واشنطن تعلن التصدي لصاروخ حوثي يستهدف على الأرجح سفينة ترفع العلم الأمريكي    أمريكا تضغط على إسرائيل على خلفية مزاعم بشأن قبور جماعية في مستشفيين بقطاع غزة    إيران وروسيا توقعان مذكرة تفاهم أمنية    عاجل.. أسطورة ليفربول ينتقد صلاح ويفجر مفاجأة حول مستقبله    بعد إعلان الرئيس السيسي عنها.. ماذا تعرف عن البطولة العربية العسكرية للفروسية؟    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    تحظى ب«احترام غير مبرر».. اتهام مباشر لواشنطن بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل    تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    شوبير يعلق على تكريم الأهلي لنجم الزمالك السابق    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    "منافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    إصابة 5 سائحين في انقلاب سيارة ملاكي بالطريق الصحراوي بأسوان    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    التطبيق خلال ساعات.. طريقة تغيير الساعة على نظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي)    ريهام عبد الغفور عن والدها الراحل: وعدته أكون موجودة في تكريمه ونفذت    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    30 صورة وفيديو من حفل زفاف سلمى ابنة بدرية طلبة بحضور نجوم الفن    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    الرئيس الموريتاني يُعلن ترشّحه لولاية ثانية    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مديح القراءة والخيال
كلمة ماريو بارجس يوسا لجائزة نوبل
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 12 - 2010

تعلمتُ القراءة وأنا في الخامسة، في فصل الأخ خوستينيانو بمدرسة لا سايي بكوتشابامبا ببوليفيا. كان هذا أهم حدث في حياتي. وبعد سبعين عاماً أتذكر بوضوح كيف أثري حياتي هذا السحر: ترجمة كلمات الكتب إلي صور، كاسراً حواجز الزمن والمكان وسامحاً لي أن أسافر مع القبطان نيمو في رحلة بحرية تصل إلي عشرين ألف فرسخ، وأن أحارب مع دي أرتجنان وأثوس وبورتوس وأراميس ضد المؤامرات التي تهدد الملكة في زمن ريتشيلو الباذخ، أو الزحف في كوامن باريس، متحولاً إلي جين فالين، بجسد ماريو الدائخ علي عاتقه.
كانت القراءة تحول الحلم إلي حياة والحياة إلي حلم وتضع عالم الأدب في متناول يد الرجل الصغير الذي كنته. حكت لي أمي أن أول الأشياء التي كتبتها كانت استكمالاً لقصص قد قرأتها، فكان من المحزن لي أن تنتهي الحكايات أو كنت أود ان أمنحها أنا نهاية تروق لي.. وربما كان ذلك ما أفعله طيلة حياتي دون أن أدري: أطيل الحكايات التي ملأت طفولتي بالمجد والمغامرة، بينما كنت أكبر وأنضج وأشيخ.
كنت أتمني أن تكون أمي الآن هنا، هي التي كانت تنفعل وتبكي كلما قرأت قصائد لأمادو نيربو وبابلو نيرودا. كنت أتمني كذلك وجود جدي بِدرو، صاحب الأنف الكبيرة والصلعة اللامعة، هو من كان يحتفي بأبيات شعري، وكذلك خالي لوتشو الذي كثيراً ما شجعني لأتفرغ قلباً وقالباً للكتابة مع أن الأدب، في ذاك الزمن والمكان، لم يكن يطعم زارعيه. أناس مثل هؤلاء، كانوا بجانبي طيلة حياتي، يحبونني ويمتدحونني، وينقلون لي عدوي إيمانهم كلما ارتبتُ. وبفضل هؤلاء، وبفضل عنادي وشيء من الحظ بلا شك، استطعت أن أكرس جزءً من وقتي لهذا الوله، لهذه العادة، لهذه العجيبة، التي هي الكتابة، خلق حياة موازية حيث نحتمي من العداوة، وحيث يصير طبيعياً ما هو غريب وغريباً ما هو طبيعي، حيث تنتظم الفوضي ويتجمّل القبح، وحيث تتخلد اللحظة ويصير الموت حدثاً عابراً.
لم يكن يسيراً كتابة الحكايات. فالكلمات عندما تُكتب، تذبل علي الورق، والأفكار والصور تحتضر. كيف يمكن بعث الروح فيها؟ لحسن الطالع، كان هناك أساتذة نتعلم منهم ونسير علي خطاهم. علمني فلوبير أن الموهبة انضباط صارم وصبر طويل. وعلمني فوكنر أن الشكل- الكتابة والبنية- هي ما يثري أو يفقر الموضوعات. وماتوريل وثربانتس وديكنز وبلزاك وتولستوي وكونراد وتوماس مان علموني أن العدد والطموح هامان في رواية مثل أهمية القوة الأسلوبية والاستراتيجية السردية.أما سارتر فعلمني أن الكلمات أفعال، وأن الرواية والمسرحية والمقالة المرتبطة بالواقع والتي تقدم أفضل اختيارات، من الممكن أن تغير مجري التاريخ. كاموس وأورويل علماني أن الأدب الخالي من الأخلاق أدب لا إنساني، ومالاروكس علمني أن البطولية والأسطورية يسعها الوقت الحالي كما وسعت الأزمنة السابقة المغامرين الجادين، والإلياذة والأوديسة.
لو ذكرت في هذا الخطاب كل الكُتّاب الذين أدين لظلالهم بشيء أو بالكثير سندخل في بئر مظلم. إنهم عدد لا حصر له. فبالإضافة لكشفهم لي أسرار مهنة الحكي، جعلوني اكتشف خبايا الكائن الإنساني، وأعجب ببطولاته وأخاف من ضلالاته.. كانوا أكثر الأصدقاء خدمة، وتشجيعاً لميولي، واكتشفت في كتبهم، حتي في أسوأ الظروف، الآمال والحياة التي تستحق أن تعاش، فبدون الحياة لا يمكن أن نقرأ ولا نتخيل حكايات.
