«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البابا الذي لم يفهم منزلة العقل والعلم في الإسلام (7 من 13)
نشر في الشعب يوم 11 - 11 - 2006


بقلم: أد يحيي هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
[email protected]



أما عن الجانب العقلي في الإسلام فنرجو للبانديكت وأتباعه أن يعلم مبدئيا أنه في النظرة الإسلامية الكلية يظهر العقل في الكون في بداياته كدرجة عليا من درجات الوعي ..
إن علماء الحيوان المحدثين منذ دارون أخذوا يقررون أن أي اختلاف في المجالات والقدرات الذهنية والانفعالية ، بل والجمالية ، بين الإنسان والحيوانات الأخرى هو اختلاف في الدرجة ، وليس اختلافا في النوع ، وفي هذا يقول الدكتور نورمان بريل على سبيل المثال ،وهو أستاذ لعلم الحيوان ، [1]: ( ما شأن التفكير ؟ إنه لا يخصنا وحدنا .. وإن كنا وصلنا به إلى مستويات أعلى ) .
في النظرة الإسلامية نجد أن جميع المخلوقات تتلقى أوامر من الله تعالى
كن فيكون
ائتيا طوعا أوكرها
ياأرض ابلعي ماءك
وياسماء أقلعي
وأوحى ربك إلى النحل
فإذا لم نشأ أن نجعل ما ورد من ذلك نوعا من المجاز أو التشبيه – وما من ضرورة تدعو لذلك – فإننا يمكن أن نقول : – بما يتفق مع النظرة الإسلامية – إن الوعي هو الصفة الجوهرية للمخلوقات جميعا من أدناها إلى أعلاها ، وأنه درجات مختلفة متصاعدة من الجماد إلى الإنسان ، وعلى درجات هذا السلم المتصاعد يدخل الوعي في أطوار : الانقياد المحض ، ثم الإحساس ، ثم النزوع ، ثم الوجدان ، ثم الذاكرة ، ثم الذكاء ، ثم الإرادة ، فهي جميعا ليست إلا درجات من هذا الوعي المتصاعد ..ولكل مخلوق درجة من الوعي تناسب وظيفته في الوجود ، فبحسب هذه الوظيفة يعطيه الله درجة من الوعي يتلقى بها أوامر الله للقيام بوظيفته .

وتتحدد درجة الإنسان في هذا السلم بتحديد وظيفته : العبادة والخلافة التي تعني إقامة الحضارة [2]، وبما أعطى الله الإنسان من حرية الاختيار فإنه يتميز في وظيفته تلك بأنه ممتحن إزاء أوامر الله بالطاعة أو المعصية ، من هنا كان لابد من أن يصعد في سلم الوعي إلى قمته في الذكاء والإرادة .
ومن هنا نقول : عن وظيفة العقل في الإنسان - من وجهة النظر الإسلامية - ليست هي وظيفة الحاكم على ما يأتيه من الله ، ولا وظيفة الكاشف في كل ما كان شأنه من الغيبيات ، ولكنه في هذه الدائرة : وظيفة المتلقي من الله .
وفي هذا النطاق أيضا ليس من المتصور في النظرة الإسلامية أن يتلقى العقل أمورا مناقضة له ، أو متناقضة في نظره ، كلا فليس في الإسلام ما يناقض العقل ، لا لأن العقل حاكم ، ولكن لأن الإسلام جاء من أجل الإنسان ، فهو من هنا يراعي " تلقي" العقل لما يلقى إليه " طبقا لقوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها } 7 الطلاق ، وكما أنه ليس في الإسلام تكليف جسدي فوق طاقة الجسد ، أو تكليف وجداني فوق طاقة الوجدان فكذلك ليس فيه خطاب للعقل مناقض للعقل ، أي ينغلق دونه فلا يتلقاه .
وهناك فرق بين أن يكون الشيء متناقضا أو مناقضا للعقل كالقول بأن مجموع الثلاثة واحدا – فهذا هو المحظور في الإسلام - وبين أن يكون فوق العقل ، وهذا مالا مفر منه كآلية حدوث البعث " كما بدأكم تعودون " ضرورة أنه { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَما أوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَليلاً }85 الإسراء .
وهذا ما يوفر للمسلم التوافق بين عقيدته وعقله .. وهو ما يقصد على وجه الدقة بأن الإسلام دين العقل .
ولنا أن نشير هنا إلى أن هذا يوفر التوازن والتوافق والتكامل بين الجانب العقلي والجوانب الأخرى من جوانب الشخصية .
أما عن خضوع الذات الإلهية لحكم العقل البشري فهو مرفوض عقلا ونقلا ، وكيف يحكم المخلوق على الخالق ؟ ولحساب من تجاهل البانديكت " نقد العقل الخالص " في الفلسفة اليونانية القديمة وبخاصة عند السوفسطائية ، وفي الفلسفة الإسلامية وبخاصة في " المنقذ من الضلال " للغزالي ، وفي الفلسفة الحديثة وبخاصة عند "بلدياته " عمانويل كانت ؟
ولكن ذلك لا يعني أنه سبحانه وتعالى غير متوافق مع منطق الحكمة السليمة ضرورة أنه سبحانه متصف بالكمال المطلق ومن ذلك اتصافه بالحكمة المطلقة وهو موضع اتفاق بين الفرق الإسلامية جميعا عقلا أونقلا .

