الأحرار الاشتراكيين ل صدى البلد: الحركة المدنية تتخذ اتجاها معاكسا لمفهوم استقرار الدولة    معركة موازية على «السوشيال ميديا» بعد القصف الذي تعرضت له مدينة رفح    الأوقاف: افتتاح 21 مسجدًا الجمعة المقبلة    مصر للطيران: 50% تخفيض علي الرحلات الدولية وفرصة للفوز ب1000 ميل إضافى    عضو الغرف السياحية يكشف تفاصيل انطلاق رحلات الحج موعدها والجهات المنظمة    بعد غد.. انطلاق مؤتمر "إعلام القاهرة" حول التغيرات المناخية    شبكة القطار السريع.. كيف تغطي جميع أنحاء الجمهورية؟    الجيش الإسرائيلي يؤكد قصفه شرق رفح بعد موافقة "كابينيت الحرب" بالإجماع على استمرار العملية العسكرية    المقاومة في العراق تستهدف بالطيران المسيّر قاعدة "يوهنتن" الإسرائيلية    مدينة برازيلية تغرق تحت مياه الفيضان    الهلال يعود بريمونتادا ويخطف فوزًا مثيرًا من أهلي جدة في الدوري السعودي    محمد معروف يدير مباراة الاتحاد السكندري والأهلي    تعرف على أسباب خروج «ديانج» من حسابات «كولر»    مصرع تلميذين بالغربية أثناء استحمامهما في ترعة ببسيون    بعد إصابته بالسرطان.. هاني شاكر يوجه رسالة دعم ل محمد عبده    اهم عادات أبناء الإسماعيلية في شم النسيم حرق "اللمبي" وقضاء اليوم في الحدائق    ليلى علوي تحتفل بشم النسيم مع إبنها خالد | صورة    محمد عدوية: أشكر الشركة المتحدة لرعايتها حفلات «ليالي مصر» ودعمها للفن    أدعية استقبال شهر ذي القعدة.. رددها عند رؤية الهلال    لذيذة وطعمها هايل.. تورتة الفانيليا    قدم تعازيه لأسرة غريق.. محافظ أسوان يناشد الأهالي عدم السباحة بالمناطق الخطرة    إزالة 164 إعلاناً مخالفاً خلال حملة مكبرة في كفر الشيخ    تفاصيل التجهيز للدورة الثانية لمهرجان الغردقة.. وعرض فيلمين لأول مرة ل "عمر الشريف"    التيار الإصلاحى الحر: اقتحام الاحتلال ل"رفح الفلسطينية" جريمة حرب    غارة إسرائيلية تدمر منزلا في عيتا الشعب جنوب لبنان    تناولها بعد الفسيخ والرنج، أفضل مشروبات عشبية لراحة معدتك    بعد فوز ليفربول على توتنهام بفضل «صلاح».. جماهير «الريدز» تتغنى بالفرعون المصري    ضحايا احتفالات شم النسيم.. مصرع طفل غرقًا في ترعة الإسماعيلية    موعد إجازة عيد الأضحى 1445 للطلاب والبنوك والقطاعين الحكومي والخاص بالسعودية    أرخص موبايل في السوق الفئة المتوسطة.. مواصفات حلوة وسعر كويس    مائدة إفطار البابا تواضروس    قبل عرضه في مهرجان كان.. الكشف عن البوستر الرسمي لفيلم "شرق 12"    زيادة في أسعار كتاكيت البيّاض 300% خلال أبريل الماضي وتوقعات بارتفاع سعر المنتج النهائي    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    طلاب جامعة دمياط يتفقدون الأنشطة البحثية بمركز التنمية المستدامة بمطروح    صانع الدساتير يرحل بعد مسيرة حافلة، وفاة الفقيه الدستوري إبراهيم درويش    صحة الإسماعيلية.. توعية المواطنين بتمارين يومية لمواجهة قصور القلب    رفع الرايات الحمراء.. إنقاذ 10 حالات من الغرق بشاطئ بورسعيد    عضو ب«الشيوخ» يحذر من اجتياح رفح الفلسطينية: مصر جاهزة لكل السيناريوهات    أمينة الفتوى تكشف سببا خطيراً من أسباب الابتزاز الجنسي    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    المصريون يحتفلون بأعياد الربيع.. وحدائق الري بالقناطر الخيرية والمركز الثقافي الأفريقي بأسوان والنصب التذكاري بالسد العالي يستعدون لاستقبال الزوار    برلماني يحذر من اجتياح جيش الاحتلال لرفح: تهديد بجريمة إبادة جماعية جديدة    لقاء علمي كبير بمسجد السلطان أحمد شاه بماليزيا احتفاءً برئيس جامعة الأزهر    الصحة تعلن إجراء 4095 عملية رمد متنوعة مجانا ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    نانسي عجرم توجه رسالة إلى محمد عبده بعد إصابته بالسرطان.. ماذا قالت ؟    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    في العام الحالي.. نظام أسئلة الثانوية العامة المقالية.. «التعليم» توضح    في خطوتين فقط.. حضري سلطة بطارخ الرنجة (المقادير وطريقة التجهيز)    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    مفوضية الاتحاد الأوروبي تقدم شهادة بتعافي حكم القانون في بولندا    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    متى يُغلق باب تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء؟ القانون يجيب    ضبط 156 كيلو لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بالمنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    طارق السيد: لا أتوقع انتقال فتوح وزيزو للأهلي    تعليق ناري ل عمرو الدردير بشأن هزيمة الزمالك من سموحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجذور الثقافية لعداوة زعماء الغرب للإسلام (2 3)
نشر في الشعب يوم 03 - 02 - 2007


بقلم: أد : يحيى هاشم حسن فرغل
عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا ،
yehia_hashem@ hotmail .com
[email protected]

ولم تكن آراء المستشرقين العدوانية التي استمرت قرونا والتي تحدثنا عنها في المقال السابق هذه مجرد سطور فى بطون الكتب ولكنها ذات أثر ملموس فى وجدان الرجل العادي فى الغرب وفي المستغربين من أذيالهم من العرب .

