البنتاجون يعلن إصابة قائد الجيش الأمريكي في أوروبا وبعض الموظفين بفيروس كورونا    ترتيب الدوري المصري بعد تعثر الأهلي وبيراميدز وفوز الزمالك    نبيل شعيل ومحمود الليثي يتألقان في مهرجان ليالي مراسي بالساحل الشمالي (صور)    بعد غلق التسجيل اليوم.. متى تعلن نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025؟    «التعليم العالي»: اليوم الفرصة الأخيرة لتنسيق المرحلة الثانية    قروض السلع المعمرة بفائدة 26%.. البنوك تتدخل لتخفيف أعباء الصيف    تعرف على أعلى شهادة ادخار في البنوك المصرية    الضرائب: 12 أغسطس آخر موعد لانتهاء التسهيلات الضريبية    حقائق جديدة حول اتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل يكشفها وزير البترول الأسبق    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال يوليو    صواريخ مصرية- إيرانية متبادلة في جامعة القاهرة! (الحلقة الأخيرة)    الجيش اللبناني يغلق بعض المداخل المؤدية للضاحية الجنوبية    البحرين ترحب بتوقيع اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا برعاية أمريكية    نعم لعبّاس لا لحماس    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في عطلة الصاغة الأسبوعية الأحد 10 أغسطس 2025    " مركز معايا ".. تفاصيل مشاهدة زيزو وحكم مباراة الأهلي ومودرن سبورت (فيديو)    أمير هشام: الأهلي ظهر بشكل عشوائي أمام مودرن.. وأخطاء ريبيرو وراء التعادل    دون فوز وضعف دفاعي.. ماذا قدم ريبيرو مع الأهلي حتى الآن؟    ريبيرو: كنا الأفضل في الشوط الثاني.. والتعادل أمام مودرن سبورت نتيجة طبيعية    20 صفقة تدعم كهرباء الإسماعيلية قبل بداية مشواره في الدوري الممتاز    داروين نونيز.. ماكينة أهداف تنتقل من أوروبا إلى الهلال    ننشر أسماء المصابين في حريق محلات شبرا الخيمة    طقس مصر اليوم.. ارتفاع جديد في درجات الحرارة اليوم الأحد.. والقاهرة تسجل 38 درجة    «بيت التمويل الكويتى- مصر» يطلق المدفوعات اللحظية عبر الإنترنت والموبايل البنكي    لهذا السبب.... هشام جمال يتصدر تريند جوجل    3 أبراج «حياتهم هتتحسن» بداية من اليوم: يحتاجون ل«إعادة ضبط» ويتخلصون من العشوائية    التفاصيل الكاملة ل لقاء اشرف زكي مع شعبة الإخراج بنقابة المهن التمثيلية    محمود العزازي يرد على تامر عبدالمنعم: «وعهد الله ما حصل» (تفاصيل)    شيخ الأزهر يلتقي الطلاب الوافدين الدارسين بمدرسة «الإمام الطيب»    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    من غير جراحة.. 5 خطوات فعالة للعلاج من سلس البول    يعاني ولا يستطيع التعبير.. كيف يمكن لك حماية حيوانك الأليف خلال ارتفاع درجات الحرارة؟    الشرطة البريطانية تعتقل أكثر من 470 مناصرا لحركة "فلسطين أكشن" (صور)    دعاء الفجر يجلب التوفيق والبركة في الرزق والعمر والعمل    مصدر طبي بالمنيا ينفي الشائعات حول إصابة سيدة دلجا بفيروس غامض    مصرع وإصابة طفلين سقطت عليهما بلكونة منزل بكفر الدوار بالبحيرة    وزير العمل: غرامة تصل إلى 200 ألف جنيه للأجنبي الذي يعمل بدون تصريح بدءا من سبتمبر    خالد الجندي: أعدت شقة إيجار قديم ب3 جنيهات ونصف لصاحبها تطبيقا للقرآن الكريم    القبض على بلوجر في دمياط بتهمة التعدي على قيم المجتمع    طلاب مدرسة الإمام الطيب: لقاء شيخ الأزهر خير دافع لنا لمواصلة التفوق.. ونصائحه ستظل نبراسا يضيء لنا الطريق    مصادر طبية بغزة: استشهاد أكثر من 50 فلسطينيًا 40 منهم من منتظري المساعدات    مراد مكرم: تربيت على أن مناداة المرأة باسمها في مكان عام عيب.. والهجوم عليَ كان مقصودا    جنايات مستأنف إرهاب تنظر مرافعة «الخلية الإعلامية».. اليوم    هل هناك مد لتسجيل الرغبات لطلاب المرحلة الثانية؟.. مكتب التنسيق يجيب    أندريه زكي يفتتح مبنى الكنيسة الإنجيلية بنزلة أسمنت في المنيا    سهام فودة تكتب: أسواق النميمة الرقمية.. فراغ يحرق الأرواح    ترامب يعين «تامي بروس» نائبة لممثل أمريكا في الأمم المتحدة    أمين الجامعات الخاصة: عملية القبول في الجامعات الأهلية والخاصة تتم بتنسيق مركزي    "حب من طرف واحد ".. زوجة النني الثانية توجه له رسالة لهذا السبب    منها محل كشري شهير.. تفاصيل حريق بمحيط المؤسسة فى شبرا الخيمة -صور    يسري جبر: "الباء" ليس القدرة المالية والبدنية فقط للزواج    نرمين الفقي بفستان أنيق وكارولين عزمي على البحر.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    توقف مترو الأنفاق وإصابة 4 أشخاص.. تفاصيل حريق محلات شبرا الخيمة -آخر تحديث    ما تأثير ممارسة النشاط البدني على مرضى باركنسون؟    أفضل وصفات لعلاج حرقان المعدة بعد الأكل    أفضل طرق لتخزين البطاطس وضمان بقائها طازجة لفترة أطول    الدكتور محمد ضياء زين العابدين يكتب: معرض «أخبار اليوم للتعليم العالي».. منصة حيوية تربط الطلاب بالجماعات الرائدة    رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بشكاوى تداعيات ارتفاع الحرارة في بعض الفترات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما يشبه تاريخاً للعالم: ثوار وطغاة

الصراع بين الطغيان ورغبة البشرية في التحرر هو ما يشكل تاريخ البشرية، حسبما يري الكاتب إدواردو جاليانو ( أورجواي- 1940 ). لذا عندما يقرر أن يكتب هذا التاريخ في شذرات كما اعتاد فإن تاريخ الثورات والتمردات يشكل الجزء الأكبر من كتابه ( مرايا: ما يشبه تاريخا للعالم) ..والذي ترجمه المترجم الشهير صالح علماني ويصدر قريبا عن دار " رفوف السورية".
