في السنوات الأخيرة، أصبح المشهد اليومي في الشوارع، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى داخل المؤسسات التعليمية، كلمات خارجة وألفاظ مبتذلة تتردد بلا استحياء، تنمر يصل إلى حد دفع بعض الضحايا للعزلة وربما الانتحار، ومحتويات إلكترونية لا تعكس إلا قدرًا من الانفلات الأخلاقي والسلوكي، ولكن ما يثير الدهشة والاستغراب أن وزارة الداخلية تكاد تكون يوميًا تُلقى القبض على هؤلاء أصحاب المحتوى الهابط والمسف ومع ذلك لا نزال نرى البعض يواصل الفيديوهات المخلة بالآداب سواء كان لفظية أو حركيًا. المجتمع الذي طالما تفاخر بقيمه المحافظة على مبادئه ومبادئه الثابتة وسوف يظل هكذا؛ يجد نفسه أمام سؤال مؤرق: هل تكفي التربية والوازع الديني وحدهما لضبط السلوكيات، أم أننا بحاجة إلى مظلة قانونية تعيد الاعتبار لمفهوم الحياء والذوق العام؟! هذا السؤال ليس جديدًا، ففي بداية الثمانينات، طُرح مشروع قانون أُطلق عليه اسم «قانون حماية القيم من العيب»، أو كما اشتهر لاحقًا ب»قانون العيب»، ليكون سيفًا مسلطًا على كل فعل أو قول يتجاوز حدود الأدب واللياقة العامة، لكن القانون سرعان ما انزوى في الأدراج، ولم يطبق فعليًا، إلى أن اختفى من الذاكرة العامة واليوم، يعود السؤال: أين اختفى قانون العيب؟ وهل نحتاج لإحيائه بروح جديدة؟ عام 1980، وفي ظل مناخ سياسي واجتماعي اتسم آنذاك بانفتاح اقتصادي وثقافي واسع، ظهر القانون رقم 95 لسنة 1980 المعروف ب»قانون حماية القيم من العيب»الهدف المعلن من القانون كان «التصدي لكل من يتعمد نشر أو ارتكاب فعل من شأنه الإضرار بالقيم الأخلاقية أو خادش للحياء العام». كان القانون يضم نصوصًا تتيح معاقبة الأفعال التي تراها لجنة متخصصة «معيبة» أو «مسيئة للقيم المجتمعية»، المؤيدون اعتبروا أن هذه الخطوة تمثل حماية ضرورية لمجتمع شرقي محافظ، يُخشى من تآكل قيمه تحت ضغط موجة انفتاح ثقافي وإعلامي. لكن على الجانب الآخر، واجه القانون معارضة شديدة، إذ رأى كثير من الحقوقيين أن تعريف «العيب» جاء فضفاضًا وغير محدد، مما يفتح الباب أمام تفسيرات متناقضة أو حتى لاستخدامه كأداة سياسية لتقييد الحريات الفكرية والإبداعية. ربما كانت هناك وجاهة وقتها في هذه المعارضة، ولكن الآنومع التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر لاحقًا بوجود الفضاء الإلكترونى وما يحويه من منصات اجتماعية مختلفة، ووسط ثورة الاتصالات الحديثة، شهدت الساحة على منصات مثل «تيك توك» و»فيسبوك»، فيديوهات خادشة للحياء، يقدمها صناع محتوى يسعون وراء الشهرة السريعة وجمع الأموال، حتى لو كان الثمن خدش الذوق العام. أيضًا ظاهرة التنمر الإلكتروني أصبح من أبرز مظاهر الانحراف السلوكي، حيث تُنشر تعليقات مسيئة بحق أشخاص لمجرد اختلاف الشكل أو الرأي بعض هذه الحالات تطورت إلى أزمات نفسية وصلت بالضحايا إلى الانتحار. في الشارع، لم يعد غريبًا أن تسمع ألفاظًا خارجة أو سلوكيات مستفزة دون اكتراث بالآخرين، في المواصلات أو أمام المدارس أو في التجمعات العامة، كل هذا باسم الترند! من شهور قليلة ولا تزال تُلقى الأجهزة الأمنية القبض على عدد من صناع المحتوى على «تيك توك» بتهمة نشر فيديوهات خادشة للحياء، ورغم صدور أحكام بالسجن في بعض القضايا، إلا أن موجة الفيديوهات المماثلة لم تتوقف. وفي أكثر من حالة موثقة، أقدم مراهقون على الانتحار بعد تعرضهم لتنمر إلكتروني حاد، من دون وجود نص قانوني يجرّم صراحة»الإهانة على أساس الشكل أو الظروف الاجتماعية». تعديل تشريعي اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود على ميلاد قانون العيب، يبقى السؤال مفتوحًا: هل آن الأوان لتعديل تشريعي يتناسب مع تحديات العصر الرقمي والمجتمع الحديث؟ عصام كمال المحامي بالنقض يقول: «المشكلة الأساسية أن مصطلح العيب فضفاض. ما قد يراه شخص عيبًا قد يراه آخر حرية شخصية لذلك، إذا فكرنا في إعادة إحياء القانون، فلا بد من صياغته بلغة دقيقة، تحدد على سبيل الحصر الأفعال التي تُعتبر خروجًا على الحياء العام بهذا الشكل يمكن أن يصبح القانون أداة لحماية المجتمع من هذا الانفلات الرقمى». بمعنى– والكلام على لسان عصام كمال المحامى - أي نص قانوني لازم يكون واضح ودقيق،إذا مطلوب من المشرع تعريف محكم لمنصات التواصل الاجتماعى وما نراه عليها من نشر الشائعات والأخبار الكاذبة والسب والقذف والإهانة والتحريض على العنف والابتزاز الإلكتروني والتنمر والنصب وغيرها من الجرائم الرقمية، صحيح لدينا قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 لكن أمام ما نراه من إسفاف على هذه المنصات مطلوب تشديد العقوبة والغرامة». دكتور محمد البغدادي أستاذ علم الاجتماع قال: «المجتمعات لا تنهار فجأة، بل من خلال تراكمات صغيرة من السلوكيات السلبية غير المضبوطة، عندما يتساهل الناس مع الشتائم والألفاظ الخارجة، أو يعتبرون التنمر مجرد مزاح، فإن هذه الممارسات تتحول تدريجيًا إلى سلوك مقبول، القانون هنا يلعب دورًا مهمًا في إرسال رسالة واضحة: هناك حدود لا يجوز تجاوزها اللي بنشوفه النهاردة من انفلات في الشارع أو على السوشيال ميديا هو نتيجة سنوات من التساهل، لما الناس تسكت على الشتيمة أو التنمر أو السلوكيات المستفزة، بمرور الوقت بيتحول لسلوك مقبول». القانون هنا مش مجرد نص، لكنه وسيلة لوضع حدود واضحة مثل قانون التحرش غيّر سلوك القلة المنحرفة فى الشارع بنسبة كبيرة لأنه وضع عقوبة واضحة وصريحة، ممكن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات يعمل نفس الدور، إحنا محتاجين رسالة للمجتمع تقول: في قيم وحدود مش مسموح تتعداها، حتى لو فيه حرية شخصية». التسامح المفرط دكتورة جيهان جمال الدين أستشاري العلاقات الاسرية تعلق قائلة: «التسامح المفرط مع الأفعال المنحرفة يخلق بيئة خصبة لتطبيع السلوكيات السلبية، الفرد عندما يدرك أن لا عواقب لتجاوزه سيتمادى أكثر، وجود رادع قانوني لا يعني وحده حل الأزمة، لكنه جزء من عملية إصلاح أشمل تشمل التربية، والتعليم، يضع الإطار، أما التغيير الحقيقي فيبدأ من الأسرة والمدرسة». على سبيل المثال من الحكايات التي أستقبلتها فى العيادة كانت لفتاة قالت لي: «أنا بتعرض يوميًا لتعليقات مسيئة على السوشيال ميديا لمجرد إني بكتب رأيي، ساعات بتوصل لشتايم وإهانات شخصية، الموضوع بقى مرهق نفسيًا، أنا مع وجود قانون يجرّم الإساءة والتنمر، لأن الحرية شيء، وقلة الأدب شيء تاني». وفى الشارع أيضا فى الفترة الأخيرة مقاطع مصورة لشباب يتعمدون مضايقة المارة أو القيام بسلوكيات صاخبة فقط للضحك والتصوير، في ظل غياب إطار قانوني واضح يجرّم هذه الأفعال. دكتور جمال فرويز استشارى الطب النفسي يقول: «تجاهل الأفعال المعيبة يخلق مشكلة مزدوجة: الفرد اللي بيخطئ يظل يكرر خطأه لأنه ما اتعاقبش، والضحايا يفقدوا الثقة في المجتمع، التنمر الإلكتروني مثلًا مش مجرد كلمات، لكنه يعمل أذى نفسي عميق، ويسبب قلق واكتئاب وانعزال اجتماعي، في حالات وثقتها دراسات حديثة، بعض المراهقين أقدموا على الانتحار بعد ما تعرضوا لإساءات متكررة على الإنترنت». وجود قانون واضح يجرّم هذه الممارسات مش بس هيحمي الضحايا، لكنه كمان هيمنع انتشار الظاهرة، العقوبة هنا تكون رسالة للجميع: في حدود مش مسموح تتعداها. وبجانب العقوبة، لازم يكون فيه توعية وتربية، لكن الردع القانوني يفضل هو الأداة الأسرع والأكثر فعالية». وفى النهاية البعض يرى أن القيم لا تُحيا بالقوانين، وإنما بالتربية والقدوة لكن آخرون يجزمون أن الردع القانوني ضرورة لا غنى عنها في ظل الانهيار الاخلاقي ربما تكون الإجابة في المزج بين الاثنين: قانون محدد وواضح يحمي الذوق العام، إلى جانب برامج توعية حقيقية تعزز التربية الأخلاقية، فالمجتمع لا يقوم بالقوانين وحدها ولا بالأخلاق وحدها، بل بالاثنين معًا، وما بين حرية الرأي والانفلات الأخلاقي شعرة، تحتاج إلى ميزان عادل يضع الحدود ويضمن بقاء القيم. اقرأ أيضا: التنمر الإلكتروني.. القاتل الصامت في العصر الحديث