يقول د. إدوارد سعيد ( تطغى هذه الآراء المعاصرة للمستشرقين على الصحافة والعقل الشعبي ، فالعرب مثلاُ يصوَّرون راكبي جمال ، إرهابيين ، معقوفي الأنوف ، شهوانيين شرهين ، تمثل ثروتهم غير المستحقة إهانة للحضارة الحقيقية
وثمة دائماً افتراض متربص بأن المستهلك الغربي رغم كونه ينتمي إلى أقلية عددية ذو حق شرعي إما في امتلاك معظم الموارد الطبيعية في العالم ، أو في استهلاكها أو في كليهما ، لماذا ؟ لأنه إنسان حق بخلاف الشرقي... إن غربياً أبيض ينتمي إلى الطبقة الوسطى يؤمن بأنه امتياز طبيعي له لا أن يدير شئون العالم غير الأبيض وحسب ، بل أن يمتلكه كذلك ، لمجرد أن العالم الأخير تحديداً ليس بالضبط إنسانياً تماماً بقدر ما "نحن الغربيين " كذلك )!!
وكمصل وقائي ضد ما يمكن أن يكتشفه الغربي في هذه الثقافة الاستشراقية من خزعبلات يبادر المستشرق الفرنسي أرنست رينان إلى تحصين قومه بقوله (إنه لمن الأفضل أن يكون المرء مخطئاً مع أمته المخطئة كلها من أن يكون على درجة عالية من الصواب مع أولئك الذين يكشفون لها الحقائق القاسية.) !!

وهكذا رأينا المعارضين للحرب ضد العراق في الولايات المتحدة وبريطانيا يسارعون للاصطفاف مع حكومتهم عندما بدأت .
وهكذا بألسنة المستشرقين يقاد القطيع في الغرب ، ومع القطيع جاء بلير كما جاء البابا يبرطع !

وهكذا تقبل الغرب المسيحية ولم يتقبل الإسلام بعد
تقبل المسيحية بعد أن طوعها أو تطوعت له ، ولم يتقبل الإسلام لعصيانه على التطوع بالرغم من محاولات الشرقنة المشار إليها اعلاه
مايلي نشر في 2 8 2004
نعم فإن كثيرين قد يبادرون إلى السؤال : إذم فلماذا تقبل الغرب المسيحية ولم يتقبل الإسلام مع أن كلا منهما وارد من أعماق الشرق ؟
نقول : - ومن الواضح أن كلامنا في هذا المقال مختص بالغرب - : نعم لقد تقبل الغرب المسيحية التي ظهرت في الشرق وإن يكن بعد ظهورها فيه بما لا يقل عن ثلاثة قرون ، بينما هو ما يزال يستعصي على قبول الإسلام بعد ظهوره بأكثر من أربعة عشر قرنا ، باستثناء بعض الفتوحات الإسلامية العربية والعثمانية التي ظل يقاومها حتى قضى عليها ، وما يزال يأمل في القضاء عليه في حوض البحر الأبيض المتوسط باعتباره منطقة امتداد لأوربا تاريخيا وجغرافيا ، أقصي عنها لفترة لا يزال يراها مؤقتة مهما طال الزمن.
لكن هذه المقارنة في حد ذاتها تبين لنا السبب في قبول الغرب للمسيحية دون الإسلام ، وما ذاك إلا لأنه عندما فتح أبوابه للمسيحية إنما فعل ذلك بعد أن استوعبها داخل ثقافته وعقائده القديمة الموروثة عن اليونان والرومان وما داخلهما كما أثبته الدكتور شارل جنيبر رئيس قسم الأديان بجامعة باريس
وشارل جنيبر هذا نشأ مسيحيا من أب مسيحي وأم مسيحية في بيئة مسيحية صميمة كاثوليكية متعصبة هي البيئة الريفية الفرنسية ، ليس فيه عرق يهودي أو عرق عربي ، وتعلم في المدارس الفرنسية ، وانتهى به الأمر إلى نيل الدكتوراة ، وانتظم في هيئة التدريس الجامعي ، وتخصص في تاريخ الأديان على وجه العموم ، وأخذ يتعمق في المسيحية ومن أجل تخصصه فيها درس بعض اللغات كالعبرية واللاتينية ، ودرس الجو الذي نشأت فيه المسيحية وهو الجو الديني العبري الذي نشأت فيه المسيحية ،ونشأ فيه السيد المسيح عليه السلام ، وقضى فيه حياته القصيرة نسبيا ، وأخذ يرتقي في المناصب الجامعية حتى وصل إلى أستاذ تاريخ المسيحية في جامعة باريس ، ثم وصل إلى منصب رئيس قسم تاريخ الأديان في الجامعة وذاع صيته عالميا وتوالت كتبه ، وراجت ، وكتب في تطور المسيحية ثلاثة كتب ، في القرون الأولى من تاريخها ، ثم في العصور الوسطى ، ثم في العصور الحديثة . ومات بعد الحرب العالمية الثانية
في كتابه " المسيحية : نشأتها وتطورها " يُرجع شارل جنيبر – وذلكم ثقله في المسيحية وعلم مقارنة الأديان - أسباب انتشار المسيحية وتغلبها على الأديان السابقة عليها في أرجاء الامبراطورية الرومانية : ( إلي أنها دأبت على امتصاص لباب العقائد الوثنية وإفراغها منه مادامت تجد في ذلك صلاح أمرها ) 173 وأنها : ( راحت تمتص في صبر كل جوهر ظل حيا للفكر اليوناني ) ص 178 ويقرر أن ( الواقع أن المسيحيين كانوا قد دفعوا ثمن الانتصار ، دفعوه غاليا . بحيث نستطيع القول في شيء من الجزم بأن مؤمني عصر الحواريين لم يكونوا لينظروا إلى هذا الانتصار - لو قدروا على ذلك - على أنه كذلك .. .. ) ص 182
