اهل أنت متأكد أنها كومالا؟ - متأكد ياسيدي. ولماذا تبدو كئيبة؟- أنها الأزمنة ياسيدي. كومالا قرية صغيرة بالمكسيك ، قرية متخيلة أو حقيقية لايهم ذلك في شيء عند خوان رولفو فيلسوف الحكي ، ورائد الواقعية السحرية بلاشك بأمريكا اللاتينية، ولكن فيما وراء المكان وفيما وراء شخوص روايته الفريدةس بيدرو باراموس هو مايهمه بكل تأكيد، بيدرو بارامو رواية صدرت بالمكسيك في عام 1955 أي عقب صدور ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة عندنا،ولكن شتان مابين الثلاثية وبين رواية بيدرو بارامو، ولامجال الآن للمقارنة او ماشابه ولكن لأول مرة تصدر الرواية في ترجمة مصرية عن هيئة قصور الثقافة المصرية من خلال ترجمة د/شرين عصمت ، والحقيقة ان الترجمة أضعف بكثير من ترجمة صالح علماني لنفس الرواية والتي صدرت من سوريا قبل أعوام ، وخوان رولفو الكاتب الذي لم يكتب سوي روايتين ومجموعة قصصية وكف بعدها نهائيا عن الكتابة لحين وفاته 1986 رغم الإلحاح المتكرر من الجميع بمواصلة الكتابة ، يعد من الكتاب القلائل الأكثر تأثيرا في كل كتاب القرن العشرين لما تميز به من تفرد ومن تقديم مشروع روائي مميز بفلسفته ولغته الخاصة وبطريقة سردية لم تعهدها الرواية العالمية قبله ، وهو يصف الكتابة نفسها قائلا زإنها تسبب لي الرعب الدائم، مجرد تخيل الورق الأبيض هو قضية مرعبة ويفسر الكتابة بقوله من الأفضل أن نترك فضاءً أبيض علي أن نقول: مرت عشرُ سنوات، لأنه لا يحدُثُ شيءٌ هامّ لكل واحد كلَّ يوم. يمكن ألا يحدث للمرء أي شيء طيلة ثلاثين سنة، وكل ما يتوجب حدوثه يحدث في ثلاثة أشهر. لهذا السبب تركتُ كثيراً من الفضاءات البيضاء. قمت بنزع الأجزاء التي لا يحدُثُ فيها أي شيءس وتحديدا عن روايته بيدرو بارامو يوضح أنس الأمواتُ في الرواية لهم هذا التفوق علي الأحياء: هُم لا يتحدثون إلا عن ما هو أساسيّ ومن يقرأ رسائلة لزوجته كلارا - وتحديدا عندما هاجمه النقاد وقت صدور روايته- يكتشف كم الحزن وكم الرغبة في الخلاص من الحياة عبر الحب ، فنجده يكتب لزوجتهس إننا نعيش في عالم تملأه البقرات الهزيلة، حيث نري أن الفقراء يزدادون فقراً، والأغنياء تنتقص وتبتزّ ثرواتهم، إلا أننا لم نختر هذا الزمن الذي نعيشه، بل لقد فرض علينا فرضاً، لقد ولدنا بأعجوبة، وترعرعنا بأعجوبة، وهذه الحياة التي ما زالت توهب لنا هي شيء شبيه بالمعجزة، ولهذا فأنا لا أشكّ، خاصة الآن، أننا نحن الاثنيان معا، سنصبح قوّتين لنتحمّل قوة الحبّ والسعادة، أو ثقل الحزن والألم أو أي شيء آخر قادمس. من هذا نتطرق لروايته البديعةس بيدرو باراموس حيث رحلة الهذيان لبطلها في عالم الموت والحياة ، طلب بسيط من أم متوفاة لابنها أشبه بالوصية حيث ضرورة الذهاب لقريةسكومالا» لرؤية الأب « المتوفي-وتحدد الأم لها ماينبغي له طلبه من الأب قائلةسلاتذهب لتطلب منه شيئا،طالبه بحقنا فقط، ماكان ملزما بإعطائه لنا ولم يعطني إياه أبدا..