جاليانو الذي كتب " الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية الذي
" يعتبر " إنجيل المعذبين" في القارة الساخنة ، أهداه تشافيز لأوباما في قمة الأمريكتيين ، لأن الكتاب يحكي تاريخ النهب والاستغلال الذي تعرضت له قارة أمريكا اللاتينية بكاملها منذ وطئت رايات كورتيس وكولومبس أراضيها محمّليْن بالبنادق والأحصنة والاوبئة والرغبة الدفينة في الحصول علي الذهب والفضة والبهارات.
أما في " المرايا" فيسرد جاليانو حكاياته بسلاسة تجمع دهشة طفل وحكمة الفيلسوف وصرامة الناقد .. فسيفساء عندما تجتمع بعضها البعض نكتشف سر كان التاريخ زائفا، والرواية والكتابة الرائقة وحدها قادرة أن تعيد بناء التاريخ فنا.وإذا كان جاليانو يري أن " براعة القص ..ولدت من الخوف من الموت" فإن " ثورات البشرية" ..أنقذتها من الدمار.
المرايا ممتلئة بالناس.
اللامرئيون يروننا.
المنسيون يتذكروننا.
عندما نري أنفسنا، نراهم.
عندما نري أنفسنا، هل يروننا؟
مِن رغبةٍ نحن
الحياة، بلا اسم، بلا ذاكرة، كانت وحيدة. كانت لها يدان، ولكن لا وجود لمن تلمسه. وكان لها فم، ولكن لم يكن هناك من تكلمه. كانت الحياة واحدة، ولأنها واحدة كانت لا أحد.
عندئذ أطلقت الرغبة قوسها. فشطر سهم الرغبة الحياة إلي نصفين، وصارت الحياة اثنين.
التقي الاثنان وضحكا. أضحكتهما رؤية أحدهما الآخر، وملامسة أحدهما الآخر أيضاً.
تمرد العبيد الأول في أميركا
حدث في بداية القرن السادس عشر.
بعد يومين من عيد الميلاد، تمرد العبيد في معاصر السكر في سانتو دومينغو التي كانت ملكاً لابن كريستوف كولومبس.
بعد انتصار العناية الإلهية وأسقف سانتياغو، امتلأت الدروب بزنوج مشنوقين.
حرية عنيدة
حدث في منتصف القرن السادس عشر.
العبيد الذين يُخفقون في محاولة الهرب الأولي يعاقبون بالبتر، قطع أذن، أو وتر، أو قدم، أو يد، ولم يكن يفيد في شيء إعلان ملك إسبانيا حظر بتر الأعضاء التي لا يمكن تسميتها.
أما أصحاب السوابق، فيقطع ما تبقي لهم، وأخيراً ينتهي بهم الأمر إلي المشنقة، أو المحرقة، أو فأس الجلاد. وكانت رؤوسهم تُعرض، مغروسة علي أعمدة، في ساحات القري.
ولكن معاقل الأحرار كانت تتكاثر في كافة أنحاء أميركا، يتوغلون في أعماق الأدغال أو في وعورة الجبال، تحيط بهم رمال متحركة تبدو كأنها أرض راسخة ودروب زائفة مزروعة بأوتاد حادة.
إلي هناك كان يصل القادمون من أوطان أفريقية عديدة، وصاروا مواطنين مشاركين في وطن جديد لكثرة ما اشتركوا في تلقي المهانة.
مملكة الأحرار
يحدث كل شيء علي امتداد القرن السابع عشر.
مثل الفطر تنبثق مخابئ العبيد الهاربين. في البرازيل يسمونها كيلومبو. وهذه الكلمة الأفريقية تعني جماعة أو طائفة، بالرغم من أن العنصرية كانت تترجمها انحلالاً، أو موقع الشجار، أو بيت العاهرات.
في كيلومبو بالماريس، من كانوا عبيداً عاشوا متحررين من أسيادهم ومتحررين كذلك من طغيان السكر الذي يحول دون نمو أي شيء آخر. فكانوا يزرعون كل شيء، ويأكلون من كل شيء. كانت مأكولات أسيادهم تأتي في السفن. أما مأكولاتهم هم فتأتي من الأرض. وكانت ورشهم المهيأة علي الطراز الأفريقي، توفر لهم معازق ومعاول ورفوشاً للعمل في الأرض، وسكاكين، وفؤوساً وحراباً للدفاع عن أنفسهم.
الحرية المغدورة
التاريخ الرسمي البرازيلي مازال يطلق تسمية خيانات علي حركات التمرد الأولي من أجل الاستقلال الوطني.
فقبل أن يتحول الأمير البرتغالي إلي إمبراطور برازيلي، جرت عدة محاولات وطنية، أهمها خيانة المناجم، في أورو بريتو عام 1784، وقد قضي عليها في المهد. وخيانة باهيا التي اندلعت في سلفادور دي باهيا، وقد استمرت أربع سنوات.
المشارك الوحيد في خيانة المناجم الذي شُنق ومُزقت جثته هو ضابط صغير. أما المتآمرون الآخرون، وهم سادة المجتمع الراقي المتضايقين من دفع الضرائب الاستعمارية، فتمت تبرئتهم.
خيانة باهيا استمرت لوقت أطول وبلغت حدوداً أبعد. فهي لم تقاتل من أجل جمهورية مستقلة وحسب، وإنما كذلك من أجل المساواة في الحقوق دون تمييز في الأعراق.
وبعد أن سال دمٌ كثير، وهُزم التمرد، برأت السلطة الاستعمارية المشاركين الرئيسيين، باستثناء أربعة منهم: مانويل ليرا، وجواو دو ناسيمينتو، ولويس غونزاغا، ولوكاس دانتي، الذين جري شنقهم وتقطيعهم. الأربعة كانوا زنوجاً، أبناء أو أحفاد عبيد.
وهنالك من يصدق أن العدالة عمياء.
القلة والجميع
في العام 1776، استهل استقلال الولايات المتحدة ما سيحدث بعد ذلك في المكسيك وإلي الجنوب، في حركات استقلال أخري لشعوب أمريكية أخري.