سألت نفسي أحياناً إن كان في بلاد مثل بلدي، حيث ندرة القراء وغزارة الفقراء والأميين والظلم، وحيث الثقافة تمييز للقلة، ألا تعد الكتابة ترف بغيض. هذه الارتيابات لم تخنق أبداً ميولي وواصلت الكتابة، حتي في تلك الفترات التي فيها كان العمل من أجل الطعام يمتص كل وقتي. أعتقد أنني فعلتُ الحق، فلو كان ضرورياً لازدهار الأدب في مجتمع أن يحقق أولا ثقافة عالية، حرية، رخاء وعدالة، فكل ذلك لم يوجد أبداً. بل علي العكس، بفضل الأدب، وبفضل الضمائر التي شكلها، والرغبات والأماني التي استلهمها، وعدم الانبهار بالواقع الذي به نعود من السفر بخيال جميل، أصبحت الحضارة اليوم أقل وحشية مما كانت عليه عندما بدأ رواة الحكايات في أنسنة الحياة بأساطيرهم. كنا سنصبح أسوأ مما نحن عليه بدون كتب جيدة نقرأها، كنا سنصير أكثر خضوعاً وأقل أرقاً وتمرداً وما وجدت من الأساس روح النقد التي هي موتور التقدم.
وكما الكتابة، تعد القراءة اعتراضاً علي عدم الاكتفاء من الحياة. من يبحث في الخيال عما لا يملكه، يقول، دون ضرورة لقول ذلك، ولا حتي لمعرفته، إن الحياة بما هي عليه لا تكفينا لتروي عطشاً مطلقاً، أحد أساسيات الكائن البشري، وإنها يجب أن تكون أفضل. نخترع الخيال لنستطيع بطريقة ما عيش الحيوات الكثيرة التي نرغب أن نمتلكها عندما لا نملك سوي حياة واحدة.
بدون الخيال سنكون أقل وعياً بأهمية الحرية لتكون الحياة قابلة للعيش وبالجحيم الذي تتحول إليه عندما يتولي أمرها طاغية أو أيديولوجية أو دين. من يرتاب في أن الأدب ينبهنا لكل أشكال القمع، فضلاً عن كونه يغرقنا في حلم الجمال والسعادة، فليسأل نفسه لماذا كل الأنظمة التي تراهن علي التحكم في سلوك المواطنين من المهد إلي اللحد يرهبونه حد أنهم يقيمون أنظمة رقابة ليكبحوه ويراقبون باشتباه كبير الكُتّاب المستقلين. يفعلون ذلك لأنهم يعرفون المخاطرة التي تحدث إن تركوا الخيال يجول في الكتب، والمشاغبات التي تحدثها الفانتازيا عندما يقارن القاريء بين الحريات التي تجعلها ممكنة والتي يمارسها هو، بظلامية وخوف يتربصان به في عالمه الواقعي. أرادوا أو لم يريدوا، عرفوا أو لم يعرفوا، ينشر مخترعو الأساطير عدم الاكتفاء عند ابتداع حكايات، مبرهنين أن العالم مصنوع بشكل سيئ، وأن حياة الفانتازيا أكثر ثراءً من الروتين اليومي. هذه المحصلة، إن رجعت أصولها للحساسية والإدراك، تجعل المواطنين لا يصدقون التزييف بسهولة، ولا يقبلون الأكاذيب التي يريد أن يجعلهم يصدقونها، مِن وراء حجاب، حاكمو تفتيش وسجانون يعيشون بشكل أفضل وأكثر أمناً. يشيد الأدب الجيد جسوراً بين أناس مختلفين، وعندما يمنحنا المتعة والألم والدهشة، يجمعنا تحت كل اللغات والمعتقدات والسلوكيات والعادات والأحكام الخاطئة التي تفرقنا. فعندما تهاجم سمكةُ قرش بيضاء القبطان إيهاب في البحر، ينقبض قلب كل القراء بالمساواة، سواء كانوا من طوكيو أو ليما أو طومبوكتو. وعندما تبتلع إما بوفاري الزرنيخ، وتلقي أنّا كارنينا بنفسها من القطار، وتصعد جولين سوريل إلي المشنقة، وعندما، في رواية "الجنوب"، يخرج الدكتور الحضري جوان داهلمان من هذا المخزن ليواجه سكين عربيد، أو ننتبه أن كل سكان كومالا، قرية بِدرو بارامو، صاروا موتي، فلابد أن الرجفة هي
نفس الرجفة سواء كان القاريء يعبد بوذا أو كونفوشيوس أو المسيح أو الله أو كان ملحداً، سواء كان يرتدي بدلة وكرافتة أو جلباباً، كيمونو ياباني أو بنطلونات باجي. الأدب يخلق أخوة داخل الاختلاف البشري ويخفي الحدود التي يقيمها بين الرجال والنساء الجهلُ والأيديولوجيات والديانات واللغات، والحماقة.