ويقول : ( إنها كانت في غالب الأحوال تسير على أسلوب " الإبدال " أي تحول لصالحها الأساطير والخرافات السائدة معتمدة على عبادة القديسين ، تلك العبادة التي يسرت كثيرا من مهمتها التبشيرية ، فتقيم تماثيل قديسيها محل الشخصيات الإلهية الصغيرة التي اعتادها الفلاحون وأحبوها حبا جما ، لاعتقادهم بأنها تؤدي لهم العديد من الخدمات اليومية التي يطلبونها منها ، وهكذا بدت القرى وكأنها آخذة بأهداب المسيحية ، وتقدم العمل التبشيري فيها كثيرا في نهاية القرن الخامس ) ص 179
ويقول أيضا : ( وسارت تلك الهيئة المسيحية الكبرى بدفعة هائلة من النشاط في القرن الرابع فبدت وكأنها تجذب إليها كل ما احتفظ به العالم الوثني من جوهر حي ، وحتى الطقوس والمراسم التي اتشح بها الإكليروس وازدان نراها تتضخم وتزداد بريقا ، فهي قد تبنت كل زخارف العبادات القديمة ) المصدر السابق ص 182
ويقول : ( الحقيقة الثابتة التي لا جدال فيها هي أن الكنيسة لم تتمكن من الانتصار خلال القرن الرابع إلا بفضل انهزام الإيمان الأول ، الذي يمكن أن نسميه " إيمان الاثني عشر" ) ص 190
ويقول : ( وهي - أي المسيحية - على الصورة التي رسمها لها عيسى – عليه السلام - والحواريون الاثنا عشر لم تكن لتجد سبيلا إلى الحياة خارج الأوساط اليهودية الخالصة ، لأنها لم تكن لتعني شيئا إلا بالنسبة إليهم كاتجاه عقائدي ، بل لم تكن تشكل سوى تعبير خاص عن الفكرة اليهودية المتعلقة بالانتصار وحلول مملكة الله .
أما من ناحية تشكيلها لمجتمع ديني فلم تكن لتتعدى صورة الفرقة اليهودية التي تعيش على هامش السنن الأصيلة المتمثلة في مجتمع معبد القدس الأكبر والمعابد الفلسطينية عامة ) ص 205
ثم يقرر المؤلف أنه ( منذ بداية القرن الثالث الميلادي المسيحي أصبحت المسيحية منفصلة عن اليهودية وصارت دينا مستقلا له عقائده ومراسمه وتنظيماته ، التي تحددت أسبابها الجوهرية واتجاهاتها العامة المستقبلة وإن لم تكن قد خرجت بعد من طورها الأولي
وتلك العقائد والمراسم والتنظيمات لم تنشأ بفعل قوة ذاتية مفطورة فيها بل هي على العكس تكونت بفضل نوع من التأليف تعاونت عبادات الشرق من يهودية وأديان ذات أسرار مع الفكر اليوناني في تزويده بجميع عناصره ) ص 163
ويقول في بيان أن انتصار المسيحية إنما كان لتمثلها للنزعات الفلسفية والدينية السائدة : ( إذا كانت المسيحية قد تغلبت على الأفلاطونية الجديدة والمانوية وحلت محلهما في ذلك العصر { القرن : الرابع والخامس } فلأنها استطاعت أن تعبر في صورة أبلغ مما قدر لهما عن نفس ما نزعتا إليه من اتجاهات ، ولم تلغ في تعبيرها أي نزعة من النزعات ، بل شملتها جميعا ، مع تنسيقها ، ومع تحديدها بالدرجة التي تتجاوب فيها وحاجات مختلف طبقات الناس الباحثة عن غذائها الديني ) ص 203
ثم يقول المؤلف عن تطور المسيحية في القرن الرابع والخامس في أوربا : ( وهكذا وبفضل التعاون اللاشعوري بين تأثيرات تختلف في أصلها ولكنها تنشط لتلتقي في بؤرة واحدة ، نشأ في القرن الرابع دين لا يشبه في الكثير من نواحيه ذلك الذي لمحناه على أعتاب القرن الثالث ، وسيطر هذا الدين الجديد في الواقع على العالم الروماني عند بدء القرن الخامس ) 189
ويقول في افتراق مسيحية القرون الوسطى في أوربا افتراقا تاما عن دين عيسى عليه السلام : ( المسيحية في القرون الوسطى عندما نتأملها ثم نقارن حالها بدين نبي إقليم الجليل ذلك النبي المتواضع الرقيق الخلق الذي قرر أن رسالته هي فقط تبشير إخوته في الله بالنبأ الطيب ، نبأ حلول مملكة الله وحثهم على إعداد العدة لها بمكارم الأخلاق ، دين عيسى - عليه السلام - الذي تسامت تقواه إلى إله أجداده ، لا نجد رابطة تذكر بين هذا وذاك .
