لتفادي الغرامة والحبس.. طريقة التصالح في جرائم سرقة التيار بقانون الكهرباء    أسعار اللحوم والأسماك والخضروات والدواجن اليوم الثلاثاء 23 ديسمبر    ترامب يؤكد الاحتفاظ بناقلات النفط المصادرة من فنزويلا    إدارة ترامب توقع اتفاقيات صحية مع 9 دول أفريقية    المخرجة إنعام محمد علي تكشف كواليس زواج أم كلثوم والجدل حول تدخينها    أليك بالدوين في عين العاصفة مجددًا... قضية Rust تعود وتثير قلقًا واسعًا على حالته النفسية    كسر الرقم التاريخي السابق، سعر الذهب يصل إلى مستوى قياسي جديد    عمر مرموش يؤكد: فوز منتخب الفراعنة على زيمبابوي أهم من أي إنجاز فردي    أحمد التهامي يحتفل بفوز منتخب الفراعنة ويُوجه رسالة ل محمد صلاح    ارتفاع صاروخي لأسعار النفط مع تصاعد التوترات الجيوسياسية    الرئيس الفنزويلي: الطاقة يجب ألا تتحول إلى سلاح حرب    "بسبب غاز السخان" النيابة تحقق في وفاة عروسين    أمم أفريقيا 2025| بهذه الطريقة احتفل محمد صلاح ومرموش بالفوز على زيمبابوي    اليوم، بدء إعادة جثامين 14 مصريا ضحايا غرق مركب هجرة غير شرعية باليونان    إلهام شاهين تتصدر جوجل وتخطف قلوب جمهورها برسائل إنسانية وصور عفوية    زينة منصور تدخل سباق رمضان بدور مفصلي في «بيبو»... أمومة على حافة التشويق    أجواء شديدة البرودة والصغرى 12 درجة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم    بعد ارتدائها البدلة الحمراء.. محامي ضحية ابنتها ببورسعيد يكشف موعد تنفيذ حكم الإعدام في المتهمة (خاص)    استشاري تغذية علاجية بالفيوم ل"أهل مصر": دودة الطماطم خطر صحي وآفة زراعية.. ولا علاقة لها بالقيمة الغذائية    حين تضطر أم لعرض أطفالها للتنازل: ماذا فعلت سياسات السيسي بالمصريين؟    بيسكوف: لا أعرف ما الذي قصده فانس بكلمة "اختراق" في مفاوضات أوكرانيا    مواطن يستغيث من رفض المستشفي الجامعي طفل حرارته عاليه دون شهادة ميلاده بالمنوفية    مشروع قومى للغة العربية    نقابة أطباء الأسنان: أعداد الخريجين ارتفعت من 45 إلى 115 ألفا في 12 عاما فقط    «المستشفيات التعليمية» تعلن نجاح معهد الرمد والسمع في الحصول على اعتماد «جهار»    رئيس هيئة المستشفيات التعليمية يُكرّم مساعد وزير الصحة للمبادرات الرئاسية    استكمال الاختبار التجريبي لطلاب الصف الأول الثانوي على منصة كيريو في محافظات الجمهورية يوم 23 ديسمبر    المؤبد والمشدد 15 سنة ل 16 متهماً ب «خلية الهيكل الإدارى بالهرم»    أمم إفريقيا - مؤتمر حسام حسن: كنت أحمل هم الجماهير في مصر.. وصلاح يصنع الفارق    أمم أفريقيا 2025| وائل القباني: منتخب الفراعنة قدم أداء جيدًا.. وهناك عيب وحيد    حسام حسن: حدث ما توقعته «صعبنا الأمور على أنفسنا أمام زيمبابوي»    بالصور.. مدير محطة حدائق الأهرام بالخط الرابع للمترو: إنجاز 95% من الأعمال المدنية    بالانتشار الميداني والربط الرقمي.. بورسعيد تنجح في إدارة انتخابات النواب    فرقة سوهاج للفنون الشعبية تختتم فعاليات اليوم الثالث للمهرجان القومي للتحطيب بالأقصر    استغاثة عاجلة إلى محافظ جنوب سيناء والنائب العام    شعبة الاتصالات: أسعار الهواتف سترتفع مطلع العام المقبل بسبب عجز الرامات    مصرع شخص صدمته سيارة نقل أثناء استقلاله