وكيلا تبقي شكوك حول وظيفة الهنود، اقترح جورج واشنطن التدمير الكامل لقري السكان الأصليين. وأعرب توماس جيفرسون عن رأيه بأن تلك السلالة التعيسة قد سوغت إبادتها، واقترح بنجامين فرانكلين أنه يمكن لخمر الروم أن يكون وسيلة مناسبة لاجتثاث أولئك المتوحشين.
وكيلا تبقي هناك شكوك حول وظيفة النساء، أضاف دستور ولاية نيويورك أداة التعريف المذكرة لحق التصويت.
وكيلا تبقي شكوك حول وظيفة البيض الفقراء، كان جميع الموقعين علي إعلان الاستقلال من البيض الأغنياء.
وكيلا تبقي هناك شكوك حول وظيفة الزنوج، كان هناك ستمئة وخمسون ألف عبد ظلوا عبيداً في الأمة حديثة النشوء. وأذرع زنجية هي التي شيدت البيت الأبيض.
أب غائب
إعلان الاستقلال أكد أن جميع البشر يولدون متساوين.
بعد قليل، أوضح دستور الولايات المتحدة تعريف ذلك: أقر أن كل عبد يساوي ثلاثة أخماس شخص.
عارض ذلك، دون جدوي، محرر الدستور، جوفرنير موريس. وكان قبل قليل من ذلك قد سعي، دون جدوي، إلي أن تلغي ولاية نيويورك العبودية، وقد توصل علي الأقل إلي الوعد الدستوري بأنه سيكون في المستقبل لكل فرد يتنفس هواء هذه الولاية أن يتمتع بامتيازات الإنسان الحر.
موريس الذي كانت له أهمية كبيرة في منح الولايات المتحدة وجهها وروحها، كان أحد الآباء المؤسسين الذين نسيهم التاريخ.
في العام 2006 بحث الصحفي الإسباني فيثنتي روميرو عن مدفنه. وقد وجده خلف كنيسة، إلي الجنوب من برونكس. لوحة القبر الممحوة بفعل الأمطار والشموس، كانت تستخدم مسنداً لصندوقي قمامة كبيرين.
الاستقلال الذي لم يكن
هكذا أنهي أبطال تحرير أميركا اللاتينية حياتهم:
رمياً بالرصاص: ميغيل هيدالغو، خوسيه ماريا موريلوس، خوسيه ميغيل كاريرا، فرانثيسكو ميندوثا.
اغتيالاً: أنطونيو خوسيه دي سوكري.
شنقاً وتقطيعاً: تيرادينتس.
منفيين: خوسيه أرتيغاس، خوسيه دي سان مارتين، أندريس دي سانتا كروث، رامون بيتانثيس.
سجناء: توسان لوفيرتر، وخوان خوسيه كاستيلي.
أما خوسيه مارتي فسقط شهيداً في معركة.
وسيمون بوليفار مات في العزلة.
وفي العاشر من آب 1809، بينما كانت مدينة كيتو تحتفل بالتحرر، كتبت يد مجهولة علي جدار:
اليوم الأخير من الاستبداد،
واليوم الأول من الشيء نفسه.
بعد سنتين من ذلك، أكد أنطونيو نارينيو في بوغوتا:
لقد استبدلنا الأسياد.
مقدمة للثورة الفرنسية
في الشارع الرئيسي في أبفيل كان يمر الموكب.
وعلي الأرصفة كان الجميع يخلعون قبعاتهم لدي مرور خبز القربان المرفوع فوق المسيح والصلبان والقديسين. الجميع، باستثناء ثلاثة فتيان كانت عيونهم مصوبة نحو الجمهور الأنثوي ولم يهتموا بما يجري.
وجرت الوشاية بهم. فهم لم يرفضوا فقط الكشف عن رؤوسهم أمام لحم المسيح الأبيض، بل نظروا إليه بابتسامات ساخرة. وأضاف الشهود أدلة واضحة أخري بالغة الخطورة: خبز القربان فُتت، كي ينزف دماً، وصليب خشبي ظهر مبتوراً في حفرة.
ركزت المحكمة صواعق الغضب علي أحد الفتيان الثلاثة، جان فرانسيس لابير. ومع أنه كان قد أكمل العشرين من عمره للتو، إلا أن ذلك المتغطرس الوقح كان يفاخر بأنه قرأ فولتير ويتحدي القضاة بعجرفته الحمقاء.
في يوم تنفيذ حكم، ذات صباح من عام 1766، لم يتغيب أحد عن ساحة السوق. جان فرنسيس صعد إلي منصة الإعدام وقد عُلقت علي صدره لوحة:
كافر، مجدف، مدنس للمقدسات، ملعون، بغيض.
انتزع الجلاد لسان المحكوم وقطع عنقه، ثم قطَّع جسده وألقي أشلاءه إلي المحرقة. ومع الأشلاء ألقي إلي النار كذلك بعض كتب فولتير، كي يحترق المؤلف والقارئ معاً.
موزارت
الرجل الذي كان موسيقي، كان يبدع موسيقي طيلة النهار وطيلة الليل وفيما وراء النهار والليل، كما لو أنه يسابق الموت، كما لو أنه يعرف أن الموت سيأخذه باكراً.
بإيقاع محموم كان يؤلف أعماله، واحداً بعد آخر، وكان يترك في نوتاته سطوراً فارغة تفسح مجالاً لأن يرتجل، وهو علي بيانو، مغامراته عن الحرية.
لم يكن هناك من يدري من أين يأتي بالوقت، ولكنه خلال حياته الخاطفة أمضي ساعات طويلة محشوراً في كتب مكتبته الفسيحة ومشتبكاً في مجادلات متحمسة مع أناس تنظر إليهم الشرطة الإمبراطورية بعين السوء، من أمثال جوزيف فون سونينفلز، الحقوقي الذي تمكن، في فينا، من حظر التعذيب للمرة الأولي في أوروبا. أصدقاؤه كانوا معادين للاستبداد والبلاهة. كان ابن عصر الأنوار، وقارئ الانسكلوبيديا الفرنسية، وقد شارك موزارت في الأفكار التي هزت عصره.
في الخامسة والعشرين من عمره فقد وظيفته كموسيقي للملك، ولم يرجع إلي البلاط بعد ذلك قطّ. ومنذ ذلك الحين عاش علي حفلاته الموسيقية وبيع أعماله، وقد كانت كثيرة وعالية القيمة ولكنها رخيصة الثمن.