وهنا نجد العقل البشري في موضعه الصحيح في بناء الشخصية الإنسانية وفقا للنظرة التكاملية المتوازنة ، هنا نجد الإسلام يخاطب الشخصية الإنسانية في تكامل جوانبها جميعا ، الفطرية والوجدانية والعقلية وليس من شك في أن النزعة العقلية قوة أصيلة في الإنسان ، وركيزة هامة في بناء شخصيته ، ومن ثم لا تقبل الشخصية الإنسانية قمع هذه النزعة وإهدارها باسم الوجدان ، أو باسم غيره من قوى الشخصية ، فإذا حدثت محاولة لذلك وقعت الشخصية في اضطراب ، ليس ذلك لاختفاء قوة من هذه القوى الضرورية فحسب ، ولكن لأن القوة المتحيف عليها لا تنتهي ، ولكن تتحفز للصراع ، وتتواثب للغلبة ، وبذا تتحلل هذه القوى ، وتضل من هنا شخصية الإنسان ، ينطبق ذلك على النزعة الوجدانية وكافة الجوانب الأخرى كما ينطبق على النزعة العقلية .

ومن هنا اختص الإسلام نفسه بالعقلاء الذين يستعملون عقولهم : {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّروا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أولو الْأَلْبابِ } 29 ص [28] { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فيهِ سَواءٌ تَخافونَهُمْ كَخيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلونَ } 28 الزمر ، { وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلّا الْعالِمونَ } 43 العنكبوت ، { وَمِنَ النّاسِ والدَّوابِّ والْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذَلِكَ إِنَّما يَخْشى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ } 28 فاطر ، { إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذينَ لا يَعْقِلونَ } 22 الأنفال .

على أساس هذا المنهج نرصد تاريخيا نشاط العقل الإنساني في تفهم العقيدة الإسلامية ، كما نرصده في استنباط أصول الفقه والأحكام الشرعية ، كما نرصد هذا النشاط في التقائه بالفلسفة القديمة والوسيطة والحديثة مستصحبا رداء الإسلام السابغ ، ومتسلحا ببعض أسلحتها عندما يحتدم الجدال ، كما نرصد نشاطه في وضع مناهج البحث وقواعد التجربة على مستوى النمو الحضاري ، وقد كان له في كل ذلك أن يجتهد ما شاء له الاجتهاد فيما يعرض له من أمور تحتاج إلى الفهم ، ولم يكن من حقه ولا في قدرته أن يستقل في حركته تلك بعيدا عن النطاق المتكامل للشخصية وفق التصور الإسلامي ، وإنما كان عليه أن يهتدي فيها بهدي الله ، حيث في النهاية تقود الإرادة مسيرة الشخصية السوية إلى ساحة التسليم لله.

ومن هنا كان لابد للعقل في التصور الإسلامي للشخصية : أن يفسح له مجالات النشاط كضرورة تحتمها طبيعته ، لكنه في نفس الوقت : على العقل أن "يعقل" مداه وطاقته ، فيقوم نشاطه – في مجال العقيدة الدينية – على أساس مبدأين : - لا مطعن للعقل فيهما – أولهما : أنه ليس من حق هذا العقل أن يرفض أصلا من أصول الدين يدخل في دائرة الإمكان الذهني [3] ، وثانيهما : ألا يتخذ هذا العقل شيئا مما يصل إليه باجتهاده أصلا من أصول الدين ، وإنما يتناوله – إذا أراد – على سبيل المباحثة والاختبار .

لا نجد في تاريخ الإنسانية كلها دافعا لاستخدام العقل في مجال العلم والتعلم أقوى مما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في فرش طريق العلم بأحلى الأزاهير والورود في قوله صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، وإن العالِم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) رواه أبو داود والترمذي .
كما نرصد تاريخيا نشاط العقل الإنساني في نطاق المنهج العلمي التجريبي
إن الأمر الذي لا شك فيه أن تحصيل العلم بعامة منهج يقره الإسلام ويدعو إليه ويحرض عليه
فالعلم بوجه خاص كان وما يزال من أعظم القيم التي اهتم بها الإسلام ، ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى أنه تداخل في أصل الرسالة وبدايتها في أول ما نزل من القرآن الكريم ، وهو في الوقت نفسه وسيلة جوهرية للوصول إلى معرفة الله وخشيته ، يقول تعالى : { إِنَّما يَخْشى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ } 28 فاطر
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( من علم علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما . قال الترمذي : حديث حسن ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ) متفق عليه ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ، ويقول صلى الله عليه وسلم ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي ) أخرجه الترمذي ، وقال : حسن صحيح
وهل نجد في تاريخ الإنسانية كلها بيانا أقوى مما جاء في القرآن في قفل باب الجهل ، أو تحريمه بالأحرى في قوله تعالى { وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولاً } 36 الإسراء
ويكفي أن نعرف أن التعليم كان هدفا ساميا وقيمة عليا منذ قيام المجتمع الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كان يقدم كفداء من الأسر ، وكمهر في الزواج .
ثم انظر إلى العلم وهو يتسنم قمة المجتمع في هذه الحياة الدنيا ، إذ يحكي سالم بن الجعد فيقول : ( اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم ، وأعتقني ، فقلت : بأي شيء أحترف ؟ فاحترفت العلم ، فما تمت لي سنة حتى استأذنني أمير المدينة زائرا فلم آذن له )

