«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أسود دانتيل"
نشر في شموس يوم 19 - 02 - 2015

*قبل كل شيء.. أسوء ماقد يقع الإنسان به دوامة الحنين.. والأسوأ ان يكون الحنين لشيء مشكوك في حدوثه، تلك الرواية مكيدة كبيرة.. تأخذك في رحلة بين الماضي والحاضر ومطاردة عنيفة بينهما وبين المستقبل.. انصح بها بشدة!"
قرأت خمسين صفحة ثم عدت لأول صفحة ثانيةً لإعادة القراءة.. يدهشني ان الكاتبة تجعلني اسمع ترانيم كونية تعزف حولي كلما قلبت صفحة وبدأت في أخرى! تجعلني تلك الترانيم المسموعة أرغب في قراءة قائمة التسوق الخاصة بالكاتبة.
حرية سليمان امرأة متناغمة، تعرف كيف تكتب بقلم من غيم الشتاء، ينسج خيوطا حريرية قرمزية لا يري سحرها إلا من يدرك معني الفن.. ومعني السحر.
في البدء، فتحت الصفحة الأولى بعد العنوان؛ "أنت نصف يغرق
أنا نصف يحترق
لماذا لا ننقذنا معا؟!"
ان من يستطيع ان يجمل ثلاثمائة صفحة في ثلاث جمل، بحق يستحق انحناءة إحترام!
تلك الرواية مكيدة بحق.. مكيدة ذاكرة امرأة تشك في أمر نفسها، لا تجد نفسها في أحد ولا بشيء، تحيرك كما لو أنك سقطت في دوامة من الذكريات المتتالية، وكأنها دخلت في رأسي.. لا أعرف كيف أصف ما بعقلي من رؤي متداخلة، واحلام متنافرة.. وازدواجية أفكاري، مكيدة..
ربما يصف البعض الرواية بأنها "تتوه" و تصيب بالصداع من كثرة التفكير.. الحق أقول لكم، ان لا مغزي من رواية لا تجعلك تعايشها، تجعلك تتألم بألم شخصياتها الحبرية.. لا غاية من رواية تخرجك منها وأنت مازلت أنت.. إن الحيرة التي تتضمنها كلمات ذلك النص الفني، هي كل ما فيه من أهمية.
الإنتقال بصعوبة وبسرعة من الحاضر الي الماضي.. يفعل الذهن ويجعلك تنخرط كليا في ثنايا النص، والعويل الصامت الساكت بداخل جورية، والذي تصرخ به الكلمات، يبني جسرا بينك وبين قلبها ومشاعرها، تظن للحظات ان الكاتبة كانت تتربص بك، ترصد افكارك وحركاتك.. وتحركاتك، تقتحم رأسك وتدون مايحدث بالداخل بكل سلاسة.
"بماذا يمكن أن أصف عالما تشاركناه بسيجارة، وبعض الكلمات لجبران، وكثير عبث؟"
سيجارة.. بعض الكلمات لجبران، وكثير عبث. أحياناً يعجبنا عمق العلاقة، تشارك الطرفين ذلك الصمت الذي يتيح لكل منهم الاستماع لأفكار الآخر، بسيجارة يتلاقفاها بين شفتيهما، واقتباسات عميقة لا يد لهم فيها، وكثير عبث من عبث الهوي. حقيقةً، عندما يجلسا يبتسما لبعضيهما، صامتين.. لا يكونوا دائماً منصتين لعقل بعضهما، هي قد تكون منصتة لصوت كسرتها وروحها الثكلي، وهو يتذكر ليلة أمس، عندما كان يشاهد مباراة كرة قدم هامة، وتتشابه المشاعر بابتسامة، حتي انك تظن الكل مبرمجين علي شعور واحد.
"بظني كان يمنحها الموت، بروعة التحليق."
تعودت ان أجمع مقتطفات تعجبني من الروايات التي اقرأها، تلك الرواية مع أول عشر صفحات كتبت اكثر من عشرة مقتطفات، شدة الهدوء والكلمات المخملية تجعلني اريد ان اكتب الرواية كاملة في كراس مقتطفاتي. تمنحني الكلمات بروعة التحليق..