كان فناناً مستقلاً، عندما كان الاستقلال أمراً غريباً، وقد كلفه ذلك غالياً. وكعقاب له علي حريته، مات غارقاً بالديون: العالم يدين له بالكثير من الموسيقي، وهو مات مديناً.
اليد البشرية الثورية
في العام 1789 هاجم الشعب الغاضب سجن الباستيل واقتحمه.
وفي كافة أنحاء فرنسا انتفض المنتجون ضد الطفيليين. رفض الأهالي مواصلة دفع الضرائب والأعشار التي أتخمت الملكية والأرستقراطية والكنيسة، هذه المؤسسات الموقرة التي لم يستطع أحد قط أن يجد لها أي فائدة.
الملك والملكة هربا. انطلقت العربة في الرحلة نحو الشمال، باتجاه الحدود. الأمراء الصغار كانوا يرتدون ملابس بنات مدللات. وكانت معلمتهم متنكرة كبارونة، وتحمل جواز سفر روسي. وكان الملك لويس السادس عشر كبير خدمها. والملكة ماري أنطوانيت وصيفتها.
كان الوقت قد صار ليلاً عندما وصلوا إلي بلدة فيرنز بالقرب من فردان.
وفجأة برزت جموع من الظلام، قلبت العربة، وألقت القبض علي الأسرة المالكة وأعادتها إلي باريس.
ماري أنطوانيت
ضئيلة جداً كانت أهمية الملك. وكانت الملكة ماري أنطوانيت هي المكروهة. مكروهة لأنها أجنبية، ولأنها تتثاءب خلال المراسم الملكية، ولأنها لا تستخدم مشد صدر، ولأن لها عشاقاً. وبسبب تبذيرها الشديد، كانوا يسمونها السيدة عجز الموازنة.
اجتذب المشهد جموعاً غفيرة. وزمجرت الحشود مهللة عندما تدحرج رأس ماري أنطوانيت عند قدمي الجلاد.
كان الرأس عارياً، دون عقد.
فرنسا بأسرها كانت مقتنعة بأن الملكة قد اشترت أغلي حلية في أوروبا: عقد فيه ستمئة وسبع وأربعون ماسة. وكان الجميع يعتقدون أيضاً أنها قالت: إذا كان الشعب لا يملك الخبز، فليأكل البسكويت.
المارسييز
أشهر نشيد في العالم ولد في لحظة مشهورة من التاريخ العالمي. ولكنه ولد أيضاً من يد من كتبه وفم من ترنم به أول مرة: يد وفم مؤلفه الذي ليس له شيء من الشهرة، النقيب روجيه ديلاسل الذي نظمه في ليلة واحدة.
أملت أصواتُ الشارع الكلمات، وانبثقت الموسيقي كما لو أن مؤلف النشيد كان يختزنها في أعماقه، منذ الأزل، بانتظار أن تخرج.
كان ذلك في العام 1792، في ساعات اضطراب: كانت القوات البروسية تتقدم ضد الثورة الفرنسية. خطابات ونداءات حماسية تهيج شوارع ستراسبورغ.
إلي السلاح أيها المواطنون!
ودفاعاً عن الثورة المحاصرة، توجه جيش الرين حديث التشكيل إلي الجبهة. نشيد روجيه أضفي بريقاً علي القوات. كان له رنين وعاطفة. وبعد شهرين من ذلك عاد للظهور، دون أن يدري أحد كيف، في أقصي الجانب الآخر من فرنسا. فقد انطلق ثوريو مرسيليا إلي المعركة مترنمين بهذه الأغنية القوية التي صارت تسمي المارسييز، وصارت فرنسا بأسرها كورالاً لها. واقتحم الشعب وهو يغنيها قصر توليريس.
المؤلف سيق معتقلاً. فالنقيب روجيه كان مشبوهاً بخيانة الوطن، لأنه اقترف حماقة الاختلاف مع السيدة «مقصلة»، وهي الأيديولوجيا الأشد حدّة ورهافة في الثورة.
وأخيراً خرج من السجن. بلا زيه العسكري، وبلا راتب.
جرجر حياته طوال سنوات، يأكله القمل، تلاحقه الشرطة. وحين يقول إنه هو أبو نشيد الثورة، يضحك الناس منه في وجهه.
أناشيد وطنية
أول نشيد وطني معروف ولد في إنكلترا، لأبوين مجهولين، عام 1745. وكانت أبياته تعلن أن المملكة ستسحق المتمردين الاسكتلنديين لتحبط خدع أولئك المحتالين.
بعد نصف قرن من ذلك، كان نشيد المارسييز يحذر من أنه سيروي حقول فرنسا من دماء الغزاة الدنسة.
في بداية القرن التاسع عشر، تنبأ نشيد الولايات المتحدة بميولها الإمبراطورية، المباركة من الرب: الغزو واجبنا، حيث تكون قضيتنا عادلة. وفي أواخر ذلك القرن، كان الألمان يرسخون وحدتهم الوطنية المتأخرة بنصب ثلاثمئة وسبعة وعشرين تمثالاً للإمبراطور غليوم وأربعمئة وسبعين تمثالاً للأمير بسمارك، بينما هم ينشدون النشيد الذي يضع ألمانيا übre alles، أي: فوق الجميع.
والأناشيد تؤكد، بصورة عامة، هوية كل أمة من خلال التهديدات، والشتائم، وامتداح الذات، والإشادة بالحرب، والواجب المشرف في القتل والموت.
وفي أميركا اللاتينية تبدو هذه الطقوس المكرسة لأكاليل الغار السامية كما لو أنها من عمل مؤسسات الدفن الفاخر:
النشيد الوطني في أورغواي يدعونا إلي الخيار بين الوطن أو القبر،
ونشيد باراغواي للخيار بين الجمهورية والموت،
ونشيد تشيلي يعلن أن أرضه ستكون قبر الأحرار،
ونشيد غواتيمالا يدعو إلي الانتصار أو الموت.
والنشيد الكوبي يؤكد أن الموت في سبيل الوطن حياة.
نشيد الإكوادور يبين أن مذبحة الأبطال هي برعم خصب.
ونشيد البيرو يشيد بهول مدافعه،
ونشيد المكسيك ينصح بتضميخ رايات الوطن بأمواج من الدم.
وبدماء الأبطال يستحم النشيد الكولومبي الذي يكافح بجغرافية حماسية في جيال تيرموبيلاس.