يتأكد ذلك ببيان نظرة الإسلام إلى أنواع العلوم الأخرى وكيف أنها ترعرعت تاريخيا في ظله ، وأنه يرعاها ، ويوصي بها ، ويعمل على تطويرها .
إنه لا يختص العلم المطلوب في الإسلام بالعلم الديني وإنما يمتد إلى العلم بمظاهر الكون وحقائقه يقول تعالى : {الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْأِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ ، الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ، والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدانِ ، والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْميزانَ ، أَلّا تَطْغَوْا في الْميزانِ ، وَأَقيموا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِروا الْميزانَ ، والْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ، فيها فاكِهَةٌ والنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ ، والْحَبُّ ذو الْعَصْفِ والرَّيْحانُ } 1-12 الرحمن
فما هو العلم الذي لم يحصل التصريح به أو الإشارة إليه في هذه الآيات ؟ علم القرآن ؟ علم اللغة ؟ علوم التعبير بشتى فنونها ؟ علم الفلك ؟ علم النبات ؟ علم طبقات الأرض ؟ علم الحياة ؟ علم الكيمياء ؟ علم الرياضة ؟ علم الاقتصاد ؟علم الميزان والعدل ؟
ألست تجد في هذه الآيات الموجزة ذلك كله ، وفي غيرها من الآيات مما يضيق المقام عن ذكره جميعا ؟
وإذا كانت بعض هذه العلوم قد جاءت بعض مسائلها وأحكامها في القرآن الكريم والسنة المطهرة فيكون الطريق إلى العلم بها هو الوحي ..فإنه لا جدال في أننا نجد الكثير من هذه العلوم لم يأت من مسائلها التفصيلية شيء في القرآن الكريم أو السنة ، وأن الطريق إليها يكون التجريب تارة والتأمل تارة أخرى ، ويدعو إليه القرآن الكريم بربطه مع التفكر في آيات الله . أنظر إلى قوله تعالى : { إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ الْلَيْلِ والنَّهارِ والْفُلْكِ الَّتي تَجْري في الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْريفِ الرّياحِ والسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلونَ } 164 البقرة ، وقوله سبحانه وتعالى : { فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ، أَنّا صَبَبْنا الْماءَ صَبّاً ، ثُمَّ شَقَقْنا الْأَرْضَ شَقّاً ، فَأَنْبَتْنا فيها حَبّاً ، وَعِنَباً وَقَضْباً ، وَزَيْتوناً وَنَخْلاً ، وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبّاً ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ } 24 – 32 عبس ، ثم انظر بعد ذلك إلى قوله تعالى : { قُلْ سيروا في الْأَرْضِ فانْظُروا كَيْفَ بَدأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ } 20 العنكبوت ،
وهذا ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث تأبير النخل – وهو مسألة تجريبية تقنية – فيما جاء بصحيح مسلم بسنده عن رافع بن خديج قال : ( قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يؤبرون النخل ، - يقولون يلقحون النخل - ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه ، قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا ، فتركوه ، فنفضت أو فنقصت ، قال فذكروا ذلك له فقال إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر . قال عكرمة : أو نحو هذا – قال المعقري فنفضت ولم يشك - أنتم أعلم بشئون دنياكم ) ،أحمد بن جعفر المعقري) هو بفتح الميم وإسكان العين المهملة وبكسر القاف منسوب إلىمعقر وهي ناحية من اليمن.
وهكذا جمع الإسلام في مفهومه بين مصدرين للعلم : الوحي ، والتجربة .
وإذا كان الحد الأدنى من علوم الدين فرض عين على كل مسلم ومسلمة ، فإن الأخذ بشتى العلوم وتخصصَ البعض في فرع من فروعه يصبح فرض كفاية في ذمة الجماعة ، إذا أداه بعضهم سقط عن الباقين . يقول الإمام أبو حامد الغزالي : ( فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات ، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات ، كالفلاحة والحياكة ، والسياسة ، والحجامة ، فلو أن بلدا خلا من الحجَّام [ وهو يمثل الجراح في العصر الحديث مع فارق التقدم العلمي بالطبع ] تسارع الهلاك إليه ، ... فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ، وأرشد إلى استعماله ، وأعد الأسباب لتعاطيه ، فلا يجوز التعرض له بإهماله . ) [4]
وقد غفل المسلمون في العصر الحديث عن الحكم الشرعي لعلوم كثيرة ، وضعوها في أطر مستحدثة لا تُشعر بصلتها بواجباتهم الشرعية الأصيلة فيها ، ولو أنهم استفتحوها بكلمة " فقه " مثلا لزرعت فورا في أرضها الخصبة لتنتج ما نصبو إليه منها دون تردد أو تخبط أو تعثر أو إبطاء : مثل : علوم ( فقه ) التخطيط والإدارة والسياسة ، ومثل تكنولجيا الأقمار الصناعية وهندسة المدن ، والكيمياء الحيوية ، والهندسة الوراثية ، والطب ، والإعلام ، والعلوم النووية ، والمفاعلات الذرية ، والطيران ، وصناعة السيارات ، والسفن وعلوم الفضاء .. إن التفريط في هذه العلوم يلحق بالمجتمع كله وصمة المعصية ، ويعرضه لخطر الدنيا والآخرة .
إن المجتمع الذي يسقط ذلك يكون قد أسقط فرضا من الفرائض ، أو واجبا من الواجبات ، أو عبادة من العبادات التي تلزمه بحكم الشرع ..
هكذا جاءت أحكام الإسلام بخصوص العلم في القرآن والسنة .