النسيان الذي تركنا فيه، يابني فلتتقاض ثمنه منه غاليا ذلك هو البدء وهو النهاية معا، وبمكر شديد يضعنا خوان رولفو أمام صفحات روايته منذ البداية ، وصية من متوفاة باتجاه زوج متوفي عبر وسيط يبحث عن ذاته وسط الموت، إذن فنحن في رواية الأموات، أموات يعرفون بالتحديد ماذا يريدون؟ وماذا يتذكرون ؟ولايتوقفون أمام كل ما هو ليس بمهم، أموات يخترعون الحياة بموتهم، والموت برواية بيدرو بارامو فلسفة خاصة، له سحر وله عنف، موت يتشابه كخوف خوان رولفو من الورق الأبيض أمامه عندما يبدأ الكتابه، الأفكار تتقاذف بذهن خوان رولفو ويود هو إماتتها من خلال أحيائها بمكان أخر غير رأسه ،أي بإحيائها علي الورق، إذن خوان رولفو ببيدرو بارامو يضعنا أمام موت أخر غير ماهو متعارف عليه، موت من أجل البقاء علي قيد الحياة، لذا ليس غريبا أننا نجد أكثر مفردة ترددت بالرواية كانت كلمة الموت تليها كلمة الحلم، فخوان رولفو ببساطة يخلط مابين الموت والحلم وأحيانا يضعنا في حيرة هل يقصد حقيقة الموت أم الحل، بل يزيدنا حيرة عندما يربط المفردتين بالنوم كمفردة ثالثة فنجد سوزانا تقول للأب ريننتريا لحظة موتها اذهب أيها الأب،لاتعذب نفسك لأجلي،أنا هادئه ونعسانه جدا والحقيقة أن خوان رولفو براويته استطاع أن يقلب كل معتقداتنا عما نثق به، فمثلا الكل يعتقد في قيمة الروح وأنها هي التي تسيطر وتهيمن علي الجسد، وأن الروح بها شيء سماوي، ولكن خوان رولفو يرد الأمور لنصابها وينصف الجسد متسقا مع ماطرحه بطول الرواية عبر شخوصه وخصوصاسدورويتاس فتقول فمنذ سنوات لم أرفع وجهي، لقد نسيت السماء ولو أنني فعلت هذا فماذا أكسب؟فالسماء مرتفعة جدا ونظري ضعيفس ويتمادي خوان رولفو عبر زدورويتا ليضعنا في تحايل الروح علي الجسد من أجل جرجرة الحياة في علاقة مختصرة وحادة ، علاقة لم يطرحها علي الإطلاق كاتب قبل خوان رولفو ونعتقد لن يطرحها أحد من بعده، فالروح قد نعاملها بشكل سييء إلا أنها أيضا تفرض علينا طقوسها المستفزة والقميئة أحيانا وروحك؟أين تظنين أنها ذهبت؟ - لابد أنها تهيم علي الأرض مثل أرواح كثيرة اخري،تبحث عن أحياء ليصلوا من أجلها ربما إنها تكرهني للمعاملة السيئة التي عاملتها بها، ولكن هذا لايقلقني لقد استرحت من عادتها الذميمة بالتأنيب.فقد كانت تملأ بالمرارة حتي القليل مما كنت آكله،وتجعل ليالي لا تطاق وهي تملؤها بأفكار مقلقة عن صور لمحكومين بالعذاب الأبدي وأشياء من هذا القبيل. وعندما رقدت لأموت،رجتني أن أنهض وأتابع جرجرة الحياة، وكأنها ماتزال تنتظر معجزة ماتنظف خطاياي. لكنني لم أكبد نفسي ولو مشقة المحاولة، وقلت لها: هنا انتهت الطريق.ما عادت لدي قوة للمزيد وفتحت فمي لتخرج منه.ومضت. وأحسست بخيط الدم الذي كانت ترتبط به إلي قلبي وهو يسقط بين يدي وبنفس الطريقة نري حصان ميجيل بارامو يذهب ويعود لا بغرض حنينه لصاحبه ميجيل المتوفي ولكن بغرض وخز الضمير فالحصان يود الإعتراف بخطئه ربما لايحتمل المسكين- الحصان- وخز الضمير، فحتي الحيوانات تنتبه حيت تقترف جريمة ،أليس كذلك. علي مستوي آخر يتطرق خوان رولفو للزمن بموازاة مع الموت، فيربط الكآبة وضياع المكان بالزمنس- هل أنت متأكد أنها كومالا؟ - متأكد ياسيدي. ذ ولماذا تبدو كئيبة؟- أنها الأزمنة،ياسيدي. سألتهما:-هل أنتما ميتان؟ ابتسمت المرأة .ونظر إلي الرجل بجدية وقال-إنه سكران.فقالت المرأة- إنه خائف فقط. جرجرة خطوات بطيئة كأنها تحمل شيئا ثقيلاس إن الزمن لايمر وإنما يقفز كما يقول ماركيز، يقفز وسط حموضة بالغة السوء ووسط موات لايتوقف، ولاشيء ينمو غير الذكريات وتقاطعاتها التي تشبه الهذيان علي حافة مكان لاوجود له، وكأن الذكريات نفسها مخترعة ولاأساس لها كقرية »كومالا« نفسها التي ترواغنا فتارة نشعر بوجودها وتارة نشعر بأنها قرية وهمية نعيش علي أرض يمنح فيها كل شيء بفضل العناية الإلهية، لكن كل شيء تمنحه حامض، فنحن محكمون بذلك زهذه القرية تملأها الأصداء،فيبدو أنها محبوسة في جوف الجدران أو تحت الأحجار وعندما تسير تشعرأن الخطوات تدوسكس ستذكرت ماكنت تقوله لي أمي هناك ستسمعني أفضل سأكون أقرب إليك، ستجد صوت ذكرياتي أكثر قربا من صوت موتي، إذا كان للموت صوت ذات يومس هناك قري لها رائحة التعاسة .فهي تعرف مع استنشاق القليل من هوائها القديم والمخدر،البائس الهذيل شأن كل شيء بال وهذه القرية- كومالا- من تلك القري ياسوزانا إن خوان رولفو يغوص في رحلة صامته هاذية مصحوبه بضوضاء الموتي في صمت مكان ميت من خلال زمن ينحصر في ذكريات متناثرة هنا وهناك سواء لأمه أو لوالده وأيضا لأبنهما الذي هو خوان بالرواية، رواية بيدرو بارامو عمل مختصر معقد مخادع طوال الوقت، عمل لايعتمد علي بناء معين، حيث الفقرات والصفحات مثل شخوصها تكمن في هذيانها المتواصل ،هذيانها الحالم والمصطدم بضوضاء المكان المفترض وجوده هناك خلف تلال بعيدة كتلال الجسد والروح، أنها رواية تتجاوز كل الأزمنة لأنها رواية بلا زمن بالأساس حتي الكلمات بها لاتنتمي للكلمات التي نعرف استخدامها نحن، كل شيء بالرواية عكس مانعرف طبيعته، كل شيء يسير كالحلم ، فنحن نتحدث بالحلم عبر كلمات خالية من الصدي ونري شخوصا بهيئات غير حقيقتها حتي اللون كذلك، رواية بيدرو بارامو هي حلم طويل لرغبة في البحث عن الذات بشكل مختلف عما سبقه وعما سيلحق من بعده، رواية كالفخ والأخطر فيها أنها تشرك القاريء في كتابتها وليس في قراءتها فقط وهذا ماقصده خوان رولفو عندما قالسأكتب لقاريء يملأ ما أتركه من فراغ بين السطورس وحقيقة أنها رواية تجعلك تتخذ قرارات مصيرية بعد الإنتهاء منها، وحدث هذا مع جابريل جارثيا ماركيز وغيره، ومن يقرأ بيدرو بارامو ويقرأ مائة عام من العزلة وخريف البطريرك والحب في زمن الكوليرا سيجد جذورا لهم بتلك الرواية حتي وأن كانت تلك الجذور مجرد سطور أو جملة ببيدرو بارامو، فمثلا انتظار بيدرو بارامو وبحثه عن سوزانا سنجده في الحب في زمن الكوليرا والأمر ليس حديثا عن سرقات وإنما نقصد التأثر بفلسفة الرواية وبشخوصها.