أولمبيا
أنثوية هي رموز الثورة الفرنسية، نساء من المرمر أو البرونز، بأثداء متينة عارية، وقبعات باردة، ورايات خفاقة. ولكن الثورة نادت ب إعلان حقوق الرجل والمواطن، وعندما اقترحت المناضلة الثورية أولمبيا ديغوغ إعلان حقوق المرأة والمواطنة، قطعت المقصلة رأسها.
وبينما هي علي منصة الإعدام، سألت أولمبيا: إذا كنا نحن النساء قادرات علي الصعود إلي المقصلة، فلماذا لا يمكن لنا الصعود إلي المنابر العامة؟ لا يمكن لهن. لا يمكن لهن الكلام، لا يمكن لهن التصويت. ورفيقات أولمبيا ديغوغ سُجِنَّ في مستشفي المجانين.
وبعد إعدامها بقليل، جاء دور مانون رولان. ومانون كانت زوجة وزير الداخلية، ولكن ذلك لم ينفع في إنقاذها. حكموا عليها بسبب ميلها غير الطبيعي إلي النشاط السياسي. فقد خانت طبيعتها الأنثوية المهيأة للعناية بالمنزل وإنجاب أبناء شجعان، وارتكبت الوقاحة القاتلة بدس أنفها في شؤون الدولة الذكورية.
وعادت المقصلة إلي السقوط.
المقصلة
بوابة عالية دون باب، إطار فارغ. في الأعلي، تتدلي الشفرة القاتلة.
كانت لها أسماء متعددة: الآلة، الأرملة، الحلاقة. وعندما قطعت رأس الملك لويس، صار اسمها لويسا الصغيرة. وأخيراً، عُمِّدت إلي الأبد باسم المقصلة (Guillotine).
عبثاً اعترض جوزيف غويلتين Guillotin. احتج مرة وألف مرة بأن هذه الجلادة التي تزرع الرعب وتجتذب حشوداً ليست ابنته. لم يكن هناك من يستمع إلي رأي هذا الطبيب المعادي لعقوبة الإعدام: فليقل ما يقول، الناس مازالوا يعتقدون أنه أبو أول ممثلة في الاستعراض الأوسع شعبية في ساحات باريس.
وقد اعتقد الناس، ومازالوا يعتقدون، أن غويلتين قد مات علي المقصلة. والواقع أنه لفظ نَفَسه الأخير في سلام فراشه، وبرأس ملتصق تماماً بجسده.
ظلت المقصلة تعمل حتي العام 1977، عندما نفَّذ نموذجٌ سريع جداً منها، يعمل بالتوجيه الكهربائي، عملية إعدام مهاجر عربي في باحة سجن باريس.
الثورة فقدت رأسها
من أجل تخريب الثورة، أحرق مالكو الأراضي محاصيلهم. شبح الجوع كان يحوم فوق المدن. ملكيات النمسا وبروسيا وإنكلترا وإسبانيا وهولندا اندفعت إلي الحرب ضد عدوي الثورة الفرنسية التي تسيء إلي التقاليد الموروثة وتهدد الثالوث المقدس: التاج وباروكة الشعر والمسوح الكهنوتي.
الثورة المحاصرة من الداخل والخارج كانت تغلي. وكان الشعب هو الجمهور الذي يري ما الذي يحدث باسمه. لم يكن أناس كثيرون يحضرون المناظرات. فالوقت لا يتسع. عليهم الوقوف بالدور من أجل الطعام.
الاختلاف في الرأي يقود إلي منصة الإعدام. لأن جميع قادة الثورة الفرنسيين كانوا معادين للنظام الملكي، ولكن كان هناك ملك في داخل بعضهم، وبالحق الثوري، الحق الإلهي الجديد، كانوا أسياد الحقيقة المطلقة ويطالبون بالسلطة المطلقة. وكل من يتجرأ علي الاختلاف هو معادٍ للثورة، وحليف للعدو، وجاسوس أجنبي، وخائن للقضية.
مارا نجا من المقصلة لأن آنسة مهووسة طعنته بسكين وهو يستحم.
و سان جوست، بإيحاء من روبسبير، اتهم دانتون.
ودانتون الذي حُكم عليه بالموت طلب ألا ينسوا عرض رأسه علي فضول الجمهور، وترك بيضتيه ميراثاً لروبسبير قائلاً إنه سيحتاج إليهما.
بعد ثلاثة شهور من ذلك قُطع رأس سان جوست ورأس روبسبير.
دون رغبة منها، ودون أن تدري ذلك، كانت الجمهورية الفوضوية واليائسة تعمل لإعادة إقرار النظام الملكي. والثورة التي أعلنت الحرية، والمساواة، والأخوة، انتهت إلي شق الطريق لاستبداد نابليون بونابرت الذي أسس سلالة حاكمة.
صورة:العرش
مدينة مكسيكو، القصر الوطني، كانون الأول 1914.
الريف المنتفض في ثورة، ينقض علي كوكب المدينة. بانتشو بييّا وإيمليانو ثاباتا فتحا مدينة مكسيكو.
وبينما كان جنودهما تائهين كالعميان في تبادل إطلاق نار، يجوبون الشوارع طالبين طعاماً ومتفادين آلات لم يروها من قبل، دخل بييّا وثاباتا إلي قصر الحكومة.
قدم بييّا إلي ثاباتا كرسي الرئاسة المذهب.
لم يقبله ثاباتا.
علينا أن نحرقه قال إنه مسحور. عندما يجلس عليه رجل طيب، يتحول إلي شرير.
ضحك بييّا كما لو أن ما سمعه نكتة، وألقي بجسده الضخم علي الكرسي لتصوره كاميرا أغوسطين فيكتور كاساسولا.
إلي جانبه يبدو ثاباتا غريباً، غائباً، ولكنه ينظر إلي الكاميرا كما لو أنها تطلق رصاصاً، وليس وميض فلاشات، ويقول بعينيه:
مكان بديع لمغادرته.
وبعد لحظات يغادر زعيم الجنوب إلي قريته انينيكويلكو، مهده، صومعته، ليواصل من هناك استعادة الأراضي المغتصبة.
لم يتأخر بييّا بالحذو حذوه، ويغادر قصر الرئاسة:
هذا الكوخ rancho كبير جداً علينا.