"تنكرت لانوثتي بثوب طفولي لا يناسب تطوري فلا يعتريني الخجل كلما ارسلت نظرتي للمرآة ليفاجأني جسد جدبد لامرأة أكاد أعرفها.."
الهرب من الذات الجديدة، كثيراً ما حدث ذلك، أحيانا ما زال يحدث.. كل شيء يتطور، يتغير، ليس فقط الجسد.. كذلك الروح، تذبل حينا وتنضر حينا، وجورية روحها مستحيلة، لا تذبل، لا تنفض أوراقها خريفا، ولا تنضي عنها ثياب الطفلة الخجولة، التي مازالت تخجل من إطالة النظر لجسد المرأة التي نضرت ونهضت سريعاً. مقتطف آخر يخطفني الي أبعاد جديدة، فقط حرية سليمان تعرف طريقها..
"وجود الآخر يعني بالضرورة افتقادك لمساحة أكبر من الصمت."
أجد في كل سطر قصة عشتها.. لا أعرف كيف تتوافق حياتي هكذا بحياة جورية.. تنسج الكاتبة الروح بنسيج الجسد، تصنع كياناً حبريا نتج من اصطدام الروح بالجسد ثم اصطدام الخليط بخليط مماثل آخر لتنتج تلك المرأة المتشعبة، الغلاف بدا لي مناسباً الآن فقط بعد ان واصلت القراءة، جورية روحها متعددة الشخصيات، متعددة الآراء، متعددة الاوجه، تم غزلها بخيط من خيوط الجنيات البرونزية اللامعة.. تبرق حينا وتخفت حينا، تطغو عليها ذات غير بشرية لا تنتمي لأحد. هي مثلي، تحاول جاهدة ان تهرب من الاسئلة، من الإجابات، من الحكايا الفارغة، من البشر.. متفردة دائماً، لا تجد نفسها في أحد.. لا تنتمي لأحد.
"..ومن دون وعي تجد انك استحلت لنوع نادر من جذوع الأشجار، تحديداً النوع البني الموغل في السمرة، هذا الذي يركنون إليه، يبولون، يصوبون إليه خيبة تلو أخري وفي صمت يرحلون."
أدركت الآن ماذا أسمي حالتي تلك.. "حياة جذع شجرة نادر، موغل السمرة، يصوبون إليه الخيبات ويرحلون في صمت.."، تماماً أنا، جورية تشبهني كثيراً، خلتني أراها موارية نصف وجهها خلف المشربية المواجهة لشرفة حجرتي، ترمقني باسمة الثغر، وتذرف دموعا.. ثم تختفي في ظلام يحاوطها.. كالظلمة التي تحاوطني، بالضبط.
اكره هؤلاء البشر، يدخلون خلسة حياتك، لا تدركهم في البداية، يجهدون انفسهم، حتي تعتاد عليهم اناملك..
يصوبون اللكمات ويقسمون أنها قبلات.. يرمونك بالخيبات، وتهترئ أفواههم قسما انها كانت لصالحي، وأنني يوماً ما، سأقدر مافعلوه.. انتظرت طويلاً هذا اليوم وما أتى، حتي أن طفولتي ذابت انتظارا، وغدوت هذه الروح الهائمة.. لا تنتمي لشيء، لا تثق بشيء، تري كل الناس أشباه للجسيمات ما تحت الذرية، تري الكل متقلب.. تراهم جميعاً صاخبون، لا يليقون بها، الروح الهائمة.
جورية تذكرني بقصيدة للرائع "والت ويتمان"، هي قصيدتي المفضلة،
"I Sing The Body Electric" كان يقول:
وهل هؤلاء الذين يدنسون الأحياء مدنسون كالذين يدنسون الأموات؟
واذا لم يكن الجسد فعالاً كالروح..
واذا لم يكن الجسد هو الروح.. فما تكون الروح؟!
- فما تكن جورية؟ ما أنا؟
"ليس كحلزون عاش طويلاً ممتلئاً بكل الأصوات، ممتلئاً بكل شيء واي شيء، متخماً بما لا يدفعه علي المسير، بشكل أخف؛ لو ان الحلازين اختارت ألا تزعج نفسها بالانصات، ربما لو جاءها صوت الباب وقررت ألا تفتح لنعمت كثيراً بالصباحات المفرغة من الإجابات والأسئلة."