دراجة نارية فى المنوفية    حماية القلب وتعزيز المناعة.. فوائد تناول السبانخ    ما هي أسباب عدم قبول طلب اللجوء إلى مصر؟.. القانون يجيب    القانون يضع ضوابط تقديم طلب اللجوء إلى مصر.. تفاصيل    ليفربول يحتفل بأول أهداف محمد صلاح مع منتخب مصر فى كأس أمم أفريقيا    القصة الكاملة لمفاوضات برشلونة مع الأهلي لضم حمزة عبد الكريم    ليفربول يعلن نجاح جراحة ألكسندر إيزاك وتوقعات بغيابه 4 أشهر    وزير الدفاع الإيطالي: روما مستمرة في دعم استقرار لبنان وتعزيز قدرات جيشه    فرحة أبناء قرية محمد صلاح بهدف التعادل لمنتخبنا الوطني.. فيديو    بعد 5 أيام من الزفاف.. مصرع عروسين اختناقًا بالغاز في حدائق أكتوبر    فولر ينصح شتيجن بمغادرة برشلونة حفاظا على فرصه في مونديال 2026    هيئة الدواء: متابعة يومية لتوافر أدوية نزلات البرد والإنفلونزا خلال موسم الشتاء    ستار بوست| أحمد الفيشاوى ينهار.. ومريم سعيد صالح تتعرض لوعكة صحية    «الشيوخ» يدعم الشباب |الموافقة نهائيًا على تعديلات «نقابة المهن الرياضية»    فضل صيام شهر رجب وأثره الروحي في تهيئة النفس لشهر رمضان    رمضان عبدالمعز: دعوة المظلوم لا تُرد    ميرال الطحاوي تفوز بجائزة سرد الذهب فرع السرود الشعبية    "يتمتع بخصوصية مميزة".. أزهري يكشف فضل شهر رجب(فيديو)    برلمانية الشيوخ ب"الجبهة الوطنية" تؤكد أهمية الترابط بين لجان الحزب والأعضاء    جامعة قناة السويس تعتلي قمة الجامعات المصرية في التحول الرقمي لعام 2025    قصة قصيرة ..بدران والهلباوى ..بقلم ..القاص : على صلاح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 22-12-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صوت العرب من القاهرة "الحلقة 36"
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 17 - 03 - 2010

هنا أسأل: ألم يدرك عبدالناصر أن البترول في كل مكان عربي لا يمكنه أن يمر، إلا من خلال شركات عالمية؟ هل باستطاعة أحد توظيف البترول العربي لأي مسائل قومية وأي عمل قومي، والبترول ليس بأيادينا العربية؟ هل المسألة لعبة أطفال في أن تمنحني أشياء غير مسيطرين عليها، وإذا لم تمنحني ذاك أزعل عليك!؟ هل من البساطة بمكان أن نبقي حتي بعد اكثر من خمسين سنة نعيش أوهاما وخيالات كوننا نفشل مخططات السياسة الأمريكية والبريطانية؟ وهل تعتقد ياهيكل أن ما حدث من انقلابات عسكرية في النصف الثاني من القرن العشرين كانت تمثل ارادات حرة في كل البلدان العربية؟ أم أنها جميعا صناعة أمريكية من دون استثناء؟
إن البترول لم يعزل عن قضايا العرب أبدا، فلقد وقف العراق منذ الخمسينيات مواقف إيجابية إزاء تحرر بلدان المغرب العربي، ودوره كبير في القضية الجزائرية منذ العام 1954 وباعتراف الجزائريين أنفسهم.. إن كانت القاهرة يا هيكل الأم الرءوم للقضايا العربية طوال القرن العشرين، فعليك ألا تنسي أدوار عواصم عربية أخري لإثراء تلك القضايا من أجل التحرر والتقدم.. لا تنس دور بغداد أبداً مهما كان نظام الحكم فيها ملكيا كان أم جمهوريا.. لا تنس أو تتناسي دور دمشق بكل ما حفل به من تحديات.. لا تنس دور بيروت إزاء اثراء الوعي.. لا تنس دور تونس وليبيا والمغرب في الثورة الجزائرية.. لا تنس ادوار آخرين في ثورة ظفار.
