الحياة محكومة بالسنن الإلهية والنواميس الكونية المنضبطة بنظام تسير عليه الأمم طوال التاريخ الإنساني فالإنسان والكون بما فيه ومن فيه لم يخلق عبثا وإنما وجد للقيام بأسمي غاية وهي عبادة الخالق تعالي, وتنمية وإصلاح الوجود, ولأنه خليفة عن الله سبحانه, خصه بهذه المهمة, وميزه بهذه الخصوصية دون سائر المخلوقات الأخري, فقد أنعم عليه بالعقل المفكر, وحضه علي النظر والتفكير, وما يقتضيه من التأمل والنقد والإبداع وكفل له لممارسة هذه المهمة المنهج القويم, الذي تصلح به الحياة, وتتحقق به السعادة في كل جوانبها الروحية والمادية, وأرشده إلي ركائز هذا المنهج الجارية علي وفق السنن والنواميس الكونية لكل البشر في سائر الأزمان, والأمكنة فهذا ليس مقصورا علي أمه, ولا علي عصر ولا علي إنسان دون غيره, وإنما جاءت عامة لاتبديل فيها ولا تعطيل ولا محاباة ولا تقصير. وشاهد ذلك حركة التاريخ ودوران الأزمان, وتطور الأفكار, فقد قامت أمم, وسقطت امبراطوريات, وصعدت مدنيات إلي مقدمة السباق, تفرض وجودها بالفكر السديد, والمنهج القويم والعمل الخلاق, في إصلاح الإنسان ونهضة المجتمعات وقيام الحضارات علي حين تراجعت أمم كانت حديث الناس, طبعت بصمتها علي رحلة البشريه عبر التاريخ بطابعها ومآثارها وانجازاتها. هذه الحقائق الثابتة في مسيرة البشرية, لم تأت مصادفة, ولم تكن عشوائية, وإنما كان الصعود والهبوط, والنهوض والإنكسار, ماض وفق السنن والنواميس التي لا تتخلف ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا'. وبالطبع كان لحالة الجمود أو الترقي عوامل وأسباب تقود إليه, وتؤثر عليه, فما كان التخلف أو النهوض يتم بطريقة عفوية أو بخبطه عشوائية, وانما يقف وراءه ويقوم عليه نكوص عن طريق الفلاح والنجاح, وتنكب عن أصول المنهج, وجمود الفكر والاجتهاد, وفي ذات الوقت فإن البعث والترقي, وصحوة الشعوب من سبات التخلف, يحري علي مقتضي إعمال الفكر وعصف الذهن ووضع الخطط وسلوك السبل والآليات الموصلة للنهضة وفق منهج مكين, ومعطيات واقعية, واستنهاض الفرد والمجتمع, وإخراجه من كبوته وتصحيح أفكاره, وإشاعة ثقافة اليقظة والتغيير الجذري نحو الإصلاح ومواجهة المشكلات, وتهيئة الفرد, وتوفير البيئه الصالحة في ظل الاعتصام بالهوية وثوابتها وعناصرها الحية والمتجددة في إطار إرادة قوية, وعزيمة صادقة, واستعداد واع يتغلب علي ما يواجهه من عقبات, أو يقف في طريقه من معوقات, معتمدا في ذلك علي آليات ملائمه تعتصم بالعمل الجاد والمتقن. فهذا النهج المتبصر, هو السبيل للانعتاق من الدائرة الخبيثة للتخلف والبؤس, ينبغي أن يحرص عليه أهل الفكر وأصحاب القرار, إذا توفرت العزيمة, لانتزاع الأمة من ركام التبعية والفاقة وطوفان المشكلات لمواجهة تحديات الحالة الراهنه استجابة لتداء الدين وصالح الوطن, وذلك بإعداد وتربية المواطن الصالح الذي يبغي نفع نفسه وصالح المجتمع والوطن. ففي كل زمان ومكان تؤكد الأحداث أن التقدم والازدهار, لم يكن ضربا من الأماني الطيبة وكفي, وإنما عزيمة صلبة تأبي إلا أن تجسد