*****
وهكذا سار المجتمع الإسلامي في طريق العلم ، الطريق الذي يرتبط فيه العلم بالعمل فيثمر التجربة ، والذي يرتبط فيه العلم بالدين فيثمر الإيمان .
ومن هنا قدمت الحضارة الإسلامية شموس العلم التجريبي على المستوى الإنساني من أمثال :
الكندي : الذي يقول فيه كوردان – وهو فيلسوف من فلاسفة النهضة الأوربية :( يعد الكندي واحدا من اثني عشر، هم أنفذ الناس عقلا ، وأنه كان في القرون الوسطى واحدا من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية ).
ابن الهيثم : الذي يقول عنه جورج سارتون في كتابه تاريخ العلم : ( إنه من أكبر الباحثين في علم البصريات ) .
البيروني : وهو الذي يقول عنه المستشرق سخاو : ( إنه أكبر عقلية في التاريخ ، ومن كبار علماء الفلك ) ، ويقول عنه المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام ( هو من أعلام العلماء في تاريخ الإنسانية كلها ) .
ابن النفيس : الذي سلبه الغرب حق اكتشاف الدورة الدموية ونسبها كذبا وتزييفا إلى هارفي ، متناسيا ما قام به ابن النفيس من تجارب وملاحظات واختبارات وصل على أساس منها إلى اكتشاف الدورة الدموية قبل هارفي بعدة قرون .
ابن يونس : الذي يقول عنه الدكتور عبد الحليم منتصر في كتابه " العلوم عند العرب " : ( لقد رصد ابن يونس كسوف الشمس وخسوف القمر في القاهرة ، وقد وصف في زيجه الحاكمي الطريقة التي اتبعها فلكيو العرب في عصر المأمون في قياس محيط الأرض ، وهو الذي اخترع البندول ، وبذلك يكون قد سبق جاليليو بعدة قرون ، وقد برع ابن يونس في حساب المثلثات وأجاد فيها ، وفاقت بحوثه بحوث كثير من الرياضيين ، وحل مسائل صعبة في المثلثات الكروية ، واستعان في حلها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كل من المستوى الأفقي ، ومستوى الزوال ، وابتدع قوانين ومعادلات كان لها قيمة كبرى قبل اكتشاف اللوغارتمات )
ابن ماجد : الربان الشهير أحمد بن ماجد السعدي شهاب الدين النجدي ، ربان سفينة فاسكو داجاما في رحلتها التاريخية إلى بحر الهند من طريق رأس الرجاء الصالح ، وكانت مصنفاته في علم البحار المصدر الأساسي لمصنف مشهور في الجغرافيا الملاحية لأمير البحر التركي سيد علي ريس ، وقد ذكر في مقدمة كتابه عددا من مصنفات سابقِهِ ابن ماجد ، وقد ذكر ابن ماجد في مصنف منها أن له تجربة أربعين عاما في الملاحة ، مما جعل المستشرق " فيران " الذي اكتشف بعض مخطوطاته في خزانة مخطوطات ( الناسيونال بباريس ) يفترض أنه ولد في العقد الثالث من القرن الخامس عشر ، وقد أفسح كراتشوفسكي في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي ) ترجمة مبسوطة لأحمد بن ماجد تبين أنه كان ينحدر من أسرة اشتغل أفرادها بقيادة السفن ، ، ويذكر " سر رتشارد برتون ( أن ملاحي عدن كانوا إلى منتصف القرن التاسع عشر ينسبون اختراع البوصلة إلى ولي يدعى الشيخ ماجد ويقرءون الفاتحة على روحه قبل ركوبهم البحر ) - أنظر إلى الحس الديني المرتبط بالعلم - وآثار ابن ماجد كثيرة – تأخر الكشف عن أصولها العربية إلى أوائل العِقد الثاني من القرن العشرين – بلغت أربعين مصنفا ومعظمها منظومات ، أما كتابه ( الفوائد في أصول علم البحر والقواعد ) فقد رأى فيه المستشرق الفرنسي جابرييل فيران الذي نشره في طبعة موثقة محققة متقنة مع حواش وتعليقات علمية أثرا يدعو إلى الإعجاب واعتبره ذروة التأليف الفلكي الملاحي في عصره . [5]