من سيجلسون بعد ذلك علي الكرسي المشتهي، كرسي النقوش الذهبية، سيترأسون المذابح التي تعيد استتباب النظام.
أما ثاباتا وبييّا فيسقطان غيلة برصاص الغدر.
إثبات الغيبة
قيل، يقال: الثورات الاجتماعية، بتعرضها لهجوم المتنفذين في الداخل والإمبرياليين في الخارج، لا يمكن لها منح نفسها ترف الحرية.
ومع ذلك، كانت الأزمنة الأولي من الثورة الروسية، في أوج الحصار المعادي، وسنوات الحرب الأهلية والغزو الخارجي، هي أكثر فترات ازدهار نشاطها المبدع تحرراً.
بعد ذلك، وفي أزمنة أفضل، عندما كان الشيوعيون يسيطرون علي البلاد، فرضت دكتاتورية البيروقراطية حقيقتها الوحيدة وأدانت التنوع كهرطقة لا تغتفر.
مارك شاغال وفاسيلي كاندنسكي رسامان، سافرا، ولم يرجعا قطّ.
فلاديمير ماياكوفسكي، شاعر، أطلق رصاصة علي قلبه.
سيرغي أيزنين، شاعر أيضاً، شنق نفسه.
إسحاق بابيل، قصاص، أُعدم رمياً بالرصاص.
فسفولود مرهولد الذي صنع الثورة في مشاهد التعري في المسرح، أعدم رمياً بالرصاص أيضاً.
وأعدم كذلك نيكولاي بوخارين، وغريغوري زينوفيف، وليف كامينيف، القادة الثوريون في الساعة الأولي، بينما سقط ليون تروتسكي، مؤسس الجيش الأحمر، غيلة في المنفي.
لم يبق أحد من ثوريي الساعة الأولي. جري تطهيرهم جميعاً: دفناً أو سجناً، أو نفياً. وجري محوهم من الصور البطولية وحذفهم من الكتب التاريخية.
الثورة حملت إلي العرش أشد قادتها وسطية.
ضحي ستالين بمن يشكلون ظلاً له، من يقولون لا، من لا يقولون نعم، خطيرو اليوم وخطيرو الغد، علي ما فَعَلْتَهُ وما ستَفْعَله، كعقاب أو كشكوك.
صور أعداء الشعب
موسكو، ميدان مسرح البولشوي، أيار 1920.
لينين يخطب بالجنود السوفييت الذاهبين إلي القتال ضد الجيش البولندي علي جبهة أوكرانيا.
إلي جانب لينين، علي المنصة المرتفعة فوق الحشود، يظهر ليون تروتسكي، الخطيب الآخر في هذا المهرجان، وليف كامينيف.
صورة ج.ب. غولدشتاين، تتحول إلي رمز كوني للثورة الشيوعية.
ولكن بعد سنوات قليلة، يختفي تروتسكي وكامينيف من الصورة ومن الحياة.
من الصورة يمحوهما الرتوشيون، ويستبدلونهما بخمسة درجات من الخشب، ومن الحياة يمحوهما الجلادون.
محاكم التفتيش في أزمنة ستالين
إسحاق بابيل كان كاتباً محظوراً. ويشرح هو نفسه:
المسألة أنني اخترعت جنساً أدبياً جديداً: الصمت.
في العام 1939 جري اعتقاله.
في العام التالي جرت محاكمته.
المحاكمة استمرت عشرين دقيقة.
اعترف بأنه ألف كتباً وأن نظرته البرجوازية الصغيرة تشوه الواقع الثوري.
اعترف بأنه ارتكب جرائم ضد الدولة السوفييتية.
اعترف بأنه تكلم مع جواسيس أجانب.
اعترف بأنه في رحلاته إلي الخارج أجري اتصالات مع تروتسكيين.
اعترف بأنه كان علي اطلاع علي مؤامرة لاغتيال الرفيق ستالين، ولم يشِ بها.
اعترف بأنه شعر بالانجذاب إلي أعداء الوطن.
اعترف بأن كل ما اعترف به كان زائفاً.
أعدموه في ليلة ذلك اليوم.
علمت زوجته بإعدامه بعد خمسة عشر عاماً.
روزا
ولدت في بولونيا، وعاشت في ألمانيا. كرست حياتها للثورة الاجتماعية، إلي أن سقطت غيلة. في بداية العام 1919، عَمَدَ ملائكة الرأسمالية الألمانية الحماة إلي تهشيم جمجمتها ضرباً بأعقاب البنادق.
قبل قليل من ذلك، كانت روزا لوكسمبورغ قد كتبت مقالاً حول الخطوات الأولي للثورة الروسية. المقال ولد في السجن الألماني الذي كانت سجينه فيه، وقد عارضت الطلاق بين الاشتراكية والديمقراطية.
* حول الديمقراطية الجديدة: الديمقراطية الاشتراكية ليست شيئاً لا يبدأ إلا في الأرض الموعودة بعد أن تكون قد ترسخت أسس الاقتصاد الاشتراكي. وهي لا تصل مثل هدية عيد الميلاد إلي الناس الذين يستحقونها لأنهم تحملوا، في المرحلة الانتقالية، حفنة من الدكتاتوريين الاشتراكيين. الديمقراطية الاشتراكية تبدأ في آن واحد مع تدمير الطبقة السائدة وبناء الاشتراكية.
* حول طاقة الشعب: الدواء الذي وجده تروتسكي ولينين، بإلغاء الديمقراطية كديمقراطية، هو أمر أسوأ من الداء الذي ينويان علاجه، لأنه يغلق المصدر الوحيد لتصحيح كل محدودية المؤسسات الاجتماعية. وهذا المصدر هو حياة أوسع جماهير الشعب السياسية الفعالة وغير المقيدة والمنشِطة.
* حول الرقابة العامة: الرقابة العامة ضرورة لا غني عنها. وعندما لا توجد، يقتصر تبادل التجارب علي دائرة قادة النظام الجديد المغلقة. ويصبح الفساد أمراً حتمياً.
* حول الحرية: اقتصار الحرية علي أنصار الحكومة وحدهم، أو علي أعضاء حزب وحيد، مهما كانت أعدادهم، لست حرية. الحرية هي دوماً وحصرياً حرية من لهم رأي مختلف.
