانترنت .. أقراص مفضلاتي الموسيقية والكتب .. ملابس تكفي مدة غير محددة.
وقفت دقائق أمام حقيبتي المفتوحة والدولاب مشرع والملابس راكدة ... وعلي الأرض الأقراص المنتقاة وحقيبة الكومبيوتر ..ثوان قليلة كانت كافية لإتخاذ أول قرار حاسم ... تركت الحقيبة والملابس والأقراص والكومبوتر علي حاله
فتحت قلبي واتجهت لموقف الفرافرة.
الطريق للفرافرة حوالي 673 كيلو مترا من القاهرة تقطعه السيارة جيدة التجهيز في خمس ساعات علي طريق معبد آمن لم يكن كذلك كما أخبرني العلامة فخري في كتابه .
الطريق كان طريقا للقوافل والتجارة فوق الجمال أشبه بالمدق الترابي والرملي ويلتف حول مدينة السادس من أكتوبر فيما يعرف بطريق المناجم, ولكنه الآن صار معبدا وجيدا وبه عدة استراحات علي الطريق لتقديم الوجبات السريعة والساخنة والمشروبات وأيضا محطات البنزين والسولار.
لم أتوقع أن تأخذ الرحلة كل هذا الوقت بالاوتوبيس العام , تسع ساعات, والفيديو في الاوتوبيس يعرض فيلما سخيفا لمحمد سعد بعد تركيب شريحة في ذراعه تحول بعدها لشخص آلي بلا قلب , كان الفيلم اسمه 8جيجا, وفي أحد المطبات ارتبك جهاز العرض وصار الصوت غير مواكب للصورة المهتزة.
هل كان هذا نذيرا أم بشيرا أم مرآة لروحي التي تشيأت في المدينة الخرسانية وتحولت لكائن يقاس وتقاس حياته بالجيجا؟
هل فقدت قلبي كلما أقتربت من مفردات المدينة وغصت في أوحالها , أو تورطت أكثر في الآلات المستهلكة للوقت والبدن والروح ؟
انقطع ارسال الفيلم تماما واستبدله السائق بمجموعة أغان قديمة لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد المطلب ومحمد منير وعلي الحجار وأنغام.
لم أفقد اتزاني لكي أستعيده
بل ظللت محايدا منتظرا خشية أن أضع أملا ويخيب.
يتوقف الأتوبيس في الواحة البحرية الأكثر شهرة والأقرب للقاهرة , حوالي 300 كليو متر , بدت لي أشبه بالبازار السياحي العشوائي نسخة غير دقيقة ولا مرتبة من خان الخليلي مع تواجد عدد ملحوظ من الأجانب وسيارات الدفع الرباعي في الطرقات, لم يغرني مظهر المحلات المزدحمة بالنزول لدقائق.
الواحة المفقودة أم الروح المفقودة التواقة للراحة في الفرافرة.
أربع ساعات أخري أو أكثر ولا توجد لافتات علي الطريق تخبر عن الكيلومترات المتبقية , خط رفيع أسود متعرج ممتد الي مالا نهاية وحوله حياة كاملة قوامها الأحجار والرمال وبعض الطيور التي تحوم ولا تهبط علي أرض أبدا.
ظهرت بوابة مرسومة بألون تبدو بيئية بدون خرسانة وبدون أكاسيد مصنعة
(أهلا وسهلا بكم في واحة الفرافرة)
متحف بدر البيئي للفنون المحلية الفرفرونية يواجه المدرسة الابتدائية ويجاور مطعما يملكه ويديره أخوان قادمان من القاهرة أحدهما حاصل علي الماجستير في التاريخ المصري القديم, آثرا أن يتركا المدينة ويجلسا متجاورين صامتين يشاهدان المحطات الإخبارية العالمية علي التلفزيون الذي لا يكاد يسمع له صوت . وبجوارهما علي الكراسي المصنوعة من الجريد والموائد أيضا عدة جرائد ومجلات لا تبدو أنها قديمة.