ضحكت لأنني أدركت شيئاً آخر هنا، إني اعيش حلزونا ينتظر شيئاً ما لا يعرفه، يتطلع لشيء ما لا يصل له، يستصرخ الناس ان يصمتون، بصمت. يمتلئ ويمتليء ثم يكتفي ويفرغ، ويعود لكي يمتليء ثانية، بكل ما لا ينفع الحاضر، ويؤلم بالمستقبل، ربما على فقط ألا ازعج نفسي بالانصات، ربما علي ألا افتح الباب.. ولو جاءني صوته قرعا متواصلا، علي ان اضع عائقاً بيني وبين الأحاديث المتهرئة، المملة.. الروتينية الخانقة. فقط، لا تفتح الباب.
"ألم يكن غريبا أن يأتي بليلة عيد فيصبح هو العيد؟"
أشعر بما تشعر به جورية.. غريب أن يدركك القدر هكذا، بل ويخطو خلفك لكي يداوي ما سقط منك من أشلاء، جميل ان يغدو القدر المرعب، القاسي، المؤلم، سوسنة برية تطعمك شذي.. تسقيك رحيقها، تغسلك بعصير رمان مقدس لا يحتال علي جسدك بعد ثوان بكيانه اللزج، تسند جسدك باقراص الزبيب، وتسهر عليك ليلا عندما تمرض حبا.. كان هو تلك السوسنة الزرقاء.
"قال مرة أنه كائن يحاول ألا يموت، لذا فهو يقرأ كثيراً، يعمل كثيراً، يرتشف الشاي بصوت عالي، يعزف الهارمونيكا، يصطاد اليمام، ويحبني"
من قد يملك تلك القدرة علي عزف الكلمات؟ من يملك القدرة علي كتابة رواية قد اضعها علي البيانو الخاص بي وينثرها البيانو وحده في الحان مطلقة بحرية؟ من غير حرية سليمان؟
تدور بي الدنيا كلما تخطو عيناي علي سطرا أراه يتألق كالنجوم في الأفق، يتوهج كالتنهيدات الحارة المبعثرة بين شفاه تتأجج لهيبا.. كأنها كانت تحيا في الكلمات، تسطر المشاعر كما هي دون ترجمتها للغة تنطق.. نحن لا ننطق بالمشاعر، حرية سليمان تفعل.
"لكننا مثلا بلحظة حمق يمكن أن نتفادي بئرا او حتى بالوعة لتصدمنا سيارة."
أن كل ما هو مقدر لنا، عندما نتفادي حفرته الأولي نحسب أنفسنا بمعجزين، يدبر لنا حفرة أخري، لا مفر من القدر، كما هو الحال مع الحنين، كما هو الحال مع الحب.. والوجع، والذكري، والإجابات الصعبة رغم سهولتها وسابق معرفتها. كما هو الحال مع كل ماهو يهرول ملازما لتلك الحياة. الحياة شراكة مؤلمة مع الماضي والحاضر والمستقبل، مكيدة لكل من رأي كل شيء.. لكل من ينظر للحياة كما لو كان جورية.
وصلت للصفحة مائة، أيمكن لكريم أن يصبح رقعة أخرى في حياة جورية؟
جورية ناعمة، رقيقة، كثوب مخملي مزركش بزهور وردية وفيروزية.. روحها اقحوانية، تعشق التحليق، تهيم كالتائهة، تحاول جاهدة أن تجد وجهتها، ولكن لا شيء ينفع.. أحب جورية لأنها لا تنتمي لأحد، لا تنتمي لشيء. مادة خام نادرة.
الذاكرة لعنة الله على الإنسان بحق، ربما تكون مثلها كمثل كل ماهو سيء بتلك الحياة، امتحان.. علينا فقط اجتيازه.
"ليه الكروان بينوح؟!"
أثارت ذهني لذلك السؤال، لما؟ ينتحب.. لما لا يغرد كبقية الطيور؟
الكروان إنذار بيولوجي يظهر قبل ثورات البراكين، والهزات الأرضية، والمصائب القادمة.. وقد يأتي الكروان بعدة أشكال، كتغريد ومجدي مثلا..