فباسم المسيح يبدو أن حياة الوثنية كلها – سواء في ميدان الفلسفة أو الدين وبكل ما انطوت عليه من تناقضات وفوضى - قد دبت فيها الحياة من جديد ، فنشطت وانتصرت على دين الروح والحق ، الذي بشر به وعاشه عيسى عليه السلام . ) ص 190
ويقول في الانهزام الروحي والانتصار الظاهري للمسيحية في أوربا : ( انهزمت المسيحية الأولى في الصراع الروحي الذي خاضته مع الحياة ، وقبلت الكنيسة في الواقع هذا الانهزام ، واتخذت الحياة اليونانية كلها ثوبا من المسيحية ، ولازمت الدين الذي يتعارض معها دون أن يضيرها ذلك في شيء .
والنتيجة الكبرى الواضحة لكل ما تقدم والتي نلحظها على أعقاب القرن الخامس هي أن انتصار المسيحية في سائر وجوهه لم يكن إلا انتصارا ظاهريا ، حيث إن الدين الجديد لم يطوع العالم اليوناني الروماني لعقيدته وروحه ، بل على العكس من ذلك نرى هذا العالم قد تشرب هذا الدين وطوعه لتطلعاته الأصلية وتقاليده في جميع المجالات الفكرية والمادية .
والكنيسة – والمقصود الرومانية – هي المسئولة عن تلك النتيجة لأنها هي التي كانت القوة المتحكمة في أمور المسيحية ، والممثلة الوحيدة للمسيحيين ، وهي التي وافقت بوصفها هذا على الحلول الوسط على ألوان مختلفة من التنازلات ، ثم هي التي انتصرت في تلك الظروف لا المسيحية .
أما مُثل الحياة الأولى فلم تحظ من التقدير إلا بقسط ضئيل إذ اتُّخذت موضوعا مختارا لأحاديث الوعظ الكنسية ، ولم يعد لها تأثير حقيقي في تسيير هذه المسيحية الخارجية الاسمية على حد تعبير تولستوي ، التي ارتضتها الكنيسة شيئا فشيئا بالنسبة إلى عامة الأتباع ) ص 191 - 192
ويقول في تطور المسيحية على يد الغرب : ( إن الغربيين لم يفهموا العقائد المسيحية في العصور القديمة قط ، كما لم يصلوا إلى إدراكها في العصور اللاحقة ، وإن الديانة التي أنشأوها على أساس منها باجتهادهم الخاص كانت ديانة مختلفة تمام الاختلاف في روحها وجوهرها عن المسيحية الشرقية
ديانة مختلفة نبعت قبل كل شيء من رصيدهم الفكري والروحي ، متمشية مع عواطفهم ونزعاتهم ، وإن صبت في قوالب تعبيرية لا توافقها تمام الموافقة
والخلاصة أن الغربيين لم يكونوا مسيحيين في يوم من الأيام ) 209
ومن هنا نضيف أن مقاومة الغرب لهذه المسيحية الأولى كانت في جوهرها جزءا من مقامومته الذاتية للإسلام تماهيا مع قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقول الحواريين ( واشهد بأنا مسلمون )
ثم يقول شارل جنيبر عن دور جمهور المؤمنين البسطاء ( نزع إيمانهم الفطري الدافق في قوة لا تقهر إلى طلب الإضافات والإعلاء ، وإلى التهويل في تصوير الموضوعات وتنميتها من حيث الكم ، ولم يكونوا يقدرون على الخلاص من إيحاءات الوسط الذي يعيشون فيه ، ولا على التخلي في حياتهم عن تراثهم العتيق ، ولما كانت سائر أوجه معيشتهم لا تزال مشبعة بالوثنية فقد طلبوا الإضافات والإعلاء من الوثنية ومن تقاليد الأجداد ، ومن الطقوس القديمة البالغة القدم حتى لكأنها جزء لا يتجزأ من مجتمعهم ومن المعتقدات والخرافات التي لازمتهم في كل زمان ، فلم يعودوا يميزون بينها وبين تفكيرهم الديني الخاص ، وإرادات مذاهبهم التأليفية في آن واحد : أن يكون عيسى هو الله وأن يظل الله واحدا ..