التفتا نحوي بابتسامة هادئة مستنسخة لا هي عدائية ولا هي تساؤلية ربما كانت للترحيب ولكن أصفاد المعاملات في القاهرة تركت أثرا حذرا في رد الفعل علي ابتسامات الآخرين التي من الطبيعي أن ترد الإبتسامة بأحسن منها وبالتحية ولكنني آثرت أن أكون قاهريا مدنيا وانحزت للحذر واكتفيت بتحويل عيني نحو متحف بدر منتظرا دليل الصحراء.
في الإنتظار لم تكن الشمس حارقة لكن ظلا ما كان يتحرك ولا سحاب في السماء ولا عطش
أول مايثير الإنتباه في الفرافرة هو خلو الجو من الضجيج وأبواق السيارات المزعجة, والشوارع تكاد تكون خالية من المارة وإن ظهر بشر لا يكونون فرادي بل في مجموعات ثلاثة أو أكثر يسيرون بهمة ونشاط ممشوقي القامة ولم أر أحدا حتي الآن ممتلئ الجسد .
اللغة الفرفارونية تتسم بالإيجاز الشديد وعدم استخدام اليدين في الشرح إلا نادرا والعينان دوما هي الموصل الأول للمعني, لغة سهلة سلسة مزيج من الفصحي والعامية المصرية القاهرية وأحيانا الصعيدية وبعض المفردات البدوية القليلة جدا,
يتبادلون الحديث الذي يقترب من الهمس والمقتضب في أغلب الأحيان واستبداله بالتفرس الدقيق الودود بالعينين.
وصل بدر متهللا فاتحا أحضانه , اكتشفت في لغة بدر فنان البيئة الفطري ودليل الصحراء استبداله الكلمات البدوية بكلمات انجليزية أو ألمانية لتيسير التواصل مدعما بالإبتسام والعيون اللامعة التي تعكس الروح الشابة المتقدة والذكاء أيضا.
في الطريق لسيارة بدر سألت دليل الصحراء عن سبب تسميتها الفرافرة فقال حكمها فرعون اسمه فرفور هكذا قال الأجداد وما سمعناه من كبار الواحة.
عدت للتسمية الفرعونية فوجدت انها مقسمة الي قسمين فا را - فا را .. قد تكون با- رع - با رع ... بيت رع وتحورت كما تحور اسم با- رع الي فرعون
اذن هي بيت الشمس بالنسبة لي.
كيف تكون الفرافرة بيت الشمس وسبب سفري لها هو القمر.؟
ربما كان حنين الشمس لعناق القمر والأرض والذي فصلت الريح بينهما هي السبب وربما كنت أنا الثالوث المكمل للإسطورة.
وكيف ألهث خلف أسطورة لم أتحقق من صحتها ... ولكن كيف يتحقق فيّ مرض لم أتحقق من أسبابه العضوية؟
همٌ وانعقد بالقلب.
قال لي الدليل ثانية الفرعون فرفور حكم الفرافرة واستوطنها وسماها أرض البقرة
النبع السحري
سألني بدر هل من خطة معينة ؟
قلت له : هل من مكان مؤهل للاستشفاء ؟
قال : الصحراء شفاء لكل داء.
قلت : الرمال قاسية ولن أقوي علي حرارة الشمس ولا علي العطش
لم يسخر بل أجاب بهدوء صحراء الفرافرة ليست كأي صحراء هي واحة بها النخيل والأشجار والآبار والعيون والجنة بعينها الصحراء جنة مر الفرع الثالث والعشرون للنيل من هنا ووصل الي سرت في ليبيا.
ركبنا السيارة رباعية الدفع وقال: أقصر الطرق للصحراء التي أحبها لجنتي باختراق بحر الرمال الكبير ....
كانت السيارة ضخمة ذات دفع رباعي وضح لي بدر أن هناك أنواعا قليلة من سيارات الدفع الرباعي هي القادرة علي السير في الصحراء طبيعة أرضها المتنوعة بين الرمال والحصي وربما أيضا الحاجة لصعود أو هبوط تلال عالية صخرية تشبه الجبال في طبيعتها .
