رحلة وجدانية وعلمية امتدت لسنوات، ونقل المركب قطعة واحدة كان المستحيل الذى تحقق بأيادٍ مصرية خالصة، حيث يصف الدكتور عيسى زيدان مدير عام الترميم ونقل الآثار بالمتحف المصري الكبير، مشروع مركب خوفو بأنه لم يكن مجرد مهمة أثرية أو تجربة علمية، بل رحلة وجدانية حقيقية مع روح الحضارة المصرية القديمة. ◄ أسرار أضخم عملية نقل أثرية بتاريخ مصر الحديث ◄ خطة علمية امتدت 6 أشهر لإنقاذ المركب من الاندثار ◄ تكنولوجيا النانو والليزر تحمى أخشابًا تجاوز عمرها 45 قرنًا يقول: «على المستوى الشخصي كان المشروع تجربة إنسانية مفعمة بالمشاعر، تواصلت فيها مع عبقرية أجدادنا الذين تركوا لنا هذه الكنوز الخالدة. أما على المستوى العلمى فقد كانت تجربة تعيد تعريف معنى العمل الأثرى، وتجسد كيف يمكن للعلم أن يصبح جسرًا يصل بين حضارة الماضى وطموح الحاضر». حول ما جعل عملية نقل مركب خوفو الأولى من أصعب عمليات النقل فى تاريخ الآثار المصرية الحديثة، يقول زيدان: «كانت التحديات هائلة، لأن كل المحاولات السابقة كانت تفكر فى نقل المركب بعد تفكيكها وإعادة تجميعها، وهو ما كان يعنى خطرًا جسيمًا يهدد بقاءها. قررنا تنفيذ عملية النقل كاملة دون تفكيك، أى نقل المركب قطعة واحدة بطول يقارب 42 مترًا ووزن نحو 100طن».. ويضيف: «ابتكرنا فكرة القفص الفولاذى الذى يحيط بالمركب ويحميها من الاهتزاز أو التغيرات البيئية أثناء النقل، كما زودناه بأجهزة دقيقة لقياس الحرارة والرطوبة والاهتزازات، ونظام تحكم بيئى متكامل يضمن سلامة الأثر حتى وصوله إلى المتحف الكبير». ◄ تخطيط علمي ويكشف الدكتور زيدان أن المشروع خضع لتخطيط علمى دقيق استمر ستة أشهر من ورش العمل والمناقشات بين المتخصصين فى الترميم والنقل.. ويقول: «ناقشنا أدق التفاصيل؛ من أساليب التعقيم والتغليف إلى طرق التثبيت داخل القفص الفولاذى. كما استعنّا بمعاهد علمية دولية راجعت الخطط وأكدت صعوبة المهمة، لكننا تمسكنا بتنفيذها بأيادٍ مصرية، وهو ما تحقق بالفعل». ◄ اقرأ أيضًا | المدير التنفيذي للمتحف المصري الكبير: التمويل ياباني والإدارة مصرية برؤية عالمية ◄ كنز حي أما عن كيفية التعامل مع الأخشاب العضوية للمركب التى مرّ عليها أكثر من 4500 عام، فيوضح زيدان أنه تم استخدام أنظمة بيئية ذكية، قائلاً: «استخدمنا عربات ذكية ذات تحكم بيئى عن بُعد، وأنشأنا نظامًا متكاملًا لضبط الحرارة والرطوبة والإضاءة، لضمان عدم تأثر الأخشاب بالعوامل الجوية».. كما تم توثيق المركب بتقنيات الليزر ثلاثية الأبعاد قبل النقل، لتسجيل أدق التفاصيل وضمان إعادة عرضها بنفس حالتها الأصلية داخل المتحف. وعن الأساليب العلمية والمواد الجديدة المستخدمة فى الترميم، يقول زيدان: «استخدمنا مواد نانونية متطورة خضعت لاختبارات صارمة، منها اختبارات التقادم الزمنى التى تحاكى مرور مائة عام، للتأكد من أنها لن تؤثر سلبًا على الأخشاب القديمة». ◄ مجهود مصري يوضح الدكتور زيدان أن عملية نقل المركب الأولى تمت بأيادٍ مصرية خالصة، بينما تمت شراكة علمية بين مصر واليابان فى استخراج المركب الثانية نظرًا لسوء حالتها. «اليابان كانت الدولة الوحيدة التى شاركتنا فى إنقاذ المركب الثانية بعد أن أعلنت البعثات العلمية استحالة استخراجها. والآن سيُعرض المركبان جنبًا إلى جنب داخل المتحف الكبير لأول مرة فى التاريخ». ◄ لحظات لا تُنسى يتحدث زيدان بشغف عن لحظة خروج أول قطعة من المركب من حفرتها بجوار الهرم الأكبر قائلاً: «كانت لحظة فخر واعتزاز لا توصف. شعرت أننى أُصافح أجدادى بيدى حين لمست أول قطعة خشبية بعد أكثر من 4600 عام على وضعها فى الحفرة».. ويضيف أن أكثر اللحظات صعوبة كانت رفع المركب داخل المتحف الكبير، لما تطلبته من دقة متناهية وضبط هندسى عالٍ لضمان استقرارها فى موقعها الجديد. يرى زيدان أن مراكب خوفو تجسد فلسفة المصرى القديم فى الحياة والموت والبعث، قائلًا: «هذه المراكب لم تكن مجرد وسيلة انتقال، بل رمزًا لفكرة البعث والخلود. والمشروع بأكمله رسالة انتماء، تؤكد أننا نحمل أمانة الحفاظ على حضارتنا ونقدمها للأجيال القادمة فى أبهى صورة». ◄ داخل المتحف وعن طريقة عرض المركبين داخل المتحف المصرى الكبير، يقول زيدان: «المركب الأولى ستُعرض داخل متحف مراكب خوفو المجهز بأحدث التقنيات، أما المركب الثانية فستُعرض فى مبنى خاص يسمح للزوار بمتابعة مراحل تجميعها لحظة بلحظة، فى تجربة بانورامية فريدة».. ويضيف أن قاعات العرض تراعى أعلى معايير التحكم فى الإضاءة والرطوبة والتهوية لحماية الأخشاب من أى تأثير بيئى. ويشير إلى أن المشروع لم يكن مجرد إنجاز تقنى، بل مدرسة مفتوحة للأجيال القادمة، قائلاً: «حرصنا على توثيق كل مراحل العمل فى أفلام وصور ومواد تعليمية تُعرض داخل المتحف، بالإضافة إلى نشر أبحاث علمية والمشاركة فى مؤتمرات دولية لتبادل الخبرات». وفى ختام حديثه، يوجه الدكتور عيسى زيدان رسالة مؤثرة إلى الشباب المصريين: «خدمة الوطن لا تكون بالكلام، بل بالعلم والعمل والإخلاص. كل من يضع عقله وجهده لخدمة بلده هو جندى فى ميدان من ميادين الشرف. اجعلوا طموحكم بحجم أهرام أجدادكم، وإصراركم كصلابة حجارتها، وثقتكم بأنفسكم كإيمان المصرى القديم بخلود ما يصنعه بيديه. كل فكرة مضيئة تحمل فى جوهرها رسالة مصر إلى العالم».