إن العشرات بل المئات من المناضلين والطلبة التوانسة والجزائريين والمغاربة كانوا قد توزعوا في كل من القاهرة وبغداد ودمشق للعمل السياسي والدراسة. صحيح أن الرئيس عبدالناصر قد وقف وقفاته المشرفة إزاء الجزائر، ولكن علينا ألا ننسي أدوار المثقفين والمبدعين والشعراء والفنانين العرب قاطبة.. سواء كانوا عراقيين أو مصريين أو سوريين أو لبنانيين وغيرهم من قضية الجزائر وثورتها التي ايدها الجميع. قليلا من الانصاف يا هيكل، فالتاريخ لا يصنعه الفرد مهما بلغت درجة بطولته، ومهما بلغت مراقي قداسته.. التاريخ تصنعه الشعوب والعرب يدركون معني العمل القومي منذ بداياته الأولي في سوريا والعراق، ثم تطور نزعته الساخنة من خلال المنتديات والجمعيات والصحافة والثقافة في العراق إبان الثلاثينيات والاربعينيات وحركة 1941 القومية في العراق هي التي استمد منها الثوار العرب، ومنهم جمال عبدالناصر وانور السادات كما كتب الرئيس السادات ذلك في مذكراته دروسا وعبرا حتي سموه (بروسيا العرب)، وصولا إلي انبثاق الأحزاب الثورية والاشتراكية العربية في الاربعينيات، ووصولا إلي الخمسينيات وتبلور الحركة الناصرية جنبا إلي جنب ولادة البعثيين منذ العام 1948 في سوريا، وانبثاق حركة القوميين العرب في لبنان بعد الذي حصده عبدالناصر عام 1956.
صوت العرب من القاهرة
ينتقل هيكل للدفاع عن اذاعة صوت العرب مع اعتراف منه بمثالبها، قائلا: "في ذلك الوقت بدأ نداء مصر يصل إلي المغرب العربي عن طريق صوت العرب، أنا عارف إن صوت العرب فيه ناس كثيرة قوي عملوا عليه حملات، لكن أنا بأترجي الناس تفرَّق كثيراً قوي، يعني أنا.. فيه بعض الأشياء أنا مش معجب بها في صوت العرب، لكن عايز أقول إن صوت العرب في لحظة من اللحظات خصوصاً في هذه الفترة من التاريخ.. مرات إحنا بنحط كل المراحل مع بعضها ونحكم بآخر حاجة شفناها بآخر مشهد شفناه، لكن صوت العرب عمل دوراً في يقظة المغرب العربي بالتحديد وفي مقاومة الاستعمار في الخليج وفي الجنوب العربي في اليمن وفي مخططات حلف بغداد فيما بعد، دور لا يعوض ولا ينسي.." (انتهي النص).