"أردت أن اهزها بقسوة، أن أصرخ بها: افيقي امي، او أسالي.. لأنني بمنتهي الوجع لن أجيبك.. لن أجيب."
أحياناً ما يكون الصمت الذي يفوح بعطن الطنء والاتهام، قاتل، أكثر من توجيه الإتهام نطقا.. أشعر بالضبط هنا كيف تشعر جورية، تشعر انها متهمة، نظرات امها تشي باتهام وخزي هائل.. ولكنها لا تنطق.
ليتها تنطق، فتريحها بسؤال تنفيه هي باستنكار البريء.. لن تجيب! ولكنها تريد ان تسئل..
"أمك ماتت يا مجدي"
اقشعر بدني عندما سقط بصري علي تلك الجملة.. داهمتني مشاعر متفرقة، تنبؤات لمشاعر سأشعرها إذا واجهني ما واجهته جورية.. خفت كثيراً، التصقت بأمي وقبلت رأسها، وأكملت القراءة فيما هي ترمقني باستغراب.
بعد بضع صفحات بدأت أشعر بالألفة مع الرواية.. لم أشعر بالتوهان الذي شعر به بعض القراء.. بالعكس، خلتني عشت هذا النص، ككومبارس صامت في زاوية حياة جورية لا تلتقطه الكاميرا..
الهدوء يميز النص كثيراً ويمنحه ملمسا ناعماً ملتهب.. احبت وصفها لكلمات ياسين بأنها بنكهة الكانتالوب لأنني بحق لم استطع تذوق كلماته سوي بطعم الكانتالوب.
مبدعة وساحرة في اختيار ألفاظها وتشبيهاتها.. مخملية دائماً في كل شيء، حتي في وصفها لنوبات غضب وثورة.. كل شيء مخملي هادئ. أحب هذا الطقس في الرواية. لا شيء يشبه "أسود دانتيل".
"كانت باقتي أكبر، وباقته أجمل."
نعم.. كانت هباتها أكبر بكثير، ولكنها لم تضاهي هباته القليلة جمالاً.. لم يمنحها الكثير، ولكن قليله كان كثيراً عليها.. لطالما كان حبه منحة سماوية لها.. مؤقتة، ستتركه يوماً وتعود لتهيم ثانية علي غيم الشتاء الحزين الذي لا ينفك عن البكاء، لا يكف عن النواح، تهطل دموعه كوبال من الطلقات النارية اللذيذة، تسعد بها وتخرج الطفل الصغير بداخلك أسفلها.. ثم تصيبك بالبرد والزكام صباح اليوم التالي وتلازمك حتي تسأم منك وتتركك هامدا أو تختبيء بإحدى أركان جسدك صامتة، لتلهبها بعد دهر قطرات باردة تلمس جسدك.. قطرات تشبه تلك التي تتساقط تابعة أنين الذاكرة. دموع الذاكرة مكيدة، دموع تماسيح تلتهم بشراهة.
الذاكرة ككرة الثلج، تتدحرج بمرور الوقت، فتزداد حجماً وغلظة.. كلما إزداد نسيانك، يطارده الألم ويزداد بدوره. لا يذيب الذاكرة إلا التبلد الناتج عن المواجهة.
في كل سطر قصة منطوية توقظها شرارة كلمات.
"إبنها.."
قتلتني العبارة عندما نطقت بها جورية لأبيها.. اقشعر جسدي وارتجفت عظامي، كيف عساه يفعل ذلك!.. لما فعلت هي ذلك بنفسها، ممن كانت تنتقم؟ لمن كانت تنتقم؟!
"أمسكت بقلمي لأكتب عن مسافاتنا المقبضة، تلك التي لا تتسع لأكثر من خطوة، ربما لو اتخذتها لانفجر لغم بك، أو لعلقت بشرك."...!
اومأت برأسي أن "نعم.." وضعت ثلاثة نقاط انقطاع، علامة تعجب، وعلامة إعجاب.. وأكملت.