ثم هي قد أقامت بعبادتها لمريم العذراء حقيقة جديدة مكنتها من الإيمان إلى جانب عبادات القديسين .... ) 187

وماذا فعل علماء اللاهوت إزاء هذا المشاعر الجماهيرية ؟ يقول شارل جنيبر : ( وجد علماء اللاهوت أنفسهم في مأزق من جراء ذلك الحماس الإيماني لدى الشعب ، وخرجوا من أمثال تلك المآزق بوضع الحلول الوسط ، اللازمة لتطويع المعتقدات وتطويرها في الاتجاه المناسب ) ص 187 – 188

ويتحدث المؤلف عن دور الرهبان فيقول : ( كانت تقواهم الملتهبة من ناحية أخرى ترحب ترحيبا تلقائيا – وهي الباحثة دائما عن وسائل تجنب الخطيئة – بالإضافات المترتبة على إيمان البسطاء ، تلك الإضافات التي يجدون فيها السلوى والنشاط المتجدد ، بل أحيانا : التأييد والتشجيع والعاطفة المكملة لتطلعاتهم ) ( ص 188 )
ويقول المؤلف أيضا : ( فإليهم – أي إلى هؤلاء الرهبان – كانت تنتهي رغبات وإيحاءات الإيمان الشعبي ، وبينهم كانت هذه الرغبات والإيحاءات تتخذ سبيل الوضوح والانتظام ، لتفرض نفسها أخيرا على علماء اللاهوت ، الذين لم يكن لهم بد من تقبلها ومن التوفيق قدر الاستطاعة بينها وبين المسيحية ) ص 189

و في هذا السياق صدرت قرارات المجامع التي تم فيها فرض سيادة الكنيسة الأوربية الرومانية في فترة تاريخية هامة ... ، والتي بلغت أكثر من تسعة مجامع ، بدأت بمجمع أورشليم عام 49 م ثم تتابعت المجامع الأوربية على مدي عشرين قرنا ، بدأت بمجمع نيقية الأول الذي عقد عام 325 ، ، وانتهت بالمجمع المسكوني الثاني عام 1965 ، وفي هذه المجامع تم تقرير وتأسيس وتطوير أهم موضوعات العقيدة وأكثرها أصولية وأهمية وخطورة وحميمية ، مثل تأليه السيد المسيح ، و إدانة أريوس وحرمانه الذي كان رافضا لهذا التأليه ، و مساواة الروح القدس بالله وبالسيد المسيح وفرض عقيدة التثليث ، وفرض عقيدة أن السيدة مريم العذراء هي أم الله ، و إدانة القائلين بأن المسيح له طبيعة واحدة جسدية وليست له طبيعة إلهية ، وإدانة النسطوريين الذين كانوا لا يزالون يرفضون عقيدة التثليث ، وإدانة القائلين بأن هناك طبيعة واحدة فقط للسيد المسيح و "إرادة واحدة لطبيعة يسوع الإله الحقيقي ، وأحد أقانيم الثالوث المقدس" ، وإدانة الذين يعترضون على عقيدة تجسد الله في المسيح ، وإضافة مزيد من التفاصيل التي تؤكد " أن السيد المسيح هو الله ومن نفس طبيعة الله ومن نفس طبيعة البشر ما عدا الخطية ". ، وفرض صحة الترجمة اللاتينية للأناجيل التي قام بها القديس جيروم وأقرها مجمع سنة 494 م ، و فرض الإيمان بهذه النصوص على " أنها نص منزّل نهائي وأساسي " ، . وصياغة عقيدة الخطية الأولى ، وحملها على كافة الأتباع ، وإدانة مارتن لوثر والمحافظة على الأسرار السبعة للكنيسة ، وفرض حقيقة " تحول قربان الإفخارستيا فعلا إلى دم المسيح ولحمه عند تناولها ". وتجديد قضية المطهر وعبادة القديسين وإباحة الصور الدينية .وتأكيد السيادة الباباوية ومعصومية البابا من الخطأ بما أنه يمثل الله على الأرض ، وأخيرا وليس آخرا مجمع الفاتيكان الثاني الذي انعقد عام 1962 – 1965 والذي تم فيه تبرئة اليهود من دم المسيح . لمعرفة المزيد راجع كتاب " المسيحية : نشأتها وتطورها ) لشارل جنيبر ، ترجمة عبد الحليم محمود ، ونشر دار المعارف ، و كتاب ( تاريخ ونصوص المجامع المسكونية 1994) . وكتاب " حرب صليبية " للدكتورة زينب عبد العزيز نشر دار الكتاب العربي = دمشق والقاهرة ، ومقالتها بجريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 1162004 بعنوان " المسيحية والألف الثالثة " في تعليقها على كتاب الدكتور/ الأنبا يوحنا قلتا ، بنفس العنوان : الصادر عن دار مصر المحروسة .

هذه القرارات المتراكمة على مدى القرون من عام 49 م إلى عام 1965 م والصادرة من المجامع الأوربية ذات الكنسية المعصومة عن الخطأ ، بما لها من صلاحية التقرير والتطوير والتجديد ، والتي تعرض مخالفيها للإدانة والحرمان .. هي ما كان مطلوبا من المسيحي أن يؤمن بها وفقا لسلطة المجامع المشمولة برعاية الروح القدس -- استنادا إلى العقيدة -- الأمر الذي أدى إلى ظهور العلمانية استبعادا للدين عند البعض أو قضاء عليه عند البعض الآخر ؟

وإذا كان لأحد أن يرى أن شارل جنيبر قد بالغ في نسبة هذا التغيير أو ذلك التطوير إلى أشكال من التراث الشعبي والديني والفلسفي اليوناني والروماني ولم يلق بالا - كما كان يجب - إلى ما يعتقد به المسيحي من أنها إنما كانت بتوفيق " الروح القدس " الموجه للكنيسة فإن ذلك – مع ملاحظة أن كلامنا يقتصر على الكنيسة الأوربية – لا يغير شيئا من قضيتنا الرئيسية وهي القول بحدوث هذا التغيير والتطوير ، الأمر الذي يجيب على سؤالنا الرئيس : لماذا تقبل الغرب المسيحية ولم يتقبل الإسلام بالرغم من أن كليهما نشأ في بلد من بلاد الشرق الأوسط ؟ ويصبح الجواب بتعبير موضوعي واضح هو أن ذلك لم يكن ممكنا في الإسلام المتأبية ثوابته على أي تغيير ، بصرف النظر – في هذه المرحلة من البحث - عما قد يحتسبه البعض في كفة الميزان هذه أو تلك . .