دعني أحاججك يا هيكل، وأنا لست من الناس الذين كما وصفتهم " بنحط كل المراحل مع بعضها ونحكم بآخر حاجة شفناها.."، بل أدرك سمة كل مرحلة من المراحل. ولم أزل أصغي لإذاعة صوت العرب حتي يومنا هذا، ولكن شتان بين إذاعة يسيرها العقل والعقلاء، وبين إذاعة كان يسّيرها المجانين! نداء مصر كان يصل إلي المغرب العربي ليس عن طريق صوت العرب وحده، بل كان صوتها يصل إلي كل بقعة عربية وغير عربية في المنطقة.. كونها واسطة العقد الثمين.. ودور مصر مركزيا بدليل أنها ضمت مؤسسة جامعة الدول العربية منذ العام 1945.. وأن مصر لم تكن مركزا سياسيا فقط، بل كانت مركزا ثقافيا وعلميا وإعلاميا وفنيا.. كانت مصر قد نشرت نفسها في المنطقة منذ عهد الملك فؤاد الاول.. وكان أشهر الفنانين والأدباء فيها قد زاروا جملة من البلدان العربية وتغنوا بها.. لقد تغّني الموسيقار عبد الوهاب بنهر دجلة والملك فيصل الاول منذ العشرينيات في القرن العشرين.. وكان للإمام محمد عبده دوره في تونس والجزائر.. وكان أمير الشعراء قد زار تونس والجزائر.. كان الوعي المغاربي بالعروبة قد تبلور منذ زمن بعيد من القرن العشرين.. وكانت الأحزاب الجزائرية، وخصوصا الراديكالية منها قد طرحت الاسلوب الثوري قبل الخمسينيات.. لا أقلل من شأن صوت العرب في الإثارة ومتابعة الثوار، ولكن لا يمكن لإذاعة صوت العرب أن تحتكر تاريخ العلاقات العربية المغاربية.. ولا يمكن لأي مسئول عربي أن يحتكر ذلك التاريخ باسمه ايضا.. كنت أتمني عليك يا هيكل أن توضح لقرائك وسامعيك ومشاهديك ما هي الاشياء التي لم تعجبك في صوت العرب حتي تكون منصفا؟ ما الأشياء تلك يا تري؟ الاكاذيب الرخيصة، أم التحريض علي العنف، أم الشتائم المقذعة، أم الشماتة بمصير عوائل مالكة حيث سحلت اجسادهم في الشوارع.. أم اذاعة البيانات المفبركة؟ أم الادعاء بالانتصارات الوهمية؟ أم اذاعة الشعارات الطوباوية؟ أو التهريج لمهرجات الموت؟ ما الأشياء التي اعترضت عليها ولم تقلها؟ كنت أتمني عليك وقد امضيت تجارب عدة لأكثر من خمسين سنة أن تدين تاريخيا وبشكل سافر وعلني بلا خوف ولا وجل ما قامت به اذاعة صوت العرب.. ما مبلغ الضرر الذي لحق بالعرب كلهم جراء ما فعلته من غسل للاذهان وتميه للعقول؟ كان عليك أن تقول كلمة للتاريخ وتدين مرحلة تاريخية عشناها بكل افتراءاتها وشعاراتها وبكل كبريائها وشموخها.. كان عليك أن تكون منصفا وحياديا بين زمنين اثنين.. زمن اوهمونا بأنه عظيم وثوري ونظيف واستقلالي وتقدمي واشتراكي وقومي.. وزمن ولد في مخاضه وهو يحمل كل الامراض والفاقة والعوز والتشتت والدكتاتوريات وحكم الافراد مع التمزق وضياع الهيبة وانحدار الاخلاق.. ابعد هذا نبقي نطبّل ونزمّر لإذاعة عريقة لها تاريخ عربي، ولكنه مغرق بالأخطاء مع احترامي لها اليوم، وقد كنت ضيفا عليها لأكثر من مرة قبل سنوات.
مخاض صوت العرب
كنا نسمع صوت العرب عندما كنا اطفالا.. وتكاد تكون أشهر إذاعة عربية تبث من قلب القاهرة، وهي تبشّر بالقومية العربية التي يعد جمال عبدالناصر رائدها.. وهي لم تكن تذيع بياناتها واعلاناتها وبرامجها وأخبارها من دون علم السلطات المصرية، وبالذات بتوجيه خاص من الرئيس عبدالناصر.. وعندما انطلقت عام 1953، كانت توجه نداءاتها التحررية إلي الشعوب المستعمرة، وبالذات في المغرب العربي، ولكنها في العام 1955، بدأت تتخذ لها مسارا آخر، إذ كانت تهاجم ليل نهار الانظمة السياسية العربية التي لم تنسجم وافكار عبدالناصر التحررية الثورية.. دعوني هنا اتوقف عند هذه الظاهرة التاريخية التي شغلت حيزا كبيرا من تفكير العرب ومشاعرهم ونزوعاتهم السياسية.. بل كان لصوت العرب تأثير بالغ في قيام انتفاضات ونشوب انقلابات واندلاع ثورات.. ولكنها انتكست بشكل عميق عام 7691.
كانت إذاعة صوت العرب محطة مصرية تبث من القاهرة، وقد تم إنشاؤها في 4 يوليو 1953، أي علي عهد الرئيس محمد نجيب الذي خالفه جمال عبدالناصر، وتّم اقصاؤه وحدد اقامته الجبرية في منزله وتسلم مقاليد الحكم لوحده في 14 نوفمبر 1954. لقد لعبت صوت العرب دوراً دعائيا بارزاً في بث خطب الرئيس عبدالناصر واجراءاته الداخلية، ثم التفت إلي قضايا تحرير شمال أفريقيا وعدن في جنوب اليمن.
لقد كانت صوت العرب الاداة الحقيقية لشهرة عبدالناصر في عموم البلدان العربية، ولقد غدت المعّبر السياسي له.. وكان يتابعها بنفسه يوما بيوم، ويزيد من امكاناتها.. فكان أن دعت إلي افكار التحرر والنضال والقومية العربية ومحاربة الاستعمار وما سمته بالرجعية. كان تأثيرها يزداد قوة يوما بعد يوم، كونها غدت الصوت المعّبر عن الضمير القومي، وخصوصا عندما كانت تعلن عن صوت مجاهدي الجزائر والمغرب وتونس وتوجيه رسائل مشّفرة من خلالها إلي جبهات الحرب.
ومنذ العام 1955، بدأت صوت العرب تستخدم اللغة الجارحة والتعابير الكاريكاتيرية ضد الحكام والملوك الذين لا تتوافق آراؤهم مع الرئيس جمال عبدالناصر.. لقد كانت صوت العرب سوطا الهب مشاعر الناس ضد انظمة حكم متعددة إبان الخمسينيات، وخصوصا ضد العراق والاردن والسعودية.. ولم يقتصر الامر علي انظمة ملكية فقط، بل راحت تسّب وتشتم أنظمة جمهورية قامت في العراق وسوريا وغيرهما. وكان صوت مديرها أحمد سعيد ينتشر في الآفاق ليدخل كل بيت وكل زقاق! كما ساهمت في مباركة الوحدة المصرية السورية، وتهييج العواطف القومية.. كانت أيضا ضد إسرائيل ومن كانت تسميهم بعملاء إسرائيل.. كان أحمد سعيد يعّلق تعليقات جارحة ويشمت بمن يقتل أو يسحل أو يعدم.. كان يؤجج الشارع السياسي علي درجة من القوة والاحتدام.. كلّ في بلده أو مدينته. قيل أن ناظم الطبقجلي اشتكي لزوجته التي كانت تزوره في السجن، وأن توصل رسالة إلي عبدالناصر تترجاه أن يخفف أحمد سعيد في صوت العرب من شتم عبد الكريم قاسم باسم الدفاع عن ناظم الطبقجلي الذي اعدم عام 1959. وكل العراقيين يتندرون حتي يومنا هذا أن أحمد سعيد أذاع مهتاجا وهو يدافع عن شرف المناضلة حسنة ملص في العراق.. ونبين أن بعض العراقيين أرسلوا رسالة إلي أحمد سعيد وطالبوه باسم الشرف العربي دفاعه عن هذه المرأة المجاهدة، ولم تكن حسنة ملص إلا إحدي أشهر العاهرات والقوادات في العراق!