في الواقع المعيش, كي يصبح المواطن والدولة رقما فاعلا في عالم الأمم, يحترم منهجها ويعمل حسابها في مجريات الأحداث. ومتي صح ذلك, فإنه يمكن القول دون افتئات ولا جلد للذات أن أفول الأمة جاء نتيجة عوامل سالبة, وأسباب معطلة عن النمو والنهوض, نرصد منها, جمود الفكر, وغياب رؤي التجديد والاصلاح, واقفال باب الاجتهاد, وصرف الناس أو انصرافهم عن القضايا الحياتية وإغراقهم في مسائل هامشية, وتشكيكهم في صلاحية المنظومة الإسلامية, وقدرتها علي قيادة الحياه, ومواكبة العصر وشغل الفرد عن مقومات التنمية والازدهار, مثل العمل, وعدم الاكتراث بعنصر الجودة والاتقان فيه, وضعف برامج التربية والتعليم واعداد الشخصية القادرة والمؤهلة علي مقومات المنهج ومتطلبات العصر, بحسبان أن الانسان هو محور الوجود والقائد, لقاطرة النهضة والتقدم, فبذلك يكون السبق والريادة, مما يجعل المجتمع والدوله تقف في مصاف الامم المتقدمة وتطرح عن كاهلها وصمة الجمود والتخلف. والمتأمل في المشهد الراهن الذي تعيشه الأمة المصرية والعالم الإسلامي, يجد زخما من التشويش والمفاهيم المغلوطة, اخترقت وجمدت منظومة الاسلام العقيدة والشريعة والأخلاق والثقافة, وأفرزت عوارا في النظام السياسي, وفي التعايش المجتمعي فضلا عن نشوء أفكار جديدة, ومتغيرات حادثة, تركت آثارا سلبيه علي فكر وسلوك الفرد والمجتمع, تزامن معها عجزا وانبطاحا من السلطة والنخبة لأهداف ومرامي لا تكترث بأهمية الهوية والتقدم للمجتمع والوطن. والباحث في مسيرة الأمة والعالم الإسلامي يدرك أن السبب في ذلك مرده إلي فقدان الشخصية المسلمة لمقومات تميزها, وإلي الجمود الذي أصاب العقل وعطل منهج التجديد والاجتهاد, وحكومات استبدادية وأنظمه فاسده, ووقوع الدولة والأمة في براثن الاستعمار الأجنبي. وقد يحلو للبعض أن يلتمس المعاذير, ويتذرع بالأقدار للتهرب من المسئوليات والتبعات, وهو يقينا يغفل عن اعتبار السنن الالهية, فإن المسلمين ليسوا استثناء علي هذه النواميس, وإنما هم خاضعون لها, فلا أحد لديه الحصانة ضد عوامل التردي والسقوط, لا فرق في ذلك بين مجتمع الإسلام والإيمان, وبين سواه من المجتمعات, وإنما المعيار في التقدم أو التخلف هو التطبيق والعمل البناء لمن أراد النهوض, والإهمال أو الإنصراف عن ذلك إذا أراد الانتكاس. إذ الكل عباد الله تعالي, تجري عليهم السنن والنواميس, وبقدر اتباعها يكون المضي علي الطريق, أو تعطيلها أو الإخلال بها يكون الإخفاق, فهو حكم مقضي ومحتوم لا يستثني أحدا, والقانون الحاكم: إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم'. فلا مجال إذن عند متابعة الواقع المعيش, والحاضر المشاهد أن نلعن الزمان, وأن نتعلل بمبررات مغلوطه, وأفهام سقيمة كالقول بأن الدول الغربية تقدمت وازدهرت لأنهم أوتوا الدنيا, وأن الأمة الإسلامية تأخرت لأن لهم الآخرة, فهذا صنيع العجزة المعطلين, الذين لن يكون لهم بالقول دون العمل دنيا ولا آخرة. وحسبهم تغييبهم للعقول, ووأد فكر اليقظة والنهوض. لمزيد من مقالات د.محمد الشحات الجندى