"تتوالى الترددات وكأنها تمهد لبركان، تبدأ برعدة تكاد لا تحس وتنتهي بتنهيدة ضجر طويلة. أقفز علي إثرها من الفراش الي المرآة. اتجاوز كل ما بينهما، انزع دبابيس الشعر، أتركه بشكل عبثي، أضع كثيراً من الكحل وطلاء الشفاه.. أتعطر.. أدير مؤشر الراديو.. أشاركني مرحا مرهقا لا يناسب حالتي."
أين تعلمت العزف بالكلمات؟ أي آلة موسيقية تستعمل لتنثر كل تلك النوتات المحلقة في فضاء النشوة، بحرية..
إيقاع موسيقي يصاحب الحروف وهي تخرج، وكأن حرية سليمان جاورت كل كلمة في أمسية قمراء، بكت معها، مشطا شعر بعضهما.. اعترفت لها بما يكمن بين ثنايا حروفها، ثم تركتها ليلا لتنتقل لكلمة أخرى وتفعل نفس الشيء.
"نبش بين الصخور، وها هو رأسي يتوسد صدره، تتهادي خطواتنا، مستسلمين لجاذبية فك الرموز واستدعاء الصور المتوارية خلف الجدار، كنوع مبتكر من تنشيط الذاكرة."
كنوع من تنشيط الذاكرة.. تقوم جورية بطقس تجريبي لرقصة حب علي الحان الماريمبا.. تتهادي علي جدول رقراق من ذلك الرمان المقدس.. تعالج أياما بيوم، جروح بجرح جديد.
أحببت قدسية الموقف، وكيف انها وضعت كم كبير من اللون الأصفر حول هالة لقائهما.
"كيف لمجنونة أن تترك لهارب هدم نصف عمرها لتظل النصف الآخر تبكيه؟.."
نصيحة حب غير مباشرة، ترسلها حرية سليمان بنغمة ترددها مكابر.. مثيرة للذهن، استوقفتني عندها لافكر، حتي داعبت خواطري ذكري قديمة لصديقة كانت تبكي لي ليلا ونهاراً لأن من ظنته حبيبها هجرها، ولم يكتفي بذلك، بل أهانها ووجه لها إتهامات رديئة ساذجة.. مازالت تفتعل الابتسامات، مازالت تضحك وتجلجل بالصوت علي اتفه الأشياء، فقط لتقنعني انها لم تعد تبكيه.. وأنني متأكد تماما أنها تترك ابتساماتها لتنام علي رصيف الشارع وتدخل غرفتها لتسهر سكيرة ألم، تسقي نفسها دموع نفسها، تنام وبقعة من الاملاح ترتخي اسفل جفنيها.. فقط لأنه تركها وهي لا تعرف لماذا، بل هي تعرف.. تعرف أنه مجرد شخصية كارتونية رمادية، توضع في مشهد لجمهور كبير.. يتخللهم أشباه له، خيالات رمادية تتوسط الجمع فقط لتجعله يبدو ضخما.
اتشبث بالصفحات حتي لا تنتهي، اقرأ الصفحة أكثر من مرة لاقاوم التيار، للأسف قاربت علي الإنتهاء.. ومازال الشعور الذي منحتني إياه يتجدد دوريا.. سحر قرمزي كغبار جنيات لامع.
اخرت كلامي عن "مريم" وعن ما فعلت.. شعرت بنسيم يهب وقتما صدح إسمها بوسط الصفحة، "مريم! إنت مريم!"، حتى أن ابتسامة باغتتني واحتلت ملامحي لفترة حتي سرقت ورحلت. امتعضت لوهلة ثم عدت لكي ابتسم ثانية، لم أكن قادرا علي ألا أبتسم.. رقة مشاعر جورية تقهرني بملمسها المخملي..
"ما الذي وهبتني أحلامي غير الإفراط في مشاعري وغير التمسك بها أكثر."
أعاني من شعورا غريبا ينتابني كلما اسمعها تنطق في أذني بتزامن مع قراءتي للنص.. تصلني مشاعرها بنوع ما من التواصل الروحي عبر الكلمات.. لعلني أعاني من ذات المشاعر، الشعور بالجوع لليابسة.. دوران التحليق الذي يتركني منتشي كالسكاري. وكأن الكاتبة كانت تحاور جورية.. بل أن للحظات أظنها كانت تسمح لروح جورية ان تستعير جسدها.