كما كان لكل زمن أشباحه، فشبح زمننا المتعصبون، الإرهابيون المنتحرون، إنهم فصيلة قديمة مقتنعة أنها تنتحر من أجل الفوز بالجنة، فدم الأبرياء يغسل الإهانات الجماعية، يصحح الظلم ويفرض الحقيقة علي المعتقدات المزيفة. عدد لا متناه من الضحايا كل يوم في أماكن مختلفة من العالم يُقتل علي يد هؤلاء الذين يشعرون أنهم أصحاب الحقائق المطلقة. كنا نعتقد، مع انهيار الامبراطوريات الشمولية، أن التعايش والسلام والتعددية وحقوق الإنسان ستفرض نفسها، وأن العالم سيودع المحارق والإبادات الجماعية والغزوات وحروب الإبادة. لم يحدث شيء من هذا. بل تتكاثر أشكال جديدة من الوحشية يغذيها التعصب، ومع تنامي أسلحة الدمار الشامل لا يمكن استبعاد أن تسبب أي فصيلة من المجانين المخلصين كارثة نووية ذات يوم. يجب أن نقطع خطاهم، أن نواجههم ونهزمهم. ليسوا كثيرين، رغم أن ضوضاء جرائمهم تهز الكوكب بأكمله وتغيم بالرعب الكوابيس التي يسببونها. لا يجب أن نصادق من يريدون أن يسلبونا الحرية التي استولينا عليها في بطولة الحضارة الطويلة. وعلينا أن ندافع عن الديمقراطية الليبرالية، التي برغم كل قيودها لا زالت مرادفاً للتعددية السياسية والتعايش والتسامح في السلطة، كل هذا سحبناه من الحياة الوحشية واقتربنا- رغم أننا لم نصل للقمة- من الحياة الجميلة والكاملة التي يدعيها الأدب، تلك الحياة التي عند ابتداعها وكتابتها وقراءتها نستطيع أن نكون جديرين بها. فحينما نواجه الإرهابيين القتلة ندافع عن حقنا في أن نحلم وأن نحقق أحلامنا.
في شبابي، مثل كتاب كثيرين من أبناء جيلي، كنت ماركسياً واعتقدتُ أن الشيوعية هي علاج الاستغلال والظلم الاجتماعي المحتدم في بلدي وأمريكا اللاتينية وبقية العالم الثالث. وخيبة أملي في الدولانية والجماعية وانتقالي للديمقراطية والليبرالية التي أعتنقها- وأحاول أن أكونها- كان طويلاً جداً، وصعباً، وحدث ببطء وبناءً علي أحداث مثل تحول الثورة الكوبية، التي تحمست لها في البداية، إلي النموذج الاستبدادي والرأسي للإتحاد السوفييتي، وشهادة المنشقين التي استطاعت الهروب من بين أسلاك جولاج، وغزو تشيكوسلوفاكيا علي يد دول حلف وارسو، وبفضل مفكرين مثل ريموند أرون، جين فرنكي ريفي، إيسيا برلين وكارل بوبر، الذين أدين لهم بإعادة تقييمي للثقافة الديمقراطية والمجتمعات المفتوحة. كان هؤلاء الأساتذة نموذجاً لوضوح الفكر والبسالة عندما كان الذكاء الغربي يبدو، لعبثه أو انتهازيته، قد استسلم لسحر الشيوعية السوفييتية، أو الأسوأ من ذلك، للسحر الدموي للثورة الثقافية الصينية.

عندما كنت طفلاً، كنت أحلم بالوصول لباريس لأنني، مبهوراً بالأدب الفرنسي، كنت أعتقد أن الحياة هناك واستنشاق الهواء الذي يستنشقه بلزاك وستندها وبودلير وبروست، سيساعدني علي أن أصير كاتباً حقيقياً، وأنني إن لم أخرج من البيرو سأكون كاتباً زائفاً أكتب فقط أيام الآحاد والإجازات. والحقيقة أنني أدين لفرنسا وللثقافة الفرنسية بتعليم لا يُنسي، من بينه أن الأدب كما هو موهبة هو أيضاً انضباط وعمل ومثابرة. عشت هناك عندما كان سارتر وكاموس علي قيد الحياة ويكتبان، في سنوات يونسكو، بيكيت، باتيل وسيوران، سنوات اكتشاف مسرح بريخت وسينما انجمار بيرجمان ومسرح جين فيلار القومي الشعبي... والخطب والقطع الأدبية الجميلة لأندريه مالاروكس، وربما العرض الأكثر مسرحة في أوروبا تلك الفترة، المؤتمرات الصحفية والرعد الأوليمبي للجنرال دي جول. مع ذلك، أكثر ما أشكر فرنسا عليه هو اكتشافي لأمريكا اللاتينية. هناك تعلمت أن البيرو جزء من أرض واسعة تجمعها بها الجغرافيا والتاريخ والاشكالية الاجتماعية والسياسية وطريقة المعيشة واللغة الثرية التي تتكلمها وتكتب بها. وأنه في تلك السنوات نفسها كان يُكتب أدب جديد وقوي. هناك قرأت لبورخس وأوكتابيو باث وكورتاثر وجارثيا ماركيز وفوينتس وكابريرا إنفانتي ورولفو وأونيتي وكاربنتيير وإدواردس ودونوسو وآخرين كثيرين، كانت كتاباتهم تحدث ثورة في السرد باللغة الإسبانية وبفضلهم اكتشفت أوروبا وجزء كبير من العالم أن أمريكا اللاتينية ليست فقط قارة انقلابات في نظم الحكم، وقادة عمليات، ومحاربي عصابات بلحي طويلة، ورقصات بامبو وشتشتشا، وإنما أيضاً قارة أفكار، وأشكال فنية، وخيال أدبي يتجاوزون به التصويرية ويتحدثون لغة عالمية.
ومنذ هذه الفترة إلي الآن، بتعثرات وانزلاقات، كانت أمريكا اللاتينية تتطور، رغم أنها، كما يقول ثيسر باييخو في بيت شعر:" لا يزال، يا إخواني، أمامنا الكثير لنفعله". نعاني من ديكتاتوريين أقل من الأزمنة الغابرة، فقط كوبا والمرشحة لخلافتها فنزويلا، وبعض الديمقراطيات الشعبية المزيفة والبهلوانية مثل بوليفيا ونيكاراجوا. لكن في بقية القارة، لحسن الحظ، الديمقراطية تمارس، بدعم من الموافقة الشعبية الواسعة، ولأول مرة في تاريخنا لدينا يمين ويسار، كما في البرازيل وتشيلي وأوروجواي وبيرو وكولومبيا وجمهورية الدومينيكان والمكسيك وأغلب أمريكا الوسطي، حيث احترام الشرعية وحرية النقد والانتخابات وتداول السلطة. هذا هو الطريق الصحيح، ولو ثابروا فيه، وحاربوا الفساد الغادر وواصلوا تكاملهم مع العالم، ستكف أمريكا اللاتينية في النهاية عن كونها قارة المستقبل لتكون قارة الحاضر.