* حول الدكتاتورية البيروقراطية: دون انتخابات عامة، ودون حرية صحافة بلا قيود وحرية الاجتماع، ودون جدال آراء حر، تموت الحياة في المؤسسات العامة، وتتحول إلي كاريكاتير حياة، حيث البيروقراطية وحدها هي الفاعلة. تسقط الحياة العامة في غيبوبة النوم بالتدريج، ويقوم بالحكم والأمر عدد ضئيل من القادة ذوي الطاقة التي لا تعرف التعب، والخبرة غير المحدودة. ويكون بينهم نحو دزينة من الرؤوس يقودون فعلياً، وأقلية مختارة من الطبقة العاملة تدعي، بين حين وآخر، إلي اجتماعات لتصفق لخطابات القادة وتصادق علي القرارات بالإجماع.
الملك الجاحد
في العام 1932 أنهي ابن سعود حربه الطويلة للاستيلاء علي مكة والمدينة، وأعلن نفسه ملكاً وسلطاناً علي هاتين المدينتين المقدستين وكل الصحراء المحيطة بهما.
وفي فعل تواضع، عمّد ابن سعود مملكته باسم أسرته: العربية السعودية. وفي فعل فقدان ذاكرة، سلّم البترول لشركة ستاندر أويل، ناسياً بذلك أنه هو وأسرته كانوا يأكلون منذ عام 1917 حتي 1924 من يد الإمبراطورية البريطانية، مثلما هو مثبت في الحسابات الرسمية.
تحولت العربية السعودية إلي نموذج للديمقراطية في الشرق الأوسط. وقد احتاج أمراؤها الخمسة آلاف إلي ثلاثة وسبعين عاماً من أجل تنظيم أول انتخابات. وفي انتخابات الموظفين البلديين تلك، لم تشارك الأحزاب السياسية، لأنها محظورة. ولم تشارك النساء كذلك، لأنهن محظورات أيضاً.
تاريخ مختصر لزراعة الديمقراطية في أميركا
في العام 1915، غزت الولايات المتحدة هايتي. وباسم الحكومة، أعلن روبرت لانسينغ أن العرق الأسود عاجز عن حكم نفسه بنفسه، بسبب ميله الموروث إلي حياة التوحش وعجزه البدني عن التحضر. بقي الغزاة تسعة عشر عاماً. وعُلق الزعيم الوطني شارلمان بيرالت علي صليب إلي إحدي البوابات.
واحد وعشرون عاماً استمر احتلال نيكاراغوا ليصب بعدها في دكتاتورية سوموزا، وتسعة أعوام استمر احتلال جمهورية الدومينيكان ليصب بعد ذلك في دكتاتورية تروخييّو.
في العام 1954 دشنت الولايات المتحدة الديمقراطية في غواتيمالا من خلال عمليات قصف قضت علي الانتخابات الحرة وشرور أخري. وفي العام 1964، تلقي الجنرالات الذين وضعوا حداً للانتخابات الحرة وشرور أخري في البرازيل أموالاً وأسلحة، وبترولاً، وتهنئة من البيت الأبيض. وشيء مماثل حدث في بوليفيا، حيث توصل أحد الدارسين إلي نتيجة أن الولايات المتحدة هي البلاد الوحيدة التي لا تحدث فيها انقلابات عسكرية، لأنه لا وجود فيها لسفارة الولايات المتحدة.
وقد تأكدت هذه النتيجة عندما أطاع الجنرال بينوشيت إنذار هنري كيسنجر وحال دون أن تصير تشيلي شيوعية بسبب انعدام حس المسؤولية لدي شعبها.
قبل قليل، أو بعد قليل من ذلك، قصفت الولايات المتحدة ثلاثة آلاف بنمي بائس من أجل أن تلقي القبض علي عميل غير مخلص، وأنزلت قوات عسكرية في سانتو دومينغو للحيلولة دون عودة رئيس صوّت له الشعب، ولم تجد مفراً من مهاجمة نيكاراغوا للحيلولة دون أن تقوم نيكاراغوا بغزو الولايات المتحدة عبر تكساس.
وفي أثناء ذلك، كانت كوبا قد تلقت زيارات مودّة قامت بها طائرات، وسفن حربية، وقنابل، ومرتزقة، ومليونيرات مبعوثون من واشنطن في مهمة تربوية. ولكنهم لم يتمكنوا هناك من تجاوز خليج الخنازير.
فيكتوريا
مدريد، شتاء 1936: فيكتوريا كينت تُختار نائبة في البرلمان.
شعبيتها أتت من إصلاح السجون.
عندما بدأت بذلك الإصلاح، اتهمها أعداؤها، وهم كثر، بأنها تضع إسبانيا، البلد الأعزل، بين أيدي المجرمين. ولكن فيكتوريا التي عملت في السجون، ولم تكن تعرف الألم البشري من خلال السماع، واصلت قدماً ببرنامجها:
أغلقت السجون غير الصالحة للإقامة، وكانت معظم السجون.
دشنت أذون الخروج.
أطلقت سراح جميع السجناء الذين تزيد أعمارهم عن السبعين عاماً.
أنشأت ملاعب رياضة وورش عمل طوعي.
ألغت زنازين العقاب الانفرادية.
صهرت كل الشِّباك والسلاسل والقيود الحديدية
وحوّلت ذلك الحديد كله إلي تمثال ضخم لكونثيبثيون آرينال.
الشيطان أحمر
مليلة، صيف 1936: يندلع الانقلاب العسكري ضد الجمهورية الإسبانية.
الخلفية الإيديولوجية سيكشف عنها، فيما بعد، وزير الإعلام غابرييل آرياس سالغادو:
الشيطان يعيش في أحد آبار البترول في باكو، ومن هناك يوجه التعليمات إلي الشيوعيين.
البخور ضد الكبريت، الخير ضد الشر، صليبيو المسيحية ضد أحفاد قابيل. لابد من القضاء علي الحمر، قبل أن يقضي الحمر علي إسبانيا: السجناء يعيشون حياة الراحة، والمعلمون يُبعدون الكهنة من المدارس، والنساء يصوتن في الانتخابات كما لو أنهم رجال، والطلاق يدنس الزواج المقدس، والإصلاح الزراعي يهدد ملكية الكنيسة للأراضي...
الانقلاب يولد قاتلاً، وهو واضح جداً منذ البدء.
الجنراليسمو فرانثيسكو فرانكو:
سأنقذ إسبانيا من الماركسية مهما كان الثمن.
حتي لو كلف ذلك إعدام نصف إسبانيا؟
فليكلف ما يكلف.
