وإيماناً من المسلمين بفوائد العلم والمعرفة وإيماناً من المسلمين بأن المعرفة حلقات متصل بعضها ببعض، ومؤثر بعضها فى بعض، وانطلاقاً من مفهوم (إقرأ) التى كانت أول كلمة يتلقاها الرسول الأمين من الوحى.. إيمانا وانطلاقا، عكف المسملون على ثمرات عقول القدماء من علماء الإغريق والرمان والهند والفرس، يدرسونها كأحسن ما يكون الدرس ويأخذون عنها فى حيطة وحكمة، ويزيدون عليها ما هداهم إليه البحث والنظر والفكر. ومن آيات القرآن الكريم، وتوجيهات الرسول محمد عليه الصلاة والسلام عرف المسلمون الأولون منزلة العمل، وأدركوا مبلغ الحاجة إليه فى العبادات والمعاملات وبناء المجتمع ورقى الإنسانية، وعرفوا فى صدق، أنه هو الذى يوضح لهم معالم السير على النهج القويم ويفتح لهم آفاق الحياة، ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية، ويقيم لهم وسائل الحياة والقوة، ويبنى لهم قواعد السعاد والسيادة. عرف المسلمون كل هذا فوجهوا العزائم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها، ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة. ولم يثن عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراوتها، وبحثوا عنها فى آيات الله التشريعية، وأيات الله الكونية• ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وإفهامهم، بل اتجهوا الى علوم السابقين، وفتحوا عليها نافذة واسعة، أطلوا منها على الحضارات الإنسانية التى سادت، وكان لها دورها•• فترجم المسلمون كل ما وصل إليهم، وأبدعوا، وحسَّنوا، واخترعوا، وأوجدوا علوماً جديدة، لأنهم كانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير•• وقد اكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون فى جيل واحد• مالم يكتمل لأمة من الأمم الناهضة فى أجيال عدة• وفى ذلك يقول أحد المؤرخين الاجتماعيين من علماء الغرب: إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها فى أمة من الأمم الناهضة إلا فى ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال والاجتهاد إلا المسلمون فقد استكملت لهم ملكة الفنون فى الجيل الأول الذى بدأوا فيه بمزاولتها. ومن العجيب حقاً أن المسلمين قاموا بالحركة العلية التى تخطت مراحل النهوض• قاموا بها رغم الأحدث العاتية التى حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التى خاضوا غمارها، لأن الأحداث والخطوب، وإن بلغت من العنف ما بلغت، لا تستطيع أن تقف فى طريق العقائد القوية التى انطوت عليها القلوب، وانفعلت بها النفوس، ولا أن تمنع العزائم المشرقة من الوصول إلى أغراضها• تقول الكاتبة الألمانية الدكتورة "سيجريد هونكة" فى كتابها "شمس الله تشرق على الغرب تسطع على الغرب"."إن هذه الطفرة العلمية الجبارة، التى نهض بها أبناء الصحراء من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقية فى تاريخ العقل البشرى، فسيادة أبناء الصحراء التى عرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة والفريدة فى نوعها، إن الإنسان ليقف حائراً أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة، التى حار الإنسان فى تعليلها وتكييفها، وأن أوروبا تدين للعرب وللحضارة العربية وأن الدين الذى فى عنق أوروبا وسائر القارات للعرب كبيرا جدا". وبهذه النهضة العلمية استطاع المسلمون أن يعملوا على الأقوياء والعمل لبناء المجتمعات لا يصدر إلا عن إرادة