( إن الإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج للإنسانية – كما يقول الإمام الأكبرالأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود - رجال الحضارة وجهابذة العلم وأساتذة الدنيا وعمالقة العلماء أمثال : ابن الهيثم ، والكندي ، والفارابي، وابن سينا ن والبيروني ، والزهراوي والخوارزمي وابن البيطار ، وابن حيان ، والإدريسي ، والمسعودي ، وابن بطوطة ، وابن زهرة ، هؤلاء الأعلام وغيرهم كثير في كل فن هم ثمرة الدعوة الإسلامية التي بلغت في الإشادة بالعلم الذروة ) [6]

آباء المنهج التجريبي :
إذا كانت الحضارة الأوربية المعاصرة قد قامت بكل ما فيها من صناعة في الطبيعة ، ومن اكتشافات في الكيمياء ، ومن قوانين فلكية ، ومن اختراعات في جميع المجالات المادية والحسية على أساس من المنهج العلمي التجريبي .....
وإذا كان هذا المنهج في المشهور المتعارف يدين بوجوده إلى الفيلسوف الإنجليزي : فرنسيس بيكون ولكنه عند الدارسين لتاريخ الفكر الأوربي [7] يدين لسلفه الأسبق : روجر بيكون أكثر مما يدين لغيره ....
فإن روجر بيكون – على خلاف كثير من مواطنيه – يعترف في صراحة لا لبس فيها وفي وضوح لا شائبة فيه أنه مدين في منهجه للعرب وللحضارة العربية .
وهذه الحقيقة التي حاول الغربيون جاهدين أن ينكروها يعلنها الآن بعض المنصفين منهم
فها هو الأستاذ بريفولت يتحدث في كتابه " بناء الإنسانية " عن أصول الحضارة الأوربية فيقول : ( إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه في الأندلس ، ولم يكن لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي ، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية ، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة ، والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي طرف من التحريف الهائل لأصول هذه الحضارة ، ) ويقول بريفولت أيضا ( لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية إلى العالم الحديث ، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج : إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضي وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب لظلام ) ثم يقول ( إن ما ندعوه العلم قد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ، ولطرق من الاستقصاء لطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان ، وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربي )
ويقول المؤرخ الأوربي " اجناسيو أولا غويه " في كتابه " العرب لم يستعمروا أسبانيا " ( لقد ولد الغرب المعاصر من أسبانيا ألفونسو العاشر ومن صقلية فردريك الثاني ، وهما المعجبان بالحضارة الإسلامية المتحمسان لها ، تلك التي كانت كأنها قابلة أو أم مرضع للحضارة الغربية ) [8]
وتقول المستشرقة الألمانية زيجفريد هونكة ( إن المسلمين عندما اتصلوا بالتراث الحضاري للأمم السابقة فإنهم أحاطوا بقلوبهم حتى المؤلفات الفنية الدقيقة في الهندسة، والميكانيكا ، والطب ، والفلك ، والفلسفة ) ثم تقول ( إن العرب لم ينقذوا الحضارة الإغريقية من الزوال ثم نظموها ورتبوها وأهدوها إلى الغرب فحسب ، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب ، والجبر ، والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع ، لقد قدم العرب أثمن هدية : وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم ) [9]
*****
إن الحضارة الإسلامية لم يقتصر دورها على مجرد رعاية الفكر الإنساني السابق عليها وتقديمه للحضارة الأوربية ، ولكنها تعدت ذلك إلى وضع المنهج العلمي التجريبي الذي يربط بين العلم والعمل ، ذلك المنهج الذي احتقره الإغريق ، واحتقرته أوربا في العصور الوسيطة ، يقول فيليب فرانك في كتابه " فلسفة العلم " : ( كانت العادات الاجتماعية – أي عند الإغريق لا تشجع على الاتصال بين نمطي المعرفة –أي النظري والعملي – وإذا حاول إنسان ذو مكانة اجتماعية أن يطبق الفلسفة أو العلم على إحدى المشاكل التقنية فإنه كان يواجه بنقد مرير ، وقد كان الاختبار العملي للمبادئ العامة يتطلب عملا يدويا ، وكان العمل اليدوي في نظر اليونانيين القدامى شيئا يلائم العبيد ولا يليق بالرجال الأحرار ) ، ثم يقول ( لقد وجه أفلاطون نقدا شديدا إلى العلماء الذين عززوا نظريات الميكانيكا البحتة ، أو الرياضيات البحتة ، وكما يقول بلوتارك : لقد عيرهم أفلاطون ، لأنهم أفسدوا الهندسة ، وجعلوها تهبط من شيء عقلاني غير مادي إلى شيء مادي محسوس ، كان عليهم أن يستخدموا المادة وهي تحتاج إلى كثير من العمل اليدوي ، وهي موضوع العمل الحقير ) [10]
ولم يقتصر الأمر في نهضة العلم التجريبي على شروط التخلص من الفلسفة الأفلاطونية اليونانية ومواريث العادات الاجتماعية الإغريقية ، وإنما اقتضى كذلك التحرر من قميص المنطق الأرسطي المهلهل ، وكل ذلك إنما تم على يد البعث التجريبي في الحضارة الإسلامية ، فهاهو ربان سفينة " فاسكو داجاما " أحمد بن ماجد شهاب الدين النجدي الذي قاد السفينة في رحلتها التاريخية إلى بحر الهند من طريق رأس الرجاء الصالح والذي تذكره المصادر البرتغالية باسم " ماليمو كانانا " يقول عن أصالة التجريب في كتابه " الفوائد في أصول علم البحر والقواعد " : ( إن التجريب شيء ما بعده شيء ) ، ثم يحذر ربابنة البحار من استهواء المنطق ، فيما أدلته التجربة قائلا ( فإن أكثر الخطأ في كثرة المنطق ، خصوصا في هذه الصنعة ، وخطؤها في المنطق أكثر من خطئها في العلم .. وأصل علم البحر الفن والتجريب ) [11]
وعلينا هنا أن نتذكر أن العلماء الكبار الذين طبقوا العلم على العمل في الحضارة الأوربية القديمة إنما فعلوا ذلك على جناح طير غارب ، وقد كانوا من غير اليونان من مثل : أبقراط الذي كان من آسيا الصغرى ، وأرخميدس الذي كان من صقلية ، وإقليدس وبطليموس اللذين كانا من الإسكندرية ، أما أرسطو فكما يقول عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودي : ( كان قد اهتم بالفيزياء وعلوم الطبيعة حبا في تصنيف العلوم ، وليس سعيا وراء التجديد أو تسخير الاكتشاف للتطبيق )[12]
في هذا الوقت أو بعده بقليل كان السلف من المسلمين يقررون أن ( العلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب حل ، وإلا ارتحل ) وكانوا يستعيذون مما استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( قال : كان رسول الله يدعو فيقول " اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع ، ودعاء لا يسمع " هذا حديث صحيح ولم يخرجاه . )

وهنا يأتي سؤالان : أولهما :
: لماذا إذن قد تنكرت الحضارة الغربية المعاصرة لصلة الرحم هذه بينها وبين الحضارة الإسلامية في مجال العلم وفي هذا التنكر يمثلها البابا بنديكت وأمثاله ؟
نجد الجواب على لسان الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال في قوله : ( إن المنهج الإسلامي كان أكمل وأتم ، وقد أخذته أوربا ناقصا : إن المنهج التجريبي يقف عند الطبيعة وهو منهج إسلامي ، ولكنه ليس بالمنهج الإسلامي الكامل ، فالمسلم لا ينتهي إلى الطبيعة كغاية ، ولا يقتصر عليها كهدف ، وإنما غايته وهدفه هو ما عبر عنه سبحانه وتعالى : { وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى " 42 النجم ، وإذا اقتصرت أوربا على العلم المادي فإن الإسلام لا يقف عند ذلك ، وإنما يوجه الإنسانية إلى مصدر آخر للمعرفة : هو القلب أو هو الروح أو هو البصيرة ، ويجمع الإسلام الاتجاه العلمي الحديث إلى الاتجاه البصيري في قوله تعالى : { وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولاً } 36 الإسراء
إن المفارقة بين روح الحضارة الإسلامية والنهضة الأوربية العلمية الحديثة لم تكن إذن حول المنهج التجريبي ولكنها تبلورت حول الموقف من علم الوحي .
في ظل النهج الغربي تم استبعاد علوم الوحي من مفهوم العلم . وأصبح مفهوم العلم – كما هو الشأن في أدبيات الحضارة المعاصرة - قاصرا على العلوم التجريبية وحدها ، وأما علوم الوحي فقد حوصرت تحت أسماء أخرى ، وأعلنت الحرب المستوردة بين العلم والدين ، وهي حرب ضارية ، وستظل حربا ضارية طالما أخذنا بمفهوم " العلم " كما هو في الحضارة العلمانية المعاصرة .