تحركنا عصرا باتجاه الصحراء البيضاء ولكن علينا أولا المرور بالنبع السحري.
مع تحرك السيارة وارتطام الهواء النقي للصحراء بوجهي واحساسي ببداية التخفف من أعباء المدينة والخرسانة والضجيج استسلمت لإغفاءة وموجات الرمال تحيط السيارة من كل جانب ولا إشارة لظل من قريب أو بعيد .صحوت علي اهتزازالسيارة نتيجة ايقاف المحرك وتلفتت حولي فوجدت كتلة خضراء من النخيل والأشجار في وسط بحر الرمال وخط صغير من المياه ينساب بينها الي حوض بدائي.
العديد من الطيور كانت تحوم حول المكان ميز بدر من بينها صوتا وقال : اسمع طير الوروار.
ضحكت لذكر فيروز في قلب الصحراء وكيف أسمعها.
أشار بيده لطائر أخضر ملون العنق يحط علي فرع جاف بجوارنا.
قال الدليل سأجمع الأخشاب الي أن تأخذ حمامك.
توجست أن أخلع ملابسي أمامه حتي لا يري القروح وآثارها المرقشة لجسدي كله ولكنه اختفي خلف الأشجار خلعت ملا بسي مسرعا وغطست في الحوض فاذا بالماء يندفع بقوة اكبر.
أطل بوجهه مبتسما: مياه النبع السحري _ وهذا اسمه _ تزداد مع نزول الناس الي الحوض
هززت رأسي متفهما وغير مصدق ولكنه خلع ملابسه وقفز في الحوض في ركن من النبع ومر بنا جمع من عاشقي الصحراء المصريين وغيرهم وغطسوا وكلما غطس شخص ازداد تدفق النبع بمعيار الغاطسين حتي فاض الماء وكل في ركنه يمسد جسده بالرمال ويترك جسده لماء النبع السحري.
عرفت من دردشات المستحمين والغاطسين أن الماء في هذا النبع يفيض بقدر حاجة الشاربين أو الغاطسين وأنه كان في طريق تجارة الجمال قديما وكان يفيض ليكفي أي عدد حتي ذكر أحدهم أنه شاهد قافلة من مئة جمل ورعاتها يشربون منه وأشار لفضاء الصحراء البعيدة ولأجمات جافة بعيدة وقال أن النبع أفاض حتي كون بحيرة هناك ولكن بعد استخدام مواتير الرفع التي تعمل بالسولار في الأراضي التي استصلحها المستثمرون القادمون من القاهرة أثرت بالسلب علي النبع السحري وعلي آبار كثيرة جفت , وتعجب من أن المستثمرين تخصصوا في زراعة البطيخ ووظفوا فلاحين من الدلتا ولم يتعاملوا مع أهل الواحة الذين لم يروا حتي شكل البطيخ وأردف ربما أيضا كانوا يصدرونه خارج مصر.
كهف مريم
أشار الدليل بيده لقمة جبل وقال سننام بجوار تمثال مريم .. بدت منحوتات الريح في الجبال والكتل الصخرية وجوها لأشخاص نعرفهم وأجسادا لزعماء ولحيوانات ودواجن .. صخرة الديك .. صخرة مريم صخرة ناصر صخرة شيخ البلد .. الدبابة .. وهكذا .
الصحراء البيضاء تقع في الطريق ما بين الواحات البحرية و الفرافرة وتقترب من الفرافرة بحوالي 35 كيلومترا وتمتاز بتكويناتها الطباشيرية والجيرية والرملية التي تعاملت معها الريح وعوامل التعرية فحولتها لمدينة كبيرة من الأشخاص والأشكال المتنوعة القادمة من التاريخ وحتي الأشكال المنتمية للخيال العلمي.