لم أشعر أبداً أنني غريب في أوروبا، ولا في أي بلد آخر حقيقةً. في كل الأماكن التي عشت فيها، في باريس، لندن، برشلونة، برلين، واشنطن، نيويورك، البرازيل، أو جمهورية الدومينيكان، شعرتُ أنني في بيتي. دائماً ما وجدت مكاناً مكنني أن أعيش في سلام وأعمل وأتعلم أشياءً وأحمّس خيالي وأجد أصدقاءً وأقرأ كتباً جيدة وأعثر علي موضوعات أكتبها. لا يبدو لي أن كوني تحولتُ، دون نية مني، إلي مواطن عالمي قد أضعف ما يسمونه ب"الجذور"، ارتباطي ببلدي- وهو أمر ليس له أهمية قصوي- لأن الأمر لو كان كذلك، ما استمرت تجاربي البيروفية في تغذيتي ككاتب وما ظهرت في قصصي، حتي ولو بدي أن ما يحدث يحدث بعيداً جداً عن البيرو. أنا أعتقد أن حياتي لفترة طويلة خارج بلدي الذي ولدتُ فيه قد قوي هذه الروابط وأضاف إليها منظوراً أكثر وضوحاً، ونوستالجيا، تعرف كيف تفرق بين ما هو موضوعي وعاطفي وتحتفظ بأصداء ذكرياتي. فالحب للبلد الذي نولد فيه لا يمكن أن يكون إجبارياً، وإنما، مثل أي حب آخر، حركة تلقائية في القلب، مثل التي تجمع العشاق، الآباء والأبناء، والأصدقاء فيما بينهم.

أنا أحمل البيرو بين أضلعي لأنني ولدت هناك، ونشأت وتشكلت، وعشت تجارب طفولتي وشبابي التي قولبت شخصيتي، ولملمت ميولي، ولأنني عشقت هناك، وكرهت، واستمتعت وتألمت وحلمت. ما يحدث في هذا البلد يؤثر فيّ أكثر ويهز مشاعري ويثير سخطي أكثر مما يحدث في أي مكان آخر. لم أبحث عن ذلك ولم أفرضه علي نفسي، ببساطة هذا ما يحدث. اتهمني بعض أبناء بلدي بالخائن وكنت علي وشك أن أفقد جنسيتي عندما، خلال الديكتاتورية الأخيرة، طلبت من الحكومات الديمقراطية في العالم أن تعاقب النظام البيروفي عقوبات دبلوماسية واقتصادية، كما فعلت دوماً مع كل الأنظمة الديكتاتورية من كل نوع، ديكتاتورية بينوتشت، فيدل كاسترو، طالبان بأفعانستان، أئمة إيران، الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، مستبدي الزي الرسمي في بورما(اليوم ميانمار). وسأعود لأفعل ذلك غداً- ولو لم يرغب القدر ولم يسمح البيروفيون- إن أصبح البيرو ضحية مرة أخري لإنقلاب في نظام الحكم يقوض ديمقراطيتنا الهشة. لم يكن ما فعلته تسرعاً وعاطفياً نتيجة استياء، كما كتب ذلك بعض أجهزة كشف الكذب المعتادون علي إطلاق أحكام علي الآخرين من خلال صغرهم الذاتي. كان فعلاً مرتبطاً بقناعتي بأن الديكتاتورية تمثل الشر المطلق لأي دولة، أنها نبع الوحشية والفساد والجروح العميقة التي تستغرق زمناً طويلاً لتلتئم، أنها تسمم المستقبل وتخلق عادات وممارسات سيئة يستمر تأثيرها علي طول الأجيال وتلتهم البنيات الديمقراطية. لهذا، يجب محاربة الديكتاتورية بلا تفكير، وبكل الوسائل المتاحة، بما فيها العقوبات الاقتصادية. من المؤسف أن الحكومات الديمقراطية، بدلاً من أن تكون نموذجاً، فتتضامن مع من يجابهون بتهور الديكتاتوريات التي يعانون منها، مثل لاس دامس دي بلانكو في كوبا، المقاومين الفنزويليين، أو أونج سان سوو كي و ليو كسيابو، نجدها تظهر بمظهر المتواطيء ليس معهم بل مع جلاديهم. هؤلاء الشجعان، الذين يقاتلون من أجل الحرية، يقاتلون أيضاً من أجل حريتنا.
أحد أبناء بلدي، وهو خوسيه ماريا أرجيدس، أطلق علي البيرو اسم "بلد كل الدماء". لا أعتقد أن هناك عبارة أفضل لتعريفه. فنحن كذلك وهذا نحمله داخل كل البيروفيين، سواء راق لنا أم لا: خلاصة تقاليد، أعراق، معتقدات وثقافات قادمة من الجهات الأصلية الأربع. وأنا أشعر بالفخر لأنني وريث الثقافات ما قبل الإسبانية التي صنعت النسيج والعباءات من الريش في حضارة ناثكا وباراكَس والخزف الموتشيكي أو الإنكي المعروض في أفضل متاحف العالم؛ أنني إبن بناة الماتشو بيتشو، والتشيمو العظيم، وتشان تشان، وكويلاب، وسيبان، وهوكات لا بروخا والسول ولا لونا؛ وبالإسبان الذين جاءوا بملابسهم وسيوفهم وجيادهم، وأحضروا للبيرو من اليونان وروما الثقافة اليهودية- المسيحية، وعصر النهضة، وثربانتس وكيبيدو وجونجورا، واللغة القشتالية الثرية التي تذوقها أهل الإنديس. فخور أيضاً بما أحضرته إسبانيا من أفريقيا من قوة وموسيقي وخيال فائر أثري التنوع البيروفي. لو نبشنا قليلاً سنكتشف أن البيرو، مثل الألف لبورخس، صورة مصغرة للعالم بأسره. يا له من تميز غريب ألا يكون لبلد هوية لأن له كل الهويات!