*****
ومن هنا كان قد تكرس في المنهج الإسلامي " أهمية عقد النية " في طلب العلم بصنوفه المختلفة ، والمقصود توجه النية في طلب العلم إلى الله ، والدار الآخرةعملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يعتبر تقويما لكافة الأعمال ( إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه ، عليه أن ينوي خمسة أشياء - كما ذكرها الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين - :
أن ينوي بتعلمه الخروج من الجهل عملا بقوله تعالى : { قل هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمونَ والَّذينَ لا يَعْلَمونَ 9} الزمر ،.
أن ينوي بعلمه أن يعمل به : لأن العلم آلة للعمل ، وطلب الآلة لا للعمل عبث ولغو .
أن ينوي بعلمه أن يعمل به في منفعة الخلق عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء بمسند الشهاب لمحمد بن سلامة القضاعي : بسنده عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( خير الناس أنفعهم للناس ) .
أن ينوي بتعلمه إحياء العلم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام الربيع بن حبيب الأزدي البصري بسنده عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تعلموا العلم قبل أن يرفع ) ورفعه ذهاب أهله .
أن ينوي بتعلمه تجديد العلم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيمن بعثهم الله ليجددوا أمرهذا الدين ، فيما رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين بسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال – قال الحاكم : ولا أعلمه إلا عن رسول الله - ( إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) .
وروي أن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وبعث على رأس المئتين محمد بن إدريس الشافعي ، وبعث القاضي أبا العباس بن شريح على رأس الثلاث مائة .
وأن ينوي بعلمه العمل به في إصلاح الحال دفعا لسوء المآل : وفقا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن الحسن بن محمد بن علي عن مولاة لرسول الله قالت : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها - أو على بعض أزواج النبي - وأنا عنده فقال : ( إذا ظهر السوء فلم ينهوا عنه أنزل الله بهم بأسه ، فقال إنسان يا نبي الله : وإن كان فيهم الصالحون ؟ قال نعم يصيبهم ما أصابهم ، ثم يصيرون إلى مغفرة الله ورحمته ) .