قال بدر : ترجل وانزل بين الصخور أجدادي يقولون أن من به مس من الجن أو عارض من السحر أو أي مرض غامض اذا سار بين صخور الصحراء البيضاء يبرأ ويشفي من علل القلب والنفس.
الهواء داخل الصحراء البيضاء نقي لدرجة كبيرة بل والتنفس ذاته يخترق الرئتين ويغوص في الروح النفس وكأنها غرفة عمليات كبيرة بدون تخدير.
مالت الشمس للغروب قليلا فانعكست علي الصخور وكونت الأشعة والضوء مع الظلال أشكالا لبحر حقيقي بأمواجه العتية.
حتي الظل هنا ليس أسود ولا حتي رماديا الظل هنا أزرق اللون سماوي.
الثعلب المصري
اتجهت نحو السيارة فقال لي : جمع ما تحتاجه وسنرتقي الجبل علي الأقدام.
سنبيت الليلة في كهف مريم .
بدت الصخرة المنتصبة أمامنا علي شكل السيدة العذراء مريم وهي تحتضن وليدها وتميل عليه برأسها بعطف وحنان أمام ساحة جبسية طباشيرية كبيرة.
نظرت للجبل الماثل خلف التمثال بتجاويفه المتنوعة بارتفاعه الكبير فتعجبت من الفكرة و شككت في قدرتي علي الارتقاء ولو لخطوة واحدة ولكنه حمل أشياءه وتركني وحيدا مع الغروب والسيارة وحقيبة تركها لي .
ارتقي حافة الجبل مسرعا في دقائق وأشار بيده وهو علي حافة التجويف الصخري : اخلع حذاءك واصعد
بدأت الخطو مترددا وصعدت ببطء شديد فاكتشفت ارتقاء متزايدا وتيقنت أن عوائق صعودي للجبل من داخلي وأنه لا يختلف عن أي سلم وما هي أسباب التوجس والريبة ؟
خلعت الخوف مع الحذاء وارتقيت .. متصاعدا بلا احساس بالتعب بل اكتشفت أن الإرتقاء يكسبني قوة كلما صعدت لأعلي .
وصلت الي كهف نصفه مغطي ونصفه مكشوف للسماء.
الكهف تجويف في الصخر بفعل الريح ومغطي برمال ناعمة جدا حملتها الريح عبر ملايين السنين فصنعت ساحة واسعة مريحة .
علي الحوائط وفي الأركان النظيفة بقايا شموع منتهية
سألته : هل أحضرت شمعا
نظر للقمر وقال : الليلة بدر ولا نحتاج لضوء آخر
انسحبت الشمس بدأ الجوع الشديد يقرصني والهواء المنعش يزيده وحل ارهاق الرحلة تسع ساعات في الطريق وها أنا أسير بين الصخور وأصعد جبلا وأنام في كهف وأين كنت الليلة الفائتة بل والليالي التي تشبهها ؟
هل هو نداء الطبيعة والصحراء ؟
أم هي مرحلة راحة مؤقتة ؟
علي ضوء البدر بدأنا في اعداد خضروات الطعام وبدأت الإحساس بالمكان أكثر وشعرت بكائنات حولنا غير مرئية وهمسات وهسهسات خافتة.
الليل مرتع خصب لتسلل أفكار الشباح والعفاريت والجن .
استلمت طبقي من الخضروات فظهرت كتلة بيضاء وعينان لا معتان حمراوان اقتربت مني أكثر همس الدليل خافتا :هذا هو الفنك .. ثعلب الصحراء المصري .. اطعمه..
توقفت للحظة : فنك و ثعلب وأطعمه .. كيف .. ؟
أشار بيده لطبقه وأمسك قطعة خضار ووضعها علي الأرض أمامه التقطها الثعلب بسرعة ومضغها وابتلعها وتحرك بهدوء نحوي .
امسكت قطعة من الطبق وقبل أن ألقيها علي الأرض اقترب الثعلب الأبيض الصغير مني وبهدوء شديد اقترب بفمه والتقطها من يدي وعاد مسرعا من حيث جاء ..