كان غزو أمريكا اللاتينية وحشياً وعنيفاً، مثل كل غزو بالطبع، ويجب أن ننتقده، لكن دون أن ننسي أثناء ذلك أن من ارتكب السلب والجرائم، بعدد كبير، هم آباء أجدادنا وآباؤهم، فالإسبان الذين دخلوا أمريكا واختلطوا بأهلها ليسوا هم الإسبان الذين بقوا في أراضيهم. هذه الانتقادات، لتكون عادلة، يجب أن تكون نقداً ذاتياً. لأننا، عندما تحررنا من إسبانيا، منذ مئتي عام، ظل مَن تولوا السلطة في المستعمرات القديمة يستغلون الهندي الأحمر بجشع كبير ووحشية كما المستعمر، بدلاً من أن ينقذوه ويطبقوا عليه العدالة ويرفعوا عنه المظالم القديمة، وفي بعض البلدان، مزقوه وأبادوه. فلنقل بكل وضوح: منذ قرنين صار استقلال السكان الأصليين مسئوليتنا بشكل حصري ولم نتحملها. هي لا زالت موضوعنا المعلق في كل أمريكا اللاتينية. وليس هناك استثناء من هذا الخزي والعار.
أحب إسبانيا قدر حبي للبيرو وديني له كبير وكذلك شكري. فلولا إسبانيا ما كنت وصلت أبداً لهذه المنصة، ولا كنت كاتباً معروفاً، وربما كنت سأسير، مثل كتاب آخرين لا حظ لهم، في طريق النسيان الخاص بالكتبة المنحوسين، بلا ناشرين، بلا جوائز، بلا قراء، ولموهبتهم فقط- ويا لها من سلوي حزينة- ستكتشفهم ذات يوم الأجيال القادمة. في إسبانيا نشروا كل كتبي، وتلقيت منهم تكريمات مفرطة، وأصدقاء مثل كارلوس بارال وكارمن بالسيلس وآخرين كثيرين تفرغوا لي تماماً لأن حكاياتي كان لها قراؤها. وإسبانيا منحتني جنسية ثانية عندما كنت علي وشك أن أفقد جنسيتي. ولم أشعر أبداً بأي تعارض بين كوني بيروفي وحمل الباسبور الإسباني لأنني شعرت دوماً أن إسبانيا والبيرو وجه العملة وظهرها، ليس فقط في شخصي الصغير، بل أيضاً في وقائع أساسية مثل التاريخ واللغة والثقافة.
من كل السنوات التي عشتها في الأرض الإسبانية، أتذكر بجلاء السنوات الخمس التي قضيتها في برشلونة الحبيبة في بداية السبعينيات. كانت ديكتاتورية فرانكو لا زالت قائمة وتطلق الرصاص، لكنها كانت كزوبعة في فنجان، خاصة في المجال الثقافي، فقد كانت عاجزة منذ الأزل عن فرض سيطرتها. كانت تُفتح ثغرات وشقوق لم تستطع الرقابة سدها ومن خلالها امتص المجتمع الإسباني الأفكار الجديدة والكتب والتيارات الفكرية والقيم والأشكال الفنية التي كانت محرمة حتي ذلك الحين من قبل المخربين. فلم تستغل مدينة أخري بداية الفتحة هذه أفضل وأكثر من برشلونة ولا عاشت مدينة أخري فوراناً مماثلاً في كل مجالات الأفكار والإبداع. وتحولت للعاصمة الثقافية لإسبانيا، المكان الذي يجب أن أكون فيه لأتنفس مقدمات حرية ستأتي. وبشكل ما، كانت أيضاً العاصمة الثقافية لأمريكا اللاتينية لكمية الرسامين والكتاب والناشرين
والفنانين المنحدرين من بلدان أمريكية لاتينية استقروا فيها، أو كانوا يسافرون ويعودون إليها، لأنها كانت المكان الملائم لمن كان يريد أن يكون شاعر عصره أو روائيه أو رسامه أو ملحنه. وبالنسبة لي، كانت هذه سنوات رفقتي وصداقاتي وإلهاماتي وخصوبة أعمالي الفكرية التي لا يمكن أن أنساها. ومثلما كانت باريس من قبل، صارت برشلونة برج بابل، مدينة كوزموبوليتانية وعالمية، تحفز علي العيش والعمل، اختلط فيها لأول مرة منذ زمن الحرب الأهلية كتاب إسبان وأمريكيون لاتينيون وتآخوا فيما بينهم، وتعارفوا
باعتبارهم أصحاباً لنفس الثقافة ومتحدين في نفس المؤسسة المشتركة واليقين: وكانت نهاية الديكتاتورية وشيكة وفي إسبانيا الديمقراطية صارت البطل الرئيسي.
ورغم أن الأمور لم تجر علي هذه الصورة بالضبط، إلا أن مرحلة انتقال إسبانيا من الديكتاتورية إلي الديمقراطية كانت واحدة من أفضل الحكايات في العصر الحديث، وكانت نموذجاً لكيف يمكن تحقيق أحداث عجائبية تشبه أحداث روايات الواقعية السحرية، عندما تسود الرصانة والعقلانية ويتخلي المنافسون السياسيون عن الطائفية من أجل الخير العام. كان انتقال إسبانيا من الاستبداد للحرية، من التخلف للازدهار، من مجتمع به متناقضات اقتصادية وعدم مساواة تخص العالم الثالث إلي بلد يغلب عليه الطبقات الوسطي، يتكامل مع أوروبا ويتبني في سنوات قليلة لثقافة ديمقراطية، محل اعجاب العالم أجمع وأطلق زمن التحديث الإسباني. كان ذلك بالنسبة لي تجربة مؤججة للمشاعر ومفيدة عند معايشتها عن قرب ومن الداخل. أتمني ألا تدمر الأحزاب القومية، الطاعون المزمن للعالم الحديث وإسبانيا أيضاً، هذه القصة السعيدة.