وينبغي للمتعلم أن يطلب بعلمه وجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا ينوي به طلب الدنيا ، لأنه إذا طلب به وجه الله والآخرة ينال الأمرين جميعا ، وفقا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام الترمذي بسننه بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " ، وفي رواية أخرى في المعنى نفسه له بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك ) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
والتفرغ لعبادته تعالى يعني أن نتوجه إليه في كل ما نأتي من أعمال وقربات ، ومنها طلب العلم .
فإذا لم يقدر المتعلم على تصحيح النية فالتعلم أفضل من تركه ، لأنه إذا تعلم العلم فإنه يرجى أن يصحح نيته ، فقد روي في الأثر: ( من طلب العلم لغير وجه الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله تعالى وللآخرة ) .
وإذن فإنه كما أن النية تصحح العلم فإن العلم يصحح النية ، ويحدث هذا لمن كان قريبا من الله ، لم يشتط به الطريق ، وفي هذا يقول الإمام مجاهد رضي الله عنه (طلبنا العلم وما لنا فيه كثير من النية ، ثم رزقنا الله فيه النية ) [13]
إن الإسلام يجمع في منهجه التربوي الحضاري بين الأركان الأساسية الكبرى للحضارة الإسلامية : العلم والعمل والإيمان جميعا ، وهذا الجمع هو ما قامت الحضارة الغربية على أنقاضه ، وهذه الأنقاض هي ما حالت بين الحضارة الأوربية والتماهي - أو التشابه - مع الحضارة الإسلامية . وهنا يأتي السؤال الثاني : من أين إذن جاء التراجع في مجال العلم في المجتمع الإسلامي ؟
أهم الأسباب فيما نرى – دون المصادرة على أسباب أخرى – جاء من إهمال الربط يبن العلم والعمل ، في الوقت الذي دب فيه الفساد في الغرب المعاصر منذ بداية النهضة في فك عرى الربط بين العلم والدين . ولقد كان لهم أسبابهم في ذلك ، وهي أسباب صحيحة بحسب ما بين أيديهم من دين ، ولكن تلك مسألة أخرى ، لا يصح معها قياس على الحالة الإسلامية التي تنطوى على دين له ماله في إطلاق عنان العلم وفق ما ذكرناه سابقا .
ويأتي النموذج التطبيقي للربط إسلاميا بين هذه الأمور الثلاثة – العلم والعمل والإيمان - في القول المأثور لسيدنا علي رضي الله عنه : ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ، ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة . ومن لم يعمل بما علم تاه فيما علم ، و لم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار ) .
وجاء التراجع أيضا من إهمال آداب التعلم التي يأتي ذكرها في موقع النية من التعلم في الإسلام
هذا هو التراجع وتلك أسبابه .
*****
فمن أين جاء التحدي الذي تواجهه الحضارة الإسلامية في طريق التحامها بالنهج العلمي التجريبي الذي كأنه بضاعتها ردت إليها ؟
هنا نقول : إنه إذا كان الإسلام بطبيعته وتعاليمه وعقيدته يحتضن العلم التجريبي ويغذيه ، وإذا كان الإسلام قد جعل من المسلمين رواد هذا العلم ومنقذيه من ظلام اليونان ، وناشريه في أنحاء العالم ، فإن القضية لا تكمن – فحسب – في أن علماء أوربا الذين تلقفوا المنهج العلمي من أساتذة الحضارة الإسلامية جعلوا منه قنبلة موقوتة إذ أطلقوه من قيد الدين وجعلوا منه ماردا يهدد الإنسان ، في وجوده الطبيعي والبيئي والبيولوجي والنفسي والشخصي ، .. إن القضية أخطر من ذلك ، إذ جعل فلاسفتُهم من المنهج العلمي رسولا إلى الإلحاد ، حيث ترسخت في ظل هذه الفلسفة التجريبية قواعد : إنكار الغيبيات ، وادعاء حتمية قوانين الطبيعة ، والاستغناء بها عن الخالق ، وادعاء كفاية العلم التجريبي في مجال المعرفة والقيم ، وهي قواعد تنتمي إلى الفلسفة التجريبية بينما المنهج التجريبي منها براء [14]
ويتوجه هذا الخطر إلى الحضارة الإسلامية ذاتها : ذلك أنه بعد التراجع الذي حصل فيها في مجال العلم والتعلم بالفصل بين العلم والعمل وإهمال النية في توجهها إلى الله .. جاءت العلمانية لتدفع المجتمع إلى إعادة البناء على نسق يستبعد فيه الدين . هذه هي المشكلة . إن المشكلة تكمن في أن الغزو الخارجي أخذ يفرض على المسلمين نظاما تربويا علمانيا ، وفي أن الأوضاع الداخلية للمسلمين وتحت ضغوط العلمانية وتوجيهها جعلتهم يتقبلون هذه النظم التربوية التي يستبعد فيها الدين أو يحصر في أضيق نطاق ، فنشأت ثم تفاقمت ثم تسافدت مشاكل في صميم التصور العلمي ، ثم مشاكل في العملية التربوية نفسها . وكان من " تجلياتها الأخيرة " تعيين الدكتورة مونيكا شافيز التي تحمل الجنسية الأمريكية مديرة لفروع تطوير التعليم المصري مما يشكل تهديدًا للأمن القومي، وبخاصة بعد أن منحها وزير التعليم المصري – كما جاء في " المصريون " بتاريخ 6112006 - حق الحصول على المعلومات عن أدق تفاصيل الحياة العلمية والتعليمية والاجتماعية للمصريين وتسليمها إلى جهات أجنبية "مشبوهة" لتحليلها واحتمال توظيفها مخابراتيًا من وراء علم الجهات الأمنية المسئولة، أو من أمامها .والله أعلم
يتبع

------------------------------------------------------------------------
[1] في كتابه " بزوغ العقل البشري " ترجمة ونشر مؤسسة فرانكلين بالقاهرة عام 1964
[2] أنظر في شرح هذه النقطة كتابنا ( الإسلام ومشكلة الحضارة بين التعددية والصراع ) نشر دار الصحابة والتابعين بجدة والقاهرة عام 2001
[3] الإمكان الذهني يعني أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه ، بل يقول : يمكن هذا لا لعلمه بإمكانه ، ولكن لعدم علمه بامتناعه .
[4] إحياء علوم الدين ج 1ص22 , ج 4 ص 264
[5] أنظر دراسة للدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله بعنوان " رحلة حاسمة للتحول الحضاري من الشرق إلى الغرب 1 – الرحلة والربان "" نشرتها قبيل وفاتها بجريدة الأهرام 23 سبتمبر ، ...

[6] انظر بحث " الإسلام والعلم " لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ضمن كتاب المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية من ص 535 - 545
[7] | انظر المصدر الأسبق
[8] أنظر كتاب ( ما يعد به الإسلام ) لروجيه جارودي ص 140
[9] أنظر كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب " لزيجفريد هونكة ص 339 – 375 نشر دار الآفاق الجديدة ط الثالثة عام 1979
[10] انظر كتاب " فلسفة العلم " لفيليب فرانك ترجمة د. علي علي ناصف ، ط بيروت 1983 ص 49
[11] أنظر دراسة للدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله بعنوان " رحلة حاسمة للتحول الحضاري من الشرق إلى الغرب 1 – الرحلة والربان "" نشرتها بجريدة الأهرام 23 سبتمبر
[12] أنظر كتابه " ما يعد به الإسلام " ص 140
[13] بستان العارفين للإمام أبي الليث السمرقندي ص 2021
[14] أنظر مناقشتنا لهذه القواعد في كتابنا ( الفكر المعاصر في ضوء العقيدة الإسلامية ) نشر جامعة الإمارات .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.