بقارب ذهبي تبحر حرية سليمان في فضاء واسع من الكلمات المتألقة، تلتقط ما يناسب نعومتها، وتبعثره كما يحلو لاحساسها علي الورق.. لها ذوق في اختيار الكلمات، وترتبها كما ترتب النوتات الموسيقية، أقسم أنني افقد السيطرة أحياناً واقرأ الصفحة أكثر من مرة.. فقط لكي استعيد ذلك الشعور بالخروج من نطاق الزمان والمكان.. تطعمني الكلمات بطعم التحليق.
ربما جورية قد فقدت السيطرة أيضاً، فقدت السيطرة وبدأت تتأجج من لفحات خالد.. كيف لروح شفافة كجورية ان تصبح أخري؟ كيف للضوء ان يلوذ بالظلمة؟ كيف تظلم الشمس؟! استعيد أمنياتها بأن لو تذوب وسط نساء فلسطين.. ثم أعود لاراها تريد ان تنبذ كل شيء وتتمدد عارية في وسط الكون، فتأتي مباغتة من خلفي أمنية حريرية لها ترغب في أن تذوب في وجه امرأة أخرى.. فاتاكد من تقيمي لجورية بأنها روح شفافة تهيم فوق كل شيء.. متشعبة.. لا تنتمي لأحد، لا تنتمي لشيء. مازالت لم تدرك بعد ما تريد بالضبط..
"لا ادري لماذا لا احتل مشاهدي معك؟ لماذا أكون بحاجة لاستعادة وجوه أخريات لامارس الجنون؟"
تستمر في إثباتها أنها لا تنتمي لأحد.. تشعر بالتيه المستمر، لم تتعثر في ذاتها المفقودة، تبحث عنها كقرط شديد الضآلة، اختفي في كومة قش، فذهبت هي تبحث عنه بكومة قش أخرى، في زمن آخر، بمكان مختلف، بوجه مختلف، بجسد امرأة أخري..
"المرة دي هاختم الرواية.. أوعدك."
وأخيراً يا جورية، أخيراً بعد طول تحليق، أخيراً بعد اشباح الطريق، أخيراً بعد مكائد الذاكرة، وفخاخ الماضي، أخيراً بعد رحلة طويلة باحثة عن ذاتك.. هي هناك، تبحث معك، تسخر منك.. تضحك وتترك لكي البكاء مستساغ.. تركض بين سوسنات زرقاء، وانت تهوين بالJeep، ترمقين اشباح الماضي تراقبك فيما يلتهمون عقلك كمقبلات السنيما، أخيراً.. فرت، بحرية.
"شيء يشبه مسافة بين ضجرين، وربما صوت يين صمتين؛ شيء أكثر من مجرد حروف افتضت بكارة الأوراق ليعبر فوقها المارون، شيء أبلغ من جملة شعر تترك نزفا بالروح.. صوته يتردد بخفوت..: مستنيكي ف زايد..!..."
سقطت القشرة؛ انكشف لب خالد.. خائر القوي، يستصرخها البقاء متلحفا بغروره المتداعي.. وهي ترحل مكابرة. انتظرت تلك الجملة طويلاً بعد ان قرأتها علي صفحة الرواية علي الFacebook، أعجبتني وسرقني سحرها.. التهمت السطور بحثاً عنها، حتي وجدتها في صفحة تسبق صفحة النهاية بخمس صفحات، التهمني شعور بالجوع للمزيد.. فتوقفت عن القراءة لنصف ساعة واستكملت لعلني اؤخر من النهاية..
لما انتهت؟ لا تدعوها تنتهي! لا تدعوها تهرب هكذا.. أريد المزيد! أريد المزيد!
"لهذا الرجل العالق أبداً كشوكة بالجرح. خالص محبتي.
جوري عبدالحكيم"
لتلك المرأة التي بعثرت مشاعري.. لتلك المرأة التي تسكن امرأة اخري تعيش بين دفتي كتاب.. لتلك المرأة التي تعزف بالكلمات.. لتلك المرأة الرقيقة كبيلسانة.. مدهشة ككرزة.. مجهدة كسفر.. حنينها قاتل كالموت.. حروفها متألقة كغبار الجنيات..خالص محبتي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.