الجنرال خوسيه ميّان استراي:
يحيا الموت!
الجنرال إميليو مولا:
كل شخص يدعم الجبهة الشعبية، سواء أكان بالسر أم العلن، يجب أن يُعدم.
الجنرال غونثالو كيبو دي يّانو:
ابدؤوا بحفر القبور!
الحرب الأهلية هو الاسم الذي أُطلق علي حمام الدم الذي أطلقه الانقلاب العسكري. وهكذا تضع اللغة علامة المساواة بين الديمقراطية التي تدافع عن نفسها والانقلاب الذي يهاجم، بين الميليشيا الشعبية والعسكريين، بين الحكومة المنتخبة بالتصويت الشعبي والزعيم المختار من نعمة الرب.
رامون
البحر الأبيض المتوسط، خريف 1938: رامون فرانكو يتفجر في الجو.
في العام 1926 كان قد اجتاز المحيط الأطلسي من ويلبا في إسبانيا حتي بوينس آيرس، في طائرة تدعي بلوس أولترا. وبينما العالم كله يصفق لمأثرته، كان هو يحتفي بها في ليالي عربدة، يشرب المجد ويغني المارسييز ويلعن الملوك والباباوات.
ليس بعد زمن طويل من ذلك، انقض بطائرته علي القصر الملكي في مدريد، ولم يلقِ القنابل لأن أطفالاً كانوا يلعبون في الحدائق.
وجمع وواصل: رفع الراية الجمهورية، وشارك في تمرد للفوضويين، وكان نائباً منتخباً عن الوطنيين الكتلانيين، ووشت به امرأة لأنه متزوج بامرأتين، مع أنه كان متزوجاً بثلاث في الواقع.
ولكن عندما تمرد أخوه فرانثيسكو فرانكو، أصيب رامون فرانكو فجأة بنوبة تعصب عائلي وانضم إلي صفوف أنصار الصليب والسيف.
بعد سنتين من الحرب، فُقدت بقايا الطائرة، طائرته، في مياه البحر المتوسط. كان رامون محملاً بالقنابل ومتوجهاً إلي برشلونة. كان ذاهباً ليقتل من كانوا رفاقه وليقتل المجنون الرائع الذي كانه هو نفسه.
ماتيلدي
سجن بالما دي مايوركا، خريف 1942: النعجة الضالة.
كل شيء جاهز. السجينات ينتظرن في صف عسكري. يصل المطران والحاكم المدني. فاليوم، ماتيلدي لاندا، الحمراء وزعيمة الحمر، الملحدة راسخة المعتقد والمعترفة به، ستتحول إلي الإيمان الكاثوليكي وستتلقي سرّ التعميد المقدس. وستنضم النادمة إلي قطيع الرب، بينما سيخسر الشيطان واحدة من أتباعه.
الوقت يتأخر.
ماتيلدي لا تظهر.
إنها في العلية، ولا أحد يراها.
ومن هناك، من أعلي تلقي بنفسها.
الجسد يفرقع، مثل قنبلة، علي أرضية فناء السجن.
لا أحد يتحرك.
تُنجز الطقوس المهيأة مسبقاً.
يرسم المطران إشارة الصليب، ويقرأ صفحة من الأناجيل، يدعو ماتيلدي إلي إنكار الشيطان. يرتل فعل الإيمان ويلمس جبهتها بماء مقدس.
أرخص السجون في العالم
فرانكو يوقّع أحكام الإعدام، كل صباح، أثناء تناوله الفطور.
من لم يُعدموا رمياً بالرصاص، سُجنوا. المحكومون بالإعدام يحفرون قبورهم بأنفسهم، والسجناء يبنون سجونهم بأنفسهم.
تكاليف اليد العاملة، لا وجود لها. السجناء الجمهوريون الذين شيدوا سجن كاراباتشيل المشهور في مدريد، وسجون أخري كثيرة في كل أنحاء إسبانيا، كانوا يعملون ما لا يقل أبداً عن اثنتي عشرة ساعة يومياً، مقابل حفنة من قطع العملة، معظمها غير مرئية. أضف إلي ذلك أنهم كانوا يتلقون أجوراً أخري: بهجة المساهمة في تجددهم السياسي، وتقصير فترة الحكم عليهم بالبقاء أحياء، لأن السل سيقضي عليهم بسرعة.
انبعاث الكرنفال
الشمس تطلع في الليل.
الموتي يهربون من قبورهم.
أي مهرج هو ملك.
مستشفي المجانين يُنصّب الملوك.
المتسولون هم السادة.
والسيدات يُطلقن لهيباً.
وأخيراً، عندما يحل يوم أربعاء الرماد، يخلع الناس الأقنعة، وهي أقنعة لا تكذب، ويعيدون وضع وجوههم، حتي العام التالي.
في القرن السادس عشر، أصدر الإمبراطور كارلوس في مدريد مرسوم عقاب الكرنفال وانحلاله: إذا كان الشخص من الطبقة الدنيا، يُجلد مئة جلدة أمام الملأ. وإذا كان نبيلاً، يُنفي ستة شهور...
بعد أربعة قرون من ذلك، حظر الجنراليسمو فرانثيسكو فرانكو الكرنفال في واحد من مراسيمه الحكومية الأولي.
يا للكرنفال الوثني العصي علي الهزيمة: كلما حظروه أكثر، يعود بقوة أكبر.
وقاحة
في الدورة الأولمبية لعام 1936، هُزمت بلاد مسقط رأس هتلر أمام منتخب البيرو بكرة القدم.
الحكم الذي ألغي ثلاثة أهداف، فعل كل ما يستطيعه، وأكثر، ليجنب الفوهرر ذلك الإزعاج، ولكن النمسا خسرت 4/2.
في اليوم التالي وضعت سلطات كرة القدم الأمور في نصابها.
أُلغيت المباراة. ليس لأن الهزيمة تجعل النتيجة غير مقبولة أمام خط هجوم يُسمي، لسبب ما، المدحلة السوداء، وإنما لأن الجمهور، بحسب تلك السلطات، اندفع إلي الملعب قبل انتهاء المباراة.
غادرت البيرو الدورة الأولمبية، واحتل فريق هتلر الموقع الثاني في المنافسة.
وإيطاليا، إيطاليا موسوليني، كسبت الموقع الأول.
مقاطع من كتاب :" مرايا:
ما يشبه تاريخاً للعالم_ الذي يصدر قريبا عن دار رفوف السورية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.