أبغض كل أشكال القومية والأيديولوجيا الإقليمية- أو بمعني أوضح الدين-ضيق الخيال والمنعزل، الذي يقطع الأفق المثقف ويخبيء في طياته سوء ظن عرقي وعنصري، لأنه يحول مكان الميلاد الطاريء لقيمة عليا ولتمييز أخلاقي روبودي. فبجانب الدين، كانت القومية السبب في أفظع مجازر التاريخ، مثل الحربين العالميتين والنزيف الحالي في الشرق الأوسط. ولم يساهم شيء في تقسيم أمريكا اللاتينية مثلما ساهمت القومية، حيث نزفت جراء منافسات متهورة وأهدرت موارد خيالية لشراء أسلحة بدلاً من بناء مدارس ومكتبات ومستشفيات.
علينا ألا نخلط بين القومية التي تصم الآذان وترفض الآخر وتزرع دائماً العنف، وبين الوطنية، هذا الشعور الصحي والكريم، الذي يحمل حباً للأرض التي رأي الواحد منا نورها، وعاش فيها أسلافه وتشكلت عليها أحلامه، وآلف جغرافيتها، وسكنها أحباؤه وأفكاره، الذين صاروا معالم في ذاكرته ودروعاً ضد العزلة. الوطن ليس الأعلام ولا الأناشيد، ولا الخطبات الرنانة عن الأبطال الرمزيين، بل حفنة من الأماكن والأشخاص يسكنون ذاكرتنا ويصبغونها بالحزن، بإحساس ساخن بأن لنا مكاناً يمكننا العودة إليه، ولا يهم أين نحن.
البيرو بالنسبة لي هو أريكيبا، محل ميلادي الذي لم أسكنه أبداً، مدينة علمتني أمي وأجدادي وأخوالي أن أعرفها من خلال ذكرياتهم وحنينهم، لأن كل قبيلتي العائلية، كما اعتاد أهل أريكيبا أن يفعلوا، حملوها معهم في حياتهم الجوالة إلي ثيوداد بلانكا. البيرو هو بيورا الصحراوية، شجرة الخروب والحمار الصغير المتألم، أسماها أهل بيورا في شبابي:" القدم الدخيلة"- اسم جميل وحزين- وهناك اكتشفت أن اللقالق ليست هي من تحضر الأطفال للعالم وإنما الآباء هم من يصنعونهم بأعمال وحشية كانت خطيئة مميتة. هو مدرسة سان ميجيل ومسرح بارييداديس حيث شاهدت لأول مرة علي خشبة المسرح عملاً كتبته. هو ناصية دييجو فيري وكولون، في ميرافلوريس الليمية- كنا نسميه الحي السعيد- حيث استبدلت بنطلوني القصير بآخر طويل ودخنت سيجارتي الأولي وتعلمت الرقص والعشق ومصارحة الصبايا. هو كتابتي الأولي، المغبرة والمرتجفة، لجريدة "لا كرونيكا" وأنا في السادسة عشرة، حيث ضمنت أسلحتي الأولي كصحفي، مهنة شغلت كل حياتي تقريباً بجانب الأدب وجعلتني، كما الكتب، أعيش أكثر وأتعرف علي العالم أفضل وأعتاد الناس من كل الأماكن وكل الطبقات، ناساً ممتازين، طيبين، أشرارً، كريهين. البيرو هو مدرسة ليونثيو برادو العسكرية، حيث تعلمتُ أن البيرو ليس حصن الطبقة المتوسطة الصغير الذي كنت أعيش فيه حتي ذلك الحين محاصراً ومحمياً، وإنما بلد كبير وقديم وغاضب وغير متساو وينتفض بكل نوع من العواصف الاجتماعية. هو خلايا كاويدي السرية التي فيها كنا نعد ثورة عالمية بحفنة من الرجال. البيرو هو أصدقائي وصديقاتي في حركة الحرية الذين قضيت معهم ثلاثة أعوام بين القنابل وانقطاعات النور واغتيالات الإرهابيين أثناء عملنا في الدفاع عن الديمقراطية وثقافة الحرية.
البيرو هو باتريثيا، ابنة عمي ذات الأنف الفطساء والشخصية التي لا تُقهر والتي لحسن طالعي تزوجتها منذ خمسة وأربعين عاماً ولا زالت تحتمل هوسي وعصابي ونوبات غضبي وهي التي تساعدني علي الكتابة. وبدونها لتبخرت حياتي منذ زمن في زوبعة فوضوية وما جاء للحياة ألبارو وجونثالو ومرجانة ولا الستة أحفاد الذين أطالوا حياتي وأسعدوها. هي من تصنع كل شيئ وتصنعه جيداً. تحل المشكلات، تدير اقتصاد البيت، تنظم الفوضي، توقّف الصحفيين والمتطفلين، تدافع عن وقتي، تقرر المواعيد والسفريات، تعد الحقائب وتفرغها، وكريمة جداً، حد أنها عندما تعاتبني، تُسمعني أفضل إطراء:"ماريو، الشيء الوحيد الذي تنفع فيه هو الكتابة".