وقد يصح أن نستشهد هنا بما يقول شارل جنيبر بحسم وإن يكن في مجال آخر : ( لو بقيت المسيحية على ما كانت عليه في البدء لما قدر لها من النجاح في غزو العالم الغربي حظ أكبر من حظ ديانة إيزيس المصرية ، أو الأم الكبرى سيبيل الفريجية أو أدونيس السوري ، او ميثرا الفارسي ) ص 204
ومن هنا نضيف مرة أخرى أن مقاومة الغرب لهذه المسيحية الأولى كانت في جوهرها جزءا من مقامومته الذاتية للإسلام تماهيا مع قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقول الحواريين ( واشهد بأنا مسلمون )

هكذا كان الحال في تقبل الغرب للمسيحية الناشئة أصلا في الشرق ، أصلا في الشرق ، بينما هو يجد من المستحيل عليه أن يفعل ذلك بالإسلام – بغض النظر عن المحاولات الفاشلة من بعض المبشرين وبعض المستشرقين وبعض أذنابهم من العلمانيين الذين تم استنساخهم في البلاد الإسلامية - ، وذلك لأسباب ترجع إلى الإسلام نفسه الذي يتأبى بجوهره على التعديلات التي يستهدفها بعض هؤلاء ضد ثوابته في عقيدة التوحيد والنبوة والآخرة ، وثوابته في القرآن والسنة والإجماع ، وثوابته في العبادات والمعاملات والأحكام والأخلاق وهي ثوابت مستقرة أشد ما يكون الاستقرار ، قرآنا وقراءة ، لغة و نصا ، متنا وسندا ، تاريخا وتراثا وحضارة ، ولم يكن في تاريخ هذه الثوابت مجال لاجتهاد أبعد من الاجتهاد في مناهج الوصول إليها ، مشروطا بالبدء منها والرجوع إليها ، وما عداه فقد كان جهدا فاشلا مفضوحا لا ينطلي على ذي بصر أو بصيرة ، ومن ثم كانت هذه الثوابت مستهدفة من المحرفين الفاشلين ورجال الكنيسة الأوربية ، والمبشرين الأوربيين ، والثقافة الغربية والذاتية الحضارية الغربية العصية ذات التاريخ العريق ، فكان لا بد من المقاومة الغربية للإسلام ، تلك المقاومة التي لا تنثني ، والتي دخل المستشرقون وأذنابهم من العلمانيين – إلى ساحتها بغريزة الدفاع عن الذات ، هذا الدفاع الذي أصيب فيه المستشرقون بالتعضون في بنية هذه الحضارة الغربية ، وتمترس بها كما تمترست به . وفي بنية هذه الحضارة تتربع المسيحية ، حتى في مرحلة طغيان العلمانية وإن يكن : لا كدين ، ولكن كثقافة ، ووثن ، وفي هذا يقول المفكر الإنجليزي ت . س . إليوت في شأن هذه الثقافة في كتابه ملاحظات نحو تعريف الثقافة : ( إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا ، وعندئذ يكون عليك أن تبدأ البداية المؤلمة من جديد ، ولن تستطيع أن تلبس ثقافة جديدة جاهزة ، يجب أن تنتظر حتى ينمو العشب ، ليغذو الضأن ، ليعطي الصوف ، الذي ستصنع منه سترتك الجديدة ، يجب أن نمر بقرون كثيرة من الهمجية ، ولن نعيش إذن لنرى الثقافة الجديدة ، لا نحن ولا أحفادنا ، ولو عشنا لما سعدنا بها ) .

ومن هنا فإننا نقول : هذه هي الحقيقة التي توضح لنا كيف أصبحت الثقافة الغربية والغرب بالتالي منطقة عصية على الإسلام ، ، يقف المستشرقون ومن ورائهم أذنابهم .. على ثغورها بكل إمكانياتهم وقوتهم كجزء من جهازها المناعي العام . باستثناء فترات تاريخية وأماكن جغرافية معروفة تم تصفية الإسلام فيها بعد طول إقامة الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن الاستشراق بتاريخه الطويل وتأثيره الراسخ في البنية الثقافية الغربية ، وقدرته على تحويل الشرق في ذهن الغربي إلى " شرقنة " – على تعبير الدكتور إدوارد سعيد - أي إلى شرق مصنوع مشوه ومزيف بهدف السلطة والإنشاء والمعرفة ( الزائفه) .... نذهب إلى أنه – أي هذا الاستشراق - أحد العوامل الإضافية التي أثرت في موقف الغرب من الإسلام والمسلمين ، تصغر بجواره تأثيرات محدثة لما يسمى اللوبي الصهيوني ، أو سوء عرض المسلمين للإسلام ، أوانفلات تيار التطرف والإرهاب إلخ
صحيح أن هناك أنواعا مختلفة من المستشرقين ، وهم ليسوا جميعا على نمط واحد في تشويه الإسلام – باسمِ ظاهرٍ من البحث العلمي – فهناك المستشرقون الذين لا يخفون عواطفهم المعادية للإسلام ، لكن هناك أيضا بعض الذين يقدمون شيئا من الصدق في نتائج بحثهم في الإسلام ، إلى حد الدفاع جزئيا عن بعض حقائقه ، ثم هناك الذين وصل بهم بحثهم إلى حد الدخول في الإسلام .
