محمد كمال رفع مهرجان الجونة السينمائي منذ دورته الأولى شعار "سينما من أجل الإنسانية"، وظل هذا الشعار ملازمًا للمهرجان حتى دورته الثامنة، التي أختتمت فعالياتها أمس الجمعة، وقد أُقيمت الدورة الثامنة في الفترة من 16 إلى 24 أكتوبر الجاري، وشهدت لأول مرة جدلاً واسعًا حول هذا الشعار. انقسم هذا الجدل إلى مسارين متوازيين؛ الأول جماهيري، بدأ بعد استخدام الشعار في حفل الافتتاح من قِبل الممثل طه الدسوقي، حيث جاءت ردود أفعال الجمهور متحفظة بعض الشيء، أولاً بسبب تواضع فقرة الدسوقي – وهو أمر حقيقي – وهجومه الغير مبرر على دور الصحافة الفنية، وثانيًا بسبب استخدامه لمصطلح "سينما من أجل الإنسانية"، وقد رأى عدد من المتابعين أن السينما في الأساس خُلقت للترفيه والمتعة. أما المسار الثاني، فكان فكريًا أو نقديًا، السينما وإن كانت قد نشأت بالفعل لأغراض الترفيه، فإن هذا لا يمنع ارتباطها بتناول القضايا الإنسانية والهموم الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والتحولات السياسية، بل على العكس، يمكن للترفيه أن يتكامل مع طرح عميق يلامس الإنسان وقضاياه، وقد تجلّت هذه الرؤية بوضوح منذ العرض الأول في المهرجان، وهو الفيلم التسجيلي الفلسطيني الفرنسي "ضع روحك على يدك وامشِ" للمخرجة الإيرانية سبيدة فارسي، الذي يشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية. سبيدة فارسي مخرجة إيرانية تعيش في فرنسا، مدرجة ضمن قائمة المخرجين المعارضين للنظام الإيراني، جاءتها فكرة الفيلم عام 2024 لتوثيق أحداث الحرب في غزة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023، رغبةً منها في دعم الشعب الفلسطيني وتقديم صورة حية لمعاناته، وصلت فارسي إلى القاهرة سعيًا للعبور إلى غزة عبر المعبر، لكنها فشلت في ذلك، فقررت تعديل مسار فيلمها. بدأت بالبحث عن أسرة تعيش داخل غزة لتتواصل معها عبر الإنترنت وتنقل تفاصيل الحياة اليومية تحت وطأة الحرب، حتى وجدت ضالتها في المصوّرة الصحفية فاطمة حسونة، التي تحدثت معها عبر مكالمات فيديو استمرت عامًا كاملًا. نقلت فاطمة خلال تلك الفترة تفاصيل المعاناة في غزة بكل صدق، من حيث ندرة الموارد، الخطر الدائم، والرغبة الصلبة لدى الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم، وقد فقدت فاطمة 13 فردًا من عائلتها منذ بداية الحرب الغاشمة، لكنها واصلت التصوير والتوثيق بشجاعة نادرة، وبعد عام كامل من التواصل، وعقب يوم واحد من ترشيح الفيلم للمشاركة في مهرجان كان السينمائي الدولي، أجرت سبيدة مكالمتها الأخيرة مع فاطمة، وطلبت منها تجهيز أوراقها للسفر إلى المهرجان، غير أن القدر كان أسرع، إذ استشهدت فاطمة وأسرتها في غارة جوية إسرائيلية في اليوم نفسه. ما الذي تحتاجه الجماهير أكثر من هذه القصة لتدرك أن السينما قادرة على نقل الواقع ومعاناته وتفاصيله الدقيقة؟، هل ما زال هناك مجال للشك في أن السينما تجسد جوهر الإنسانية؟ كان هذا الفيلم هو العرض الأول في الدورة الثامنة لمهرجان الجونة، وقد غمرت الدموع عيون الحضور، بعضهم لم يكن على دراية بتفاصيل القصة أو بتاريخ الفيلم الذي سبق أن فاز بجائزة في مهرجان "كان"، وبعضهم – وكنت أحدهم – شاهد ملخص الفيلم وهو على علم بتفاصيله، لكن التأثير كان واحدًا لدى الجميع؛ تأثرنا بعمق، بعد انتهاء الفيلم لحظات من السكوت الممزوج بالبكاء، ثم التصفيق الحار وبقي هذا التأثير حاضرًا حتى لحظة كتابة هذه السطور. ورغم أن حفل الافتتاح جاء هذا العام أقل مستوىً من الدورات السابقة، وزاد من حالة الارتباك غياب مقدم الحفل في سابقة غير مفهومة الأسباب، إلى جانب الفقرة الهزلية التي قدمها طه الدسوقي، فضلًا عن عدم عرض فيلم الافتتاح أو حتى عرضه في اليوم التالي صباحًا، إلا أن شعار "سينما من أجل الإنسانية" ظل متحققًا في مضمون أفلام المسابقات والبرامج الموازية ومشاريع المهرجان المختلفة. وقد تمحور عدد كبير من أفلام مهرجان الجونة هذا العام حول فكرتين أساسيتين، الأولى الخط الفاصل بين الحياة والموت، والثانية العلاقة بين الأبناء والأباء، وبالطبع يتصدّر الفيلم الفلسطيني "ضع روحك على يدك وامشِ" الفكرة الأولى بجدارة، إلى جانب الفيلم الفرنسي "نينو"، وهو أول فيلم عُرض في المسابقة الرسمية، ويُعد من أبرز أفلامها. يحكي الفيلم قصة "نينو" شاب يواجه الموت بعد إصابته بسرطان البلعوم، ويطالبه الأطباء بمهمتين أساسيتين قبل بدء العلاج، وخلال رحلته يعيد اكتشاف علاقاته بالمقرّبين منه وبذاته، الفيلم إخراج بولين لوكيه، ويُعد من التجارب الإنسانية البارزة في المسابقة. تنطبق فكرة الحدّ الفاصل بين الحياة والموت على الفيلم الإيراني "حادث بسيط" للمخرج الكبير جعفر بناهي، الحاصل على "السعفة الذهبية" من مهرجان "كان"، والذي يعرض ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في القسم الرسمي خارج المسابقة، يتناول الفيلم فكرة مميزة للغاية، إذ يواجه مجموعة من السجناء السياسيين السابقين رجلًا يعتقدون أنه كان مسؤولًا عن تعذيبهم في الماضي، ويسعى كلٌّ منهم إلى الانتقام منه وقتله بطريقة مختلفة، غير أن التنفيذ شابه عدد من السلبيات، أبرزها 3 نقاط أساسية، أولًا، على الرغم من طزاجة الفكرة، فإن السيناريو انغمس مجددًا في معضلات جعفر بناهي المعتادة مع السلطة والمجتمع الإيراني دون تقديم أطروحات مختلفة، ثانيًا، اتسم الفيلم بالمباشرة والخطابية الزائدة، واعتمد على مشاهد حوارية أقرب إلى الشكل المسرحي، أما ثالثًا، فقد ظهر تراجع الأداء التمثيلي بوضوح. تيمة العلاقة بين الأباء والأبناء أما الفكرة الثانية، المتعلّقة بعلاقة الأباء بالأبناء، وهي التيمة الأكثر حضورا بين أفلام المهرجان، فقد تجسدت بوضوح في أفلام المسابقة من خلال 6 أفلام، أولهم، الفيلم المصري "كولونيا"، من بطولة أحمد مالك والفلسطيني كامل الباشا، وتأليف وإخراج محمد صيام، تدور أحداثه في ليلة واحدة، يُجبر فيها الأب "عمر" والابن "فاروق" على مواجهة ماضيهما وخلافاتهما السابقة، فيتحول الغضب بينهما إلى تصالح تدريجي، ورغم جرأة الفكرة، فإن الفيلم بدا متواضع المستوى، لاعتماده المفرط على الحوارات المباشرة المتكررة دون إضافة جديدة للحبكة، كما أن العلاقة بين الأب والابن بدت مفتعلة ومبتورة. الفيلم الثاني هو الياباني "بريق الجبال البعيدة" للمخرج كي إيشيكاوا، الذي يسير في خطين زمنيين متوازيين؛ أحدهما في الخمسينيات، والآخر في الثمانينيات، من خلال ذكريات أرملة يابانية عن مدينة ناغازاكي بعد القنبلة، وكيف أثّرت تلك الذكريات في علاقتها بابنتها بعد هجرتها إلى إنجلترا، ورغم حساسية الموضوع، فإن الفيلم جاء متوسط المستوى ومحدود القيمة، وتبدّت أزمته في تشوّش الرؤية الفنية، أما الفيلم الثالث، فهو الروماني "أسنان لبنية" للمخرج ميهاي مينكان، الذي يستعرض فترة حكم الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو عام 1989، حيث تفقد إحدى الأسر طفلتها، فتدخل شقيقتها الصغرى في صراع نفسي مع الأبوين في محاولة لفهم ما جرى. الفيلم الرابع هو الأمريكي "أب، أم، أخت، أخ" للمخرج الكبير جيم جارموش، الحاصل على "الأسد الذهبي" من مهرجان "فينيسيا"، ويُعد من أبرز أفلام المسابقة هذا العام، يقدم الفيلم شبكة مترابطة من العلاقات المعقدة بين الأباء والأبناء عبر 3 قصص معاصرة تدور في الولاياتالمتحدة وإيران وفرنسا، وقد شهد العرض الأول حضور النجمة الأسترالية كيت بلانشيت، التي تتصدر بطولته. أما الفيلم الخامس، وهو الأفضل حتى الآن ضمن المسابقة، فهو الكولومبي "شاعر" للمخرج سيمون ميسا سوتو، الذي تدور أحداثه حول "أوسكار"، شاعر موهوب فقد بوصلته وسط أزمات المجتمع الكولومبي، لتتغير نظرته إلى الحياة حين يلتقي بفتاة صغيرة موهوبة في الشعر تؤثر في علاقته المتوترة مع ابنته، الفيلم السادس هو الهندي "المحاصر"، من إخراج تانوشري داس وساميناندا ساهي، حيث تسعى الأم "مايا" لحماية ابنها بعد أن تكتشف أن زوجها مشتبه به في جريمة قتل، فتلجأ إلى إجراءات صارمة يرفضها الابن. ولم تبتعد تيمة علاقة الأباء بالأبناء عن مسابقة الأفلام الوثائقية أيضًا، إذ جاء في مقدمتها الفيلم المصري "50 متر"، الذي يقدم رحلة ذاتية معقدة ومفعمة بالمشاعر للمخرجة يمنى خطاب، في محاولتها قضاء وقت أطول مع والدها، كما برز الفيلم المصري الفرنسي "الحياة بعد سهام" للمخرج نمير عبد المسيح، وهو تجربة ذاتية يحاول فيها تجاوز وفاة والدته من خلال رحلة بين مصر وفرنسا. من الصين، جاء الفيلم الوثائقي "دائمًا" للمخرج ديمينغ تشين، الذي يروي قصة صبي مراهق يعيش في مدينة ريفية تُدعى شنغاي، كطفل متبنّى لدى أسرة فقيرة، ويحاول التعامل معهم كأباء حقيقيين، والطريف أن المخرج، قبل العرض الأول للفيلم، طلب من الجمهور المشاركة في طقس رمزي اعتاد القيام به قبل عرض أفلامه، إذ دعاهم إلى إغلاق أعينهم للحظات واستحضار ذكريات الطفولة والمواقف التي جمعتهم بأبائهