بقلم: بشار طافش الفرنسي "بونوا" الذي اختفى عن الأنظار في ظروف غامضة في شهر مايو-أيار من العام 1792، لم يكن يهتم لأمر إختفائه أحدا غير زوجته وطفليه اللذان لم يبلغان السابعة من عمرهما بعد، وقليل جدا من الجيران والأصدقاء والمعارف. كانت فترة فوضوية جهنمية مجنونة، إبان الثورة الفرنسية عقب إقتحام سجن "الباستيل" في 14-يوليو من العام 1789، كثيرون هم الذين اختفوا فجأة كبونوا المسكين هذا، خلال تلك الفترة التي عبر عنها كتاب ومؤلفون بأنها "فترة إعتقدنا بأنها نهاية العالم لا وبل نهاية الجنس البشري". الكثيرون اليوم ما زالو يعتقدون بأن الفوضى المجنونة والمحمومة كانت في فرنسا بين الفترة من 1789 إلى 1799 وهي الفترة التي شهدت الإضطرابات السياسية والإجتماعية، لكنها في الواقع استمرت قرابة المئتي عام بأشكال متفاوتة من الإضطراب والفوضى على كافة الأصعدة السياسية والإجتماعية وحتى الإقتصادية والإنسانية حتى ركدت في النهاية الثورة وآثارها، الأمر الذي دفع بآلاف مؤلفة من الفرنسيين الذين وضعوا حدا لحياتهم وباختيارهم، وكثرا منهم ترك تلك الرسائل التي تشرح أسباب إنتحارهم كما فعل "بونوا المسكين" حين وجد جثته أحد الفلاحين الفرنسيين متحللة بعد عامين على إختفائة، وفي الجيب الداخلي للبالطو الذي كان يرتديه بونوا المسكين كانت رسالة محكمة التغليف تقول "بأن بونوا لم يعد قادرا على رؤية بلده فرنسا وهي ينتهي بها المطاف من ظلم الملكية إلى رعونة الجمهورية وإجرام الديكتاتوريين الجدد الذين تنكروا وسيتنكر غيرهم للثورة، وأنه بونوا لا يقوى أيضا على رؤية أبنائهة وقد كبروا وترعرعوا في الذل". مسكين يا بونوا مسكين أنت، ومسكين أمثالك في العالم ممكن لم يقووا على استيعاب اضطرابات التغيير وفاتورته المكلفة بعض الشيء. فترة ما بعد إسقاط النظام الملكي الفرنسي، عقبها فترة دكتاتورية نابليون حيث استبدل النظام الملكي بالنظام الجمهوري الذي شهد بدوره مزيدا من الأضطرابات والجنون، والتي أسست إلى مبادىء ليبرالية راديكالية إنتقلت إلى كل أوروبا وأفريقيا وحتى الشرق الأوسط، بحيث اعتبر المؤرخون تلك الفترة من الثورة والإضطرابات الفرنسية بأنها أهم فترة غيرت مسار التاريخ البشري والإنساني. ها أنا ذا أسير في الشارع يوميا وأشاهد المئات من "البونوايين العرب" المئات من "البونوايين العرب الإعلاميين والكتاب والصحفيين والدعاة والشيوخ والخطباء..." وقد اتخذوا لهم وظيفة جلد ذاتهم وجلد والأمة وجلد كل من يصادفون في طريقهم ويتسابقون في رسم الخرائط الجديدة وتناقلها عن تلك الصحيفة أو ذاك المحلل والتي تظهر التقسيم القادم للبلدان العربية والمنطقة بأسرها!...يا إلهي!..لماذا أمثال هؤلاء لا يقرأون التاريخ جيدا؟! قد نعذر شخصا عاديا وهو يجلد بذاته، وهو يتداول تلك الخرائط، لكن، أن نعذر أمثال هؤلاء الذين يتحدثون ويحاضرون في العامة، وهم لم يعد لهم بضاعة سوى جلد الذات، والله إنها لمصيبة جلل. هذا التاريخ أمامكم وملىء بأمثال ما يحدث الآن في بلادنا، هذا قانون طبيعي يدور على الأمم والشعوب والحضارات، سيتم نقسيمنا؟! هل سيصبح كل قطر عربي أقطارا؟ بالرغم من أنني أشك في ذلك، إلا أنه لو حصل، ربما وحسب إعتقادي سيكون ضمن مرحلة من مراحل الإتحاد العربي، هذه مرحلة من مراحل التاريخ الطبيعي التي تمر بنا الآن مثلنا مثل باقي الأمم التي مرت بأحداث أسوأ وأشد تطرفا، أوروبا هدمت قبل أت تصبح دول الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، فرنسا مرت بمئتي عام من الإضطرابات والجنون قبل أن تصبح قائدة من قادة أوروبا والعالم، وأمريكا وحربها الأهلية واليابان والصين والهند ودول جنوب شرق آسيا...وغيرها من الدول والأمم لمن أراد أن يقرأ التاريخ. هل نسيتم أيها الهدامون جالدو الذات اليومي، بأننا نحن العرب كنا قبائل جاهلة متنحاحرة قبيل أن تكون لنا أعظم إمبراطورية في التاريخ البشري، وصلت حتى التبت شرقا وروسيا شمالا والبرتغال غربا وقلب إفريقيا جنوبا؟! أنسيتم أننا كنا في الأندلس لثمانمئة سنة "ثمانية قرون" وبأننا هناك أسسنا لكل الحضارات والعلوم التي تشاهدون اليوم؟! هذه ليست النهاية، بل هي البداية من جديد والأيام دول "...إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس..." جلد الذات على المنابر والشاشات ليس هو الخلاص الأمثل مما نحن فيه الآن أيها القوم. ماذا عساكم تنتظرون ممن يتلقون منكم في هذا الجيل، من أطنان يومية من السلبية والخجل وبث الهوان على الأمم وأنفسهم وبأنهم غثاء كثاء السيل...تقع على مسامعهم وفي قلوبهم؟ أنتم من يضخ الهوان والوهن في قلوبهم وعقولهم قبل أي عدو. هذا المقال لا يعبر الا عن رأي كاتبه