وبالرغم من أن هؤلاء جميعا لا يمكن تصنيفهم وفقا لحدود قاطعة فإنه يجب ألا يغيب عنا أن الأغلبية العظمى هي من النوع الأول بادي العداوة شهيرها من أمثال أرنست رينان ، وجولدزيهر ، وهاملتون جب ، ونولدكة ، وماكدونالد ، وفون جرونباوم ، واللورد كرومر ، وهنجنتون ، والرئيس نيكسون أخيرا في كتابه " انتهزوا الفرصة " إلخ.
أما النوع الثاني على قلتهم فإن غالبيتهم ممن وجدوا .. بحافز من دوافعهم الفردية في خضم التنافس العلمي مع أقرانهم من المستشرقين .. أن عليهم أن يبينوا لبعض هؤلاء الأقران بعض أخطائهم ، محتفظين بهجومهم على الإسلام في مواضع أخرى ، وهم مهما بلغوا فيما يسميه البعض منا إنصافا فإنهم لا يقرون قط بصحة الإسلام كدين من عند الله ، ولا ينسبون محمدا صلى الله عليه وسلم إلى النبوة في شيء ، وإن كنا نحن المسلمين يمكننا أن نستفيد في ضربهم جميعا بضرب بعضهم بعضا ، ومن أمثال هؤلاء توماس كارليل ، وتوماس أرنولد ، ومونتجومري وات ، وجوته ، وماسينيون ، وباول شمتز ، إلخ .
أما النوع الثالث فهم يعدون على أصابع اليدين ، من أمثال روجيه جارودي ، وإتيين دينيه ، وليوبولد فايس ، وهنري دي كاسترو ، وزيجفريد هونكة ، ولكن هؤلاء سرعان ما يُنفَون من المؤسسة الاستشراقية بفعل آلية ذاتية ، ويصنَّفون بعد ذلك لا كمستشرقين ، ولكن كمسلمين أو شرقيين أو هراطقة ؛ ثم يبقى للمؤسسة الاستشراقية تصلبها الحضاري واقتصارها على النوعين الأولين ، اللذين لا يمكن في مقياس الإسلام وضع أحدهم في خانة الإنصاف ، بغير تصديقه إذ أنه بغير هذا التصديق لا يكون ثمة إنصاف للإسلام .

أما إذا نظرنا خارج فضيلة الإنصاف فقد يرى البعض منا أن لهم فضيلة البحث المنهجي ، وتلك أكذوبة أو مبالغة وقعنا فيها بحكم تخلفنا الثقافي الطارئ ، إذ الحقيقة أننا نحن الذين من قبلهم بقرون قد استوعبنا منطق أرسطو ، وابتكرنا ما يكمله أو يصححه في بعض أطرافه ، ونحن الذين ابتكرنا مناهج البحث المختلفة للعلوم المختلفة : في نقد الخبر سندا ومتنا ، وفي أصول الفقه والتشريع ، وفي إبداع ما سميناه – ثم أهملناه على يد الخلف – علم ( أصول البحث والمناظرة ) . وفي المنهج التجريبي الذي قدمناه حلالا زلالا لأوربا .
وقد يرى البعض أن لهم فضيلة العناية بالمصادر والمخطوطات الإسلامية :اقتناء وحفظا ودراسة ، ولكن هذه الفضيلة لا يمكن أن تخلص لهم ، سواء إذا نظرنا إلى طريقة حصولهم على هذه المصادر ، أو طريقة استفادتهم بها ، أو نتائج اشتغالهم بها .
فأما عن طريقة حصولهم عليها فمن الواضح أن ذلك قد تم في إطار النهب الاستعماري للبلاد الإسلامية ، وإذا كان بعض أجدادنا في مرحلة معينة أصيبوا بالقصور أو التقصير ولم يكونوا – في نظر البعض – على وعي كاف ، أو على مقدرة كافية للاحتفاظ بهذا التراث ، فإننا لا نعرف أن قانونا أخلاقيا قد صدر في الغرب أو في الشرق يجيز نهب القصر الضعفاء أو يجيز التفاخر به .
ومن المضحك أننا في الوقت الذي نرى فيه بعضهم يتعاملون مع هذه المصادر وفقا لطقوس نفاقية يلبسون فيها القفازات قبل الإمساك بها حفاظا عليها ؛ لا يسعنا أن ننفي من الصورة أيديهم وهم يذبحون أطفالنا ونساءنا وشيوخنا في فلسطين والعراق ،ولبنان ، والبوسنة والهرسك والشيشان وعموم آسيا وأوربا.
وأما عن طريقة استفادتهم بها فمن الواضح أنها لا تتجاوز الصفر في مقياس الحقيقة ، وليس أدل على ذلك مما صحونا عليه أخيرا من صيحات الحقد والكراهية والعداء الغربي للإسلام على جميع المستويات ، الأمر الذي يؤكد أن هذه الكراهية لم يكن مصدرها سوء عرض المسلمين للإسلام بقدر ما كان من مواقف المستشرقين من الإسلام ، إذ أن أغنى مصادر التعريف الصحيح بالإسلام موجودة بين أيدي رجالهم المستشرقين ، وهو ما يلقي بقفاز اللوم والإدانة في وجوههم.
وأما عن نتائج اشتغالهم بهذه المصادر - والشجرة إنما تعرف بثمارها – فما هي نتائجهم تلك ؟ مجموعة من أعمال تتسم بالجهل باللغة العربية ، والتهم المتناقضة ، تتلخص في إشاعة القول ببشرية القرآن ، واعتماده على مصادر يهودية أو مسيحية ، والقول بانتشار الإسلام بالسيف ، وأنه دين شهواني ، يحتقر المرأة ، ولا يعنى بحقوق الإنسان ، دين لا حضاري ، متوحش ، فاشل تاريخيا ، غوغائي ، متطرف ، ضد التقدم والتطور والمتعة والجمال ، إله قاس متجبر غير مؤنسن ، عداء صارخ لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم ، بله القول بعبادة المسلمين لموميتو ، الذي يضعه دانتي في القاع الأسفل من جحيمه بجوار إبليس . وهو للعلم : ( جحيم دانتي ) الذي احتفل به تلاميذهم منا ، باعتباره من عيون الأدب العالمي .