صوت العرب: سلبياتها أحرقت إيجابياتها
ولكن جاءت نهايته بعد الأكاذيب التي بثها علي أمواج الاثير في حرب 1967، وشاركه الاستاذ هيكل بالمانشيتات العريضة علي صفحة الأهرام، ولم يكتشف الناس تلك المفبركات إلا بعد زمن قصير، وخصوصا بعد أن تكشفت حقائق الفاجعة التاريخية الكبري.. إن صوت العرب قد هدأت منذ تلك اللحظة التاريخية، وإذا كان عبدالناصر قد أخرج احمد سعيد من ادارته لها، إلا أن الإذاعة نفسها بقيت حية ومخصبة ولقد تميزت بعد ذلك بهدوئها وطبيعتها المسالمة إزاء كل الأطراف. وكنت أتمني علي هيكل أن يقف وقفة مطولة عند إذاعة صوت العرب، ويعترف اعترافا حقيقيا بالأخطاء التي اقترفتها إذاعة صوت العرب إلي جانب الإيجابيات التي مارستها بقوة ونصاعة.
يقول الصحفي المخضرم سمير عطا الله وهو ينتقد محمد حسنين هيكل: "لا يجوز وفق مبادئ التاريخ أن يكون الرجل المطّلع والمضطلع، انتقائيا. لا في اختيار الوثائق والنصوص، ولا في اعادة قراءة ما يعرفه تماما من التاريخ. أي مجموعة المحادثات (والمعاهدات) التي عقدها الملك فيصل مع الرئيس جمال عبدالناصر، حول العلاقات الثنائية، ومن ثم حول اليمن. وجميع تلك المحادثات والمعاهدات تثبت أن الملك فيصل رمي إلي اقامة افضل وأعمق علاقة مع مصر، وقوبل دائما بصوت أحمد سعيد الذي جعل نفسه "صوت العرب"... وكان الرد عليه دائما في صوت أحمد سعيد، بل القي عبدالناصر نفسه خطبا تجرح تجريحا شخصيا في فيصل بن عبد العزيز وفي لحيته وفي قضايا أخري" (الشرق الأوسط، 1 فبراير، 2008).
أحمد سعيد : من يكون؟
إذاعي شهير وصحفي قديم، ولد عام 1950، فهو من جيل محمد حسنين هيكل، لكنه حاصل علي شهادة حقوق عكس هيكل الذي لم يحصل علي أي شهادة. وكان أحمد سعيد قد التحق بالإذاعة بوصاية من استاذه د. حامد زكي المحامي، فاشتغل عام 1950 سكرتيراً قانونياً لمدير الاذاعة المصرية. قدم أول برنامج اذاعي سياسي عام 1951، وكان بيده الميكروفون ايام العمليات الفدائية عند قناة السويس قبل 23 يوليو، وسمع الملك فاروق مطلع عام 1952، فأسند إليه بواسطة سكرتيره كريم ثابت التغطية الإعلامية لجريمة قتل الراهبة سستران التي قتلت خطأ ضد البريطانيين عند القناة، ولكن ظروفا صعبة منعته من العودة للقنال. أبعد عن عمله في الإذاعة إثر حريق القاهرة نهاية يناير 1952 رفقة طاقم من الإذاعيين، حتي مايو 1952 إثر اتهامه باثارة الجماهير علي الفوضي. ويقال إنه التقي عبدالناصر بعد 23 يوليو عندما كان عبدالناصر مديرا لمكتب محمد نجيب... وقد اعتمد عليه وعلي برنامجه في صوت العرب، وطلب منه عبدالناصر أن يلتفت إلي الشئون العربية عبر صوت العرب. ويبدو أن علاقته قد ترسخت مع جمال عبدالناصر قبيل تسلمّه السلطة في مصر عام 1954.
لقد قرأت أنه لم يبرئ نفسه من الكذب والمبالغة بانتصارات وهمية كان يذيعها علي الناس إبان حرب 1967 التي ألحقت بالعرب هزيمة نكراء، وهو لم يغسل يديه من صنع تلك الهزيمة.