لحظات وغبت في النوم والقمر بدرا في السماء والرمال تحت جسدي ناعمة صلبة في آن.
التفت لي وقال : تعال ننزل البئر الروماني .
التففنا حول الكهف فظهرت الصحراء كبحر كبير وكأنه الماء بموجه ومازال القمر في السماء ولكنه يميل نحو الغروب .
تساءلت : كيف حرمت نفسي من براح العين والروح وهذا النقاء الصافي لمدة طويلة .
مد الدليل يده في شق يعلو ظهر الكهف وأخرج شيئا مضغه ثم اقترب مني وقال هذا عسل جبلي .. مد يدك .
أخرجت قطعة شمعية ينز منها العسل وقضمتها وسرنا الي النبع الروماني.
الآبار الرومانية متناثرة في الصحراء بعضها جف والكثير منها مازال يتدفق بقوة وبدرجة حرارة لا تتغير طوال السنة 24 درجة مئوية .
كان النبع الروماني كماسورة ضخمة جدا يفيض الي حوض ضيق أمامه وتنمو الأعشاب الصحراوية والأشجار حوله .
والي مقربة منه كتلة طينينة مرتفعة تتناثر حولها قطع كثيرة من شقف الزلع والآنية والأطباق الفخارية .
قال لي أن الرومان استوطنوا كل هذه الصحراء وأسموها سلة غلال العالم وهنا كانوا يخزنون القمح والشعير وزيت الزيتون .
بنات القمر يطيرون بخفة
حول النبع
تكبلهم أسطورة ميلادهم
ونذير الموت ينتظرهم
لقدر محتوم إن نزلوا الأرض
ولكن الرجل اذا نزل النبع تفيض منه رائحة الخصب فيهبطن كالفراشات
يتراقصن علي خيوط أشعة القمر ويتغذين علي الهالة الضوئية المنعكسة من القمر من جسد الرجل المستحم في ماء النبع شريطة أن يكون القمر بدرا ومازال في السماء .
بعد خروجي من النبع سألني: هل سمعت غناء بنات القمر ؟
قلت : ربما .
القصر
بيوت وقصور مبنية من الطوب اللبن , لها بوابة ضخمة علي مقدمتها مسجد وفي نهايتها مسجد آخر .. كل المباني مادتها الأساسية الطين والرمل والأخشاب .
الشوارع ضيقة لحد ما ومسقوفة بجذوع النخيل و فروع الأشجار الحوائط مزينة بنقوش وخطوط ورسومات المتبقي منها مازال زاهيا يسر العين .
أغلب الرسوم هي توثيق لرحلات حج قام بها صاحب البيت وغالبا لا يكون منفردا بل يصاحبه أهل بيته , زوجته وبناته وابنه والجميع منقوشة أسماؤهم بزهو علي الحائط متجاورة مع رسمة السفينة والجمل وآيات الحج في القرآن وربما أجاد الخطاط فأضاف بيتين من الشعر .
القرية متكاملة البناء .
بها مدرسة ومعصرة زيتون وطاحونة وفرن ومسجدان وأيضا محكمة وعبر إحدي البوابات تنتصب المشنقة .
مدينة القصر هجرها سكانها سعيا خلف المنازل الخرسانية المتناثرة بعشوائية حولها .
تتنوع أصول المباني التي كانت وأصبحت قرية القصر , فأحد البيوت يرتكز علي عمود كان لمعبد آمون وتظهر عليه بوضوح نقوش الشمس وبعض الكتابات الفرعونية والبعض الآخر مكتوب عليه بقايا كلمات تتضح فيه كلمة الأيوبي و تتشعب المدينة _ القرية لحارات ضيقة تفيض الي أخري وتتوزع الي أخري .
ربما كانت بها أحداث بعض من قصص ألف ليلة وليلة .. تكاد تشعر بانفاس الناس ونشاطاتهم وهدوئهم .
كل بيت له عتبة .
والعتبة غير ما نعرفها في المدينة .