فلنعد إلي الأدب. لم تكن جنة طفولتي أسطورة أدبية بل واقعاً عشته واستمتعت به في بيت عائلتي الكبير ذي الثلاثة ممرات، في كاتشابامبا، حيث كنت مع بنات أخوالي وزملاء المدرسة نعيد حكاية طرزان وسالجاري، وفي مقاطعة بيورا، حيث تسكن الخفافيش بين السقوف، والظلال الخارجة تملأ بشكل غامض ليل هذه الأرض الساخنة المرصع بالنجوم. في تلك السنوات، كانت الكتابة لعبة تحتفل بها عائلتي من أجلي، مرحاً أستحق عليه التصفيق، وكنت أنا الحفيد وابن الأخت والابن بلا أب، لأن أبي كان قد رحل عن الحياة واستقر في السماء. كان رجلاً طويلاً وشاباً وسيماً، يرتدي زي البحرية، وكانت صورته فوق كوموديني أصلي لأجله وأقبله قبل نومي. وفي إحدي صباحات بيورا، التي لا أعتقد أنني استرددت نفسي منها إلي الآن، أخبرتني أمي أن هذا السيد، في الحقيقة، لا يزال حياً. وفي نفس هذا اليوم ذهبنا لنعيش معه في ليما. كنت في الحادية عشرة، ومنذ ذلك الحين، تغير كل شيء. فقدتُ براءتي واكتشفت العزلة، السلطة، الحياة البالغة والخوف. نجاتي الوحيدة كانت القراءة، قراءة الكتب الجيدة، الاحتماء بعوالم مجيدة للحياة، كثيفة، مغامرة وراء أخري، حيث أشعر بنفسي حراً وأعود لسعادتي. وكانت الكتابة، في الخفاء، كمن يسلم نفسه لخطيئة لا يمكن الاعتراف بها، لوله محرم. وكف الأدب عن كونه لعبة. وأصبح طريقة لمقاومة التنافس، للاعتراض، للتمرد، للهروب مما هو غير متسامح، صار سبب حياتي. ومنذ ذلك الحين وحتي الآن، في كل الظروف التي أجدني مهزوماً ومسحوقاً، علي ضفاف اليأس، كان تسليم نفسي قلباً وقالباً إلي عملي كحكاء حكايات هو الضوء الذي يشير لي إلي المخرج من النفق، طوق النجاة الذي يحمل الغريق إلي الشاطيء.
وبرغم أن عملي يرهقني ويستنزف عرقي، ومثل كل كاتب أشعر أحياناً بتهديدات العجز، وبجفاف الخيال، لم أجد متعة في الحياة تضاهي قضائي شهور وسنوات وأنا أبني حكاية، بدءً من أولها غير المحدد، هذه الصورة التي خزنتها الذاكرة من تجربة ما قد عشتها، حتي صارت هاجساً، حماساً، خيالاً يتنامي بعدها في مشروع وفي قرار لمحاولة تحويل هذا الضباب المرتجف للأشباح."الكتابة أسلوب حياة"، قال فلوبير. نعم، صحيح جداً، أسلوب حياة مع الوهم والسعادة ونار متقدة في الرأس، معركة مع الكلمات العاصية حتي تقودها، اكتشاف العالم العريض كصائد يبحث عن غنائم مرغوب فيها ليغذي خياله علي صغارها ويسترضي هذه الشهية النهمة بحكاية عندما تنمو يريد أن تبتلع كل الحكايات. الوصول للإحساس بالدوران الذي تقودنا إليه رواية أثناء اعدادها، عندما تتخذ شكلاً ويبدو أنها بدأت في حياتها الخاصة، بشخصياتها التي تتحرك، وتتصرف، وتفكر، وتشعر، وتطلب احتراماً وتقديراً، شخصيات لا يصح أن نفرض عليها تعسفاً أي سلوك، ولا حرمانها من إرادتها الحرة إلا بقتلها، دون أن تفقد الحكاية قدرة الاقناع، تجربة لا زالت تسحرني مثل المرة الأولي، تجربة كاملة ودائخة مثل ممارسة الحب مع المحبوبة لأيام وأسابيع وشهور، بلا توقف.

عند الحديث عن الخيال، تحدثت كثيراً عن الرواية وقليلاً عن المسرح، أحد أشكاله السامية. إنه لظلم عظيم، بالطبع. كان المسرح حبي الأول، منذ شاهدت وأنا مراهق، في مسرح سيجورا بليما، مسرحية "موت رحالة" لآرثر ميللر، وكان عرضاً تركني مثقوباً بالعاطفة فأسرعت لأكتب دراما عن أهل الإنكا. لو كانت في ليما حركة مسرحية في الخمسينيات لكنت كاتباً مسرحياً قبل أن أكون روائياً. لم يكن، وهذا اضطرني أن أوجه دفتي كل مرة أكثر نحو السرد. لكن حبي للمسرح لم ينطفيء أبداً، نام مكوماً علي ظل رواياتي، كوسواس ونوستالجيا، خاصة عندما أشاهد مسرحية آسرة. في نهاية السبعينيات، الذكري الملحة لأخت جدتي المئوية، لا مامئي، التي في سنوات عمرها الأخيرة قاطعت الواقع المحيط لتحتمي بذكرياتها وخيالها، ألهمتني حكاية. وشعرت بشكل مصيري أن هذه الحكاية تصلح للمسرح، وأنه فقط علي خشبة المسرح يمكن الحركة والانبهار بالخيالات المصنوعة. كتبتها برجفة المبتديء المثار وتمتعت كثيراً وأنا أشاهدها، بتمثيل نورما ألياندرو في دور البطلة، ومنذ ذلك الحين، بين رواية ورواية ومقال ومقال، كنت أعيد تنكيسها مرات عديدة. هذه حقيقة، لم أتخيل أبداً أنني في عامي السبعين قد أصعد( يجب أن أقول بعبارة أفضل:يسحبونني) إلي خشبة مسرح لأمثل. هذه المغامرة المتهورة جعلتني أعيش لأول مرة لحماً وعظماً معجزة تجسيد شخصية خيالية لعدة ساعات، هي كذلك بالنسبة لشخص قضي حياته يكتب خيالاً، والآن يعيشه أمام الجمهور. لن أستطيع ابداً أن أوفي الشكر الواجب لصديقي العزيزين، المخرج خوان أوليه والممثلة أيتانا سانتشيث خيخون، علي تشجيعهما لي لمشاركتهما هذه التجربة الرائعة(رغم الرعب الذي انتابني).