ومن نتائجهم : تلامذتهم من الشرقيين صنائع الاستشراق الساقط الذين تتلمذوا على أيديهم الذين يرددون– غالبا - مقولاتهم في تشويه الإسلام حرفيا ، ويتصرفون في صب هذه المقولات إلينا تصرف ثقب الحوض في خر ما يلقى فيه من صنابير الغرب ، علي حد قول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في وصفهم .
وهم الذين نشروا في ثقافتنا مفاهيم النسبية التاريخية ، والرجعية الدينية ، والشك الديكارتي في النص القرآني ، وأخذوا على عاتقهم غربنة الإسلام فيما يسمونه "الإسلام الجديد " ، وتجديد الخطاب الديني الذي يقبل المسيحية واليهودية والإسلام على حد سواء ، والذي يطلب الدنيا كما يطلبها الكافر ، ويقبل العلمانية كما يقبلها الأوربي ، ويقبل الصهيونية كما يقبلها الأمريكي ، ويقبل الانفساح العسكري والسياسي والاقتصادي باسم العولمة ، ويقبل الربا كما تقبله الرأسمالية ، ويقبل الفن بكل أنواعه ، ويقبل الاختلاط والتخليط بين الجنسين بكل أشكاله ، ويقبل التساهل باسم التيسير ، ويقبل نقل عادات الغرب في الزي والمعيشة والأعياد باسم الإنسانية .
وإذا كان البعض مستمرا في اتهام مفكري المسلمين بالتقصير في مواجهة هؤلاء فإن هذا الاتهام لا يلغي جملة من الحقائق :
منها اختراق الاستشراق لصفوف هؤلاء المفكرين الذين لم ننفض أيدينا منهم بعد
كما أنه لا يصح أن يشرع هذا الاتهام في وجوه المخلصين منهم كلما دخلوا إلى مجال البحث عن المستشرقين ، ليكون اتهامهم غطاء لعورات المستشرقين كلما هم هؤلاء بالكشف عنها .
كذلك فإن هذا التقصير لا يلزم علاجه بإنشاء مؤسسات لدينا كما يدعو إلى ذلك البعض منا : لدراسة الاستشراق والحوار مع المستشرقين ، فالأمر أيسر من ذلك ، ، لأنه يتم حاليا وبطريقة جزئية بتسفيه بعضهم لبعض ، وبضرب تناقضاتهم التي يكفي فيها ما تقوم به بعض الأقسام في بعض الجامعات ، أو ما يقوم به بعض الأفراد الذين يمثل الواحد منهم مؤسسة كاملة مثل الأستاذ محمود شاكر . وما نحتاج إليه في ذلك كله : هو الكف عن النظر إليهم من منظار الدونية الحضارية .
إن المؤسسات التي يجب أن نسارع إلى بنائها بلهفة وجدية وإدراك لأهميتها البالغة : هي مؤسسات الدعوة الإسلامية التي لم توجد بطريقة مرضية بعد ، والتي نطمح إليها على المستوى المحلى والعالمي ، والتي تتقن الاستفادة بعلوم الاتصال والنفس ، والاجتماع ، والتاريخ ، وتمتلك في يدها اللغة والمال ووسائل الإعلام ، وقبل هذا قوة الإيمان والثقة بالذات ، والمستقبل .
وفي رأينا أنه لقد آن الأوان لإنهاء ملف الاستشراق من حيث المراوحة بين المدح و الذم ، و حساب الإيجابيات والسلبيات ، لأنه أشبه بالرقص على إيقاع الخصم ، والذي يجب أن نحدده للنظر في الموضوع هو أن نطرح على أنفسنا سؤالا لبحث جاد :
ماذا نريد نحن من المستشرقين وبالتالي من حاضنته : هل نريد منهم أن يعلمونا ما نجهل – جدلا - من ديننا ؟‍ هل نريد أن يكونوا موضوعيين في دراستهم للإسلام ؟ هل نريد منهم أن يقدموا الإسلام الصحيح لشعوبهم ؟ وذلكم ما يظنه بعض المسلوبين منا ؟
إن علينا أن ننتقل من دائرة هذه الأماني لنطلب منهم أن يغلقوا أبوابهم ويكفوا عنا شرورهم وهيهات ؟ أو أن يردوا إلينا تراثنا المسروق بعد أن بلغنا سن الرشد وهيهات أيضا .

ويكفي الإسلام مجدا وفخارا وعزا وقوة أنه كان وما يزال منذ ظهوره قبل أربعة عشر قرنا إلى اليوم وإلى ما شاء الله ثابتا راسخا متأبيا على التزييف والتغيير ، وهو مع هذا الثبات أو بالأحرى بسببه يزداد استمرارا وحيوية ونفوذا وانتشارا وانتصارا ، هو هو وليس غيره ، بينما ينخدع البعض بانتشار صور مبتدعة لا ينسب الفضل في انتشارها للأصل في شيء . أما فضل الأصل فقد كان في احتفاظه بأصالته وإنه لفضل يعرفه ذووه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.