مقارنة بين موقفين: بين هيكل وأحمد سعيد
بالمقارنة مع هيكل، الأمر يختلف، فالاخير لم يعترف بأخطائه التي ارتكبها عام 1967، ودوره في كتابة مقالات وعرض مانشيتات كاذبة لا اساس لها من الصحة ابدا! أحمد سعيد يقول: لم ابرئ نفسي، ولكن ما دور الإذاعة؟ متسائلا: هل هي جزء من الدولة.. أم هي جزء منفصل عنها.. أم هي جزء من نسيج متكامل؟ ويبرر فعلته بمهمة الاعلام تكمن بالحفاظ علي نوع من أنواع التماسك للجماهير داخل مصر وخارجها. الأمر مختلف عند هيكل الذي لا يريد الاعتراف بحجم الكارثة ابدا، ومساهمته في صنعها اعلاميا ودعائيا ! أحمد سعيد يستفهم متسائلا : هل كنت استطيع رفض اذاعة البيانات العسكرية؟ أو أن أقول إنها بيانات كاذبة؟ أنا كنت جنديا، ينفذ أوامر القيادة. إنه بالمقارنة مع هيكل أجده يختلف تماما، فهو يعتبر نفسه جنديا ويستلم أوامر، في حين هيكل لا يعتبر نفسه جنديا، بل يعتبر نفسه منظرا ومخططا ويرسل بالأوامر التي تنفذها القيادة وعلي رأسها عبدالناصر! هذا هو الفرق بين أكبر رجلي إعلام علي عهد الرئيس عبدالناصر! أحمد سعيد لا يزعجه أنه القي بيانات كاذبة وصلته، ولكن ازعجه أنه عاش هزيمة نكراء لم يعقبها أي انتصار سياسي كما حدث عام 1956.. في حين لم ينزعج هيكل من تلك الفجيعة ابدا.. بل حولها من هزيمة إلي نكسة.. ولم نخسرها حربا، بل خسرناها معركة! الفرق بين الرجلين أن الأول أكثر مصداقية من الثاني! بل ويتهم الأول الثاني بقوله: "قضيتي الشخصية لا تهمني، فنحن جميعا إلي زوال، خاصة أن جميع الصحف كذبت معي، ولم اكذب بمفردي، ولا أعرف لماذا ينسب الي وحدي الكذب"! وإذا كان الإذاعي الشهير أحمد سعيد قد قدم استقالته في يونيه 1967 مع نفيه وصفها إقالة أو اجباراً علي الاستقالة، إلا أن هيكل قد تمادي بعد الهزيمة، ولم يقدّم استقالته حفاظا علي كرامته وشرف مهنته ! يقول احمد سعيد: "إنني قلت الحقائق بصوتي، عن هزيمة يونيه 1967 للجماهير العربية، في 13 يونية 1967. وكان هذا بداية الصدام أو الخلاف مع الرئيس عبدالناصر، لأنه بعد ذلك فرضت علي رقابة، بحيث لا أذيع شيئاً دون مراجعته"، ويضيف: "كانت وجهة نظري مفادها، أن الهزيمة ليست هزيمة جيش، ولكن هزيمة نظام، وهذه الرؤية أزعجت الرئيس عبدالناصر، ووقعت عدة تداعيات، وصلت إلي أن صورة البطل في عيني لم تبق كاملة، وفهم الرئيس عبدالناصر ذلك، فكانت هناك استحالة، فكتبت استقالتي". هذا الرجل هو غير هيكل.. انه اخطأ واعترف، بل لم يقتصر الامر علي ذلك، بل حدث لديه انفصام بين رؤيته للأمور وبين رؤية جمال عبدالناصر.. لقد اختار أن ينعزل في حين ازداد محمد حسنين هيكل ارتقاء وتماديا، ليس علي عهد عبدالناصر وحده، بل علي عهد الرئيس انور السادات، ويبدو أن الرئيس السادات كان يدرك من يكون هيكل..
انتظروا الحلقة المقبلة
الكاتب.. مفكر عربي عراقي مقيم في كندا
وأستاذ في جامعات عربية وأمريكية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.