في مشهد يكشف عن انهيار إداري متصاعد، شهدت محافظة الجيزة، منذ مساء السبت 26 يوليو 2025، موجة واسعة من انقطاعات الكهرباء والمياه، طالت مناطق مركزية تشمل فيصل والهرم والعمرانية واللبيني والمنيب والبدرشين وحتى 6 أكتوبر وحدائق الأهرام. الأزمة لم تكن عابرة، بل استمرت ساعات طويلة، تاركة مئات الآلاف من السكان بلا مياه أو كهرباء في ظل حرارة تجاوزت الأربعين مئوية، في واحدة من أسوأ موجات الصيف التي تضرب البلاد.
المفارقة أن هذه الكارثة وقعت في الجيزة، المحافظة الأشهر في مصر بفضل أهراماتها ومكانتها السياحية، دون أن تتحرك الدولة أو رئيسها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وإذا كانت الجيزة تُترك لهذا المصير، فكيف هو حال المحافظات الحدودية والمهمشة؟ ولماذا لم يتحرك المنقلب السفاح عبد الفتاح السيسي ويقيل محافظ الجيزة كما فعل سريعاً مع قيادات الداخلية بعد حادثة قسم المعصرة؟ أهي ازدواجية في التعامل؟ أم أن السيسي لا يتحرك إلا حين يشعر بأن الخطر يهدده شخصيًا؟
فشل متكرر وأزمات بلا حلول المشهد ليس جديدًا، إذ تتكرر انقطاعات الكهرباء والمياه مع بداية كل صيف، رغم تعهدات الحكومة المتكررة. في مطلع 2025، وعد وزير المالية المصري بعدم العودة لسياسة تخفيف الأحمال، مؤكداً أن مصر "تنتج ما يكفيها" من الكهرباء والغاز. لكن الواقع فضح هشاشة هذه الوعود، فشبكة الكهرباء سجلت أعلى أحمال بتاريخ البلاد، تجاوزت 38,800 ميجاوات، ما تسبب في أعطال كارثية أبرزها انهيار محطة محولات "جزيرة الدهب" وانقطاع المياه عن أحياء كاملة.
ولم يكن الضغط وحده السبب؛ فقد أظهرت الأزمة عمق الفشل الإداري والفني، وغياب أي خطط صيانة حقيقية أو مولدات احتياطية كما ينص القانون. وتحولت تصريحات المسؤولين إلى تبريرات مملة عن "أعمال طارئة"، بينما يعاني السكان من العطش والحرارة والظلام.
مليارات تتبخر.. وأزمات تتكرر ورغم تصريحات السيسي المتكررة عن "أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ مصر"، والحديث عن إنفاق أكثر من 10 تريليونات جنيه منذ 2014، لا تزال البنية التحتية تنهار مع أول موجة حر أو أمطار. تقارير رسمية كشفت أن الإنفاق على قطاعات المياه والكهرباء والصرف الصحي لم يتجاوز الثلث من إجمالي المعلن، في حين يتم توجيه الجزء الأكبر لمشروعات "استعراضية" مثل العاصمة الإدارية والكباري غير الضرورية.
المصريون يتساءلون: إذا كانت هذه حال الجيزة، فماذا عن مطروح وأسوان وسيناء؟ وإذا كانت الانقطاعات "طارئة"، فلماذا تتكرر كل صيف منذ 2015؟ وأين ذهبت عشرات المليارات من القروض التي يُرهن بها مستقبل الأجيال القادمة؟
السيسي يتدخل لحماية نفسه.. لا لحماية الشعب أبرز ما في المشهد ليس الانقطاع في ذاته، بل الصمت الرئاسي المتعمد. لم يصدر أي توجيه من السيسي، ولا تمت محاسبة محافظ الجيزة أو مسؤولي الكهرباء والمياه، على عكس ما جرى بعد حادث قسم المعصرة حين تمت إقالة قيادات أمنية في ساعات. فهل يكيل السيسي بمكيالين؟ أم أن فشل الخدمات لا يستحق الاهتمام طالما لا يُهدد سلطته؟
مراقبون يرون أن ترك الأزمة بلا محاسبة يعكس نمطاً متكرراً من تمييع المسؤولية، خاصة في ظل انتشار ظاهرة تعيين المحافظين من "زملاء المؤسسة العسكرية"، الذين يحظون بحصانة غير مكتوبة من الإقالة أو المحاسبة، على عكس ضباط الداخلية الذين يدفعون الثمن عند أول خطأ يُهدد صورة النظام.
بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ الأزمة في الجيزة ليست مجرد "عطل فني"، بل مرآة لأزمة هيكلية تضرب بنية الدولة ومصداقية النظام في آن. البعض يرى فيها مقدمة لفوضى أوسع ستتفجر مع نفاد القروض وتقلص موارد الدولة، وغياب أي استراتيجية جادة لإدارة الأزمات أو دعم البسطاء الذين يئنّون تحت وطأة الجوع والغلاء وانهيار الخدمات.
منصات التواصل ضجّت بالغضب، والنشطاء ربطوا بين ما حدث وبين ما وصفوه ب"نهاية صلاحية الواجهة الإعلامية لنظام بلا حلول". وفيما تصر الحكومة على الوعود وتجاهل الكارثة، يزداد القلق الشعبي من أن ما حدث في الجيزة قد يكون بداية لانهيار أوسع يهدد باقي المحافظات، خاصة مع استمرار موجات الحر، والضغط المتزايد على البنية التحتية المنهكة.
إلى متى يمكن لهذا النظام أن يخدع الناس بالاستعراضات، بينما تغرق الأحياء في الظلام والعطش؟ وإذا كان السيسي لا يتدخل إلا حين يُهدد أمنه الشخصي، فمن سيحمي ملايين المصريين حين تنهار الدولة فعلاً؟