الأدب تمثيل خادع للحياة ومع ذلك يساعدنا بطريقة أفضل علي فهمها، وعلي توجيهها في المتاهة التي نولد فيها ونحيا ونموت. الأدب يصحح لنا النكسات والاخفاقات التي تلحقها بنا الحياة الحقيقية وبفضله نفك شفرات الهيروغليفية، ولو بشكل جزئي، والذي يمثله الوجود عادة بالنسبة لأغلب الناس، خاصة هؤلاء الذين يتغذون علي الشك أكثر من اليقين، ونعترف بحيرتنا أمام موضوعات مثل التجلي، والمصير الفردي والجماعي، والروح، والشعور وعدم الشعور بالتاريخ، والحياة الأخري، والأبعد عن المعرفة العقلانية.
دائماً ما بهرتني هذه الظروف المضطربة التي فيها بدأ أجدادنا ابتداع الحكايات وسردها، حينما لم يكونوا قد اختلفوا كثيراً عن الحيوانات، وكانت اللغة حديثة الولادة لتسمح لهم بالاتصال، فعلوا ذلك في الكهوف وحول المواقد، في الليالي التي تغلي بالتهديدات-الأشعة، بالرعد، بهمهمات الحيوانات المفترسة. كانت هذه اللحظة القاسية في مصيرنا، لأنه في جولات الكائنات البدائية المرتبطة بصوت الحكاء وخياله، بدأت الحضارة، الانتقال الطويل الذي رويداً رويداً أنسننا وساقنا لابتداع السيادة الفردية والانفصال عن القبيلة، وساقنا للعلم والفنون والحقوق والحرية، ولفحص دواخل الطبيعة والجسد البشري والفضاء والسفر للنجوم. هذه القصص، الحكايات، الأساطير، الحواديت، التي رنت في المرة الأولي كموسيقي جديدة أمام مستمعين مرعوبين من ألغاز ومخاطر عالم كل ما فيه مجهول وخطير، لابد أنها كانت حماماً بارداً، موضع راحة لهذه الأرواح التي تعيش دوماً داخل جسد كل ما يعرفه عن الوجود الأكل وحماية محصوله والقتل والجنس. ومنذ بدأوا يحلمون جماعةً، واقتسموا أحلامهم، متحفزين من قبل حكائين الحكايات، هجروا الدوران في ساقية الحياة، وطاحونة الأعمال المنزلية المسفة، وصارت حياتهم حلماً، متعة، خيالاً، وخطة ثورية:كسر هذا الحبس والتغيير والتحسين، وكفاح من أجل إرضاء تلك الرغبات والطموحات التي كانت تسوط حياتهم المتخيلة، والفضول من أجل مسح الجهل عن الأشياء التي تحيط بهم.
وأثريت هذه العملية التي لم تنقطع أبداً عندما ولدت الكتابة وأمكن، بالإضافة لسماع الحكايات، قراءتها وحققت الاستمرارية التي منحها لها الأدب. ولهذا، علينا أن نكرر بلا هدنة حتي تقتنع الأجيال الجديدة: الخيال أكثر من تسلية، أكثر من ممارسة عقلية تشحذ الإحساس وتيقظ الروح الناقدة. إنه ضرورة لا غني عنها لتواصل الحضارة وجودها، لتتجدد وتحدث فينا أجمل ما هو إنساني. حتي لا نعود لهمجية العزلة وتتضاءل الحياة في براجماتية المتخصصين الذين يرون الأشياء بعمق لكنهم يجهلون ما يحيط بها، ما يسبقها ويستمر. حتي لا نتحول من الاستفادة بالماكينات التي اخترعناها إلي خدامها وعبيدها. ولأن عالماً بلا أدب عالم بلا رغبات ولا مثاليات ولا ازدراءات، عالم من الربوتات الخاصة لا تفعل ما يجب أن يفعله الإنسان الحقيقي: القدرة علي الخروج من ذاته والانتقال في الآخر، في الآخرين، المخلوقين بصلصال أحلامنا.
من الكهف إلي ناطحات السحاب، من المشنقة إلي أسلحة الدمار الشامل، من حياة الحشو القبلية لزمن العولمة، ضاعفت خيالات الأدب الخبرات الإنسانية، مانعة الرجال والنساء من الاستسلام للسبات، للامتصاص، للخضوع. لاشيئ زرع الأرق، بتحريك الخيال والرغبات، كما فعلت حياة الأكاذيب تلك التي أضفناها لحياتنا بفضل الأدب لنكون أبطال المغامرات العظيمة والعواطف الكبيرة التي لا تهبها لنا الحياة الحقيقية أبداً. لقد صارت أكاذيب الأدب حقائق من خلالنا، نحن القراء المتحولين، الملوثين بالأشواق، وبسبب الخيال نظل في سؤال مستمر مع الواقع المتوسط. ومثل السحر، عندما نحلم بامتلاك ما لا نمتلكه، بأن نكون ما لم نكونه، والدخول لهذا الوجود المستحيل حيث، مثل آلهة وثنية، نشعر أننا أرضيون وخالدون في نفس الوقت، يدخل الأدب في أرواحنا عدم الرضا والتمرد، القابعة خلف كل البطولات التي شاركت في تقليل العنف في العلاقات الإنسانية. تقليل العنف، لا القضاء عليه. لأن حكايتنا، لحسن الحظ، حكاية بلا نهاية. من أجل هذا علينا أن نواصل الحلم، القراءة، الكتابة، فهذه هي أفضل طريقة عثرنا عليها لتخفيف طبيعتنا الإبادية، وهزيمة سلطة الزمن وتحويل ما هو مستحيل إلي ممكن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.