قوية، والإرادة الدافعة لا تنبثق إلا من العلم، فالأمة التى افقدها الجهل قوة الإرادة، وصدق العزيمة، لا تهتم بمعالى الأمور، ولا تحفل بمعطيات الحياة وبجانب هذا، فإن الجهل يقتل مواهب الفكر، ويطفئ نور القلوب ويعمى البصائر ويميت عناصر القوة، ويفسد على الناس مناهج الإصلاح• وكان المسلمون فى دراساتهم وبحوثهم• ينتقلون من المعلوم إلى المجهول ويقومون بدراسة الظواهر دراسة دقيقة، بقصد الانتقال من المعلول إلى العلة، وكان طريقهم إلى الحقائق العلمية، خطوات منهجية من شأنها التأصيل والعطاء• وهذه الخطوات نجدها: أولاً: فى التحرير من قيود العرف، والتخلص من رواسب التقاليد، وبهذا تزال الأنقاض، قبل أن يوضع حجر الأساس، ويرفع البناء لتكون القاعدة نظيفة، تعتمد على تربة صالحة، ولهذا تمكَّن المسلمون فى ظل التوجيهات القرآنية• أن يقيموا أسس الحضارة الإنسانية على دعائم أصلية• ثانياً: فى التأمل والمشاهدة وجمع المعلومات الحسية والعقلية، تمهيداً للبحث والدرس• قال تعالى:( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء- 36). فهذه الآية تنهى عن اتباع مالم يقم به علم يستند إلى حجة سمعية، أو رؤية بصرية، أو براهين عقلية• وهى طرق الاستدلال التى تنحصر فى العقليات والسمعيات والمحسوسات• فالمسائل العملية فى الإسلام لا تأخذ طابعاً عملياً ولا ترتقى إلى درجة معلومات إلا إذا قامت عليها بنية، واستندت إلى دليل• ثالثاً: فى الموازنة والاستقراء •• وإذا كانت مرحلة التأمل ووزن المعلومات، وتمييز صحيحها من زائفها، تعتمد على المشاهدات الحسية والعقلية، فإن مرحلة الموازنة والاستقراء• تضم إليها خطوات التفكير العقلي• رابعاً: فى الحكم المبنى على الدليل والبرهان الصادق• فإذا قام الدليل القاطع والحجة البالغة• اتضحت الحقيقة قال تعالى:( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) (الأنعام -148) وقال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}(البقرة-111(. وقد استقرت دعائم الخطوات المنهجية فى أعماق النفوس، فكانت الرائد الأمين للعقول والأفكار، والمرشد الوافى للغرائز والمواهب• وقد طبع المسلمون على حرية الفكر، واستقلال الإرادة• ولهذا تعمقوا فى علوم الحياة والحضارة الإنسانية• فكان منهم نوابغ الأطباء والفكليين، وعلماء الهندسة والجبر والحساب، وكبار علماء الجغرافيا والكيمياء، والزراعة، والعمارة، والأدب، والفقه، والتفسير، والتاريخ، واللغة• وكانوا أوائل من اكتشفوا حقائق علميه• فكانت أول المعالم على طريق الباحثين والدراسين. كل هذا كان بفعل الاتجاهات العقلية التى غرسها الإسلام فى قلوب الناس، والتى أدت إلى تنمية القوى العقلية الكامنة فى الإنسان• فبحث علماء الإسلام، ودرسوا وأضافوا، وجددوا، وابتكروا، فكان ذلك النتاج الحضارى الإسلامى الأصيل، الذى أعطى الإنسانية ذخيرة ضخمة من المعارف، أفاد منها الغرب فى عصر الإحياء والنهضة• وإذا كانت الأمة الإسلامية فى هذا العصر تخطو على طرق العلم• فهذا هو التاريخ الإسلامي، قد أثبت فى صدق: أن الحضارة الإسلامية هى خير حضارة عرفتها الإنسانية• ونحن لا نريد للحضارة الإسلامية أن تكون درساً يتناوله العلماء والطلاب بالبحث والتأمل، ولا نريد للحضارة الإسلامية أن تكون ثقافة عامة يحصل علىها الناس ليقال: إنهم مثقفون• إنما نريد أن تكون الحضارة الإسلامية موصولة الأخذ والعطاء• نأخذ منها القيم والمنهج ونعطيها الفكر والعمل•