العتبة في القاهرة هي السلمة الأولي أمام البيت , لذا قيل عتبة جديدة , أما الأعتاب هنا فهي موضوعة مباشرة فوق الباب , مؤرخ عليها بالنقش فوق الخشب أو النخيل اسم صاحب البيت وتاريخ بنائه له ولا ينسي الناقش أيضا تزيينه بابيات من الشعر وآيات من القرآن .
دخلنا مسجد فاضل وطلبنا صعود المئذنة , لم يعارض المؤذن الشاب واشار لزير ماء مجاور للسلم : اشرب قبل الصعود .
المئذنة كما المسجد كباقي أبنية القرية مبنية بالطين والأخشاب وتتصاعد حلزونية الي السماء حوالي عشرين مترا لأعلي .
تري من فوقها المدينة القديمة الطينية التي يحد مسجد فاضل نهايتها , وتجاورها الي اليسار المقابر القديمة للبلد ذات المباني القببية الطينية في حضن الصحراء وفي الخلف خط الأسفلت ثعبانا ملتويا وأمامه البنزينة وتتناثر البيوت الجديدة الخرسانية بكثرة .
لم تكن لي أشياء لأجمعها قبل الرحيل
تركني بدر قليلا لأرتب أشيائي قبل موعد التحرك للقاهرة , ربما وجدت وأنا جالس علي الدكة الخشبية في حوش بيته الذي يفصل جزء الزوار عن باقي سكان البيت , زوجته وأبنائه , ربما وجدت أن شتات نفسي قد بدأ في الإلتئام وربما وجدت أثرا في التنفس وفي وضوح رؤية العين لتري بهدوء بعيدا عن غبش الضباب في المدينة وربما أحسست أن أذني عادتا سيرتها الأولي تسمع مافي الكون من تناغم بعيدا عن الضوضاء وأبواق السيارات والصريخ وصوت المترو ودق البائع علي أنبوبة البوتاجاز وكلاكس التاكسي لإعلام الواقف أنه مستعد للخدمة وزحام جمهور مباريات كرة القدم وتشنج الخسارة أو تسديد هدف وصراعات العمل المريرة وفراغ الجيب من نقود تكفي لآخر الشهر وربما ايضا كنت ممتنا لدليل الصحراء بدر ولعائلته التي استضافتني ووجدت مكانا هادئا ثابتا علي الأرض يضبط اعتزاز الروح وينقي تشوشها من طوفان المدينة ودواماتها .
في الطريق لأوتوبيس العودة أصر بدر علي الذهاب لبحيرة المفيض وهناك كانت طيور الوروار كثيرة بشكل لم يره بدر _ كما قال .
علي الطريق مالت الشمس للمغيب وفي الجهة المقابلة ظهر القمر كرغيف خبز كبير منقوص منه قطعة دائرية صغيرة .
تأملت القمر بعينين مفتوحتين ووددت لو كانت لدي القدرة علي ابتلاعه كاملا واحتوائه .
هل هذا هو القمر الذي عرفته طوال سنين عمري؟
هل هو ماكنت أخشي التطلع له ؟
أم أن الآخر قمر مزيف باهت بيني وبينه حواجز هائلة من الضباب والأتربة العالقة بالروح والنفس؟
هنا صار القمر أكبر
وصار صديقا
وانسانيا كعين محبة تغمرني .
اقتربنا من الموقف ودخلت في طوفان المتحركين نحو الأوتوبيس وبدأ الصراخ والنداءات و التحذيرات وأبواق الميكروباسات يزداد
كمزيج تدريجي يؤهلني للعودة للمدينة
ولكنني ربما
سأحلق بروحي علي شرفات من أحبهم
كفراشة أو ضوء خافت سريع
وسأنقر الزجاج لمرة واحدة بجناحي
أو كضوء قمر غزل خيوطه
لبنات قمر طائرات حائمات
وربما اكتفت التئام ندوب
كانت علي جدار الروح
بدأت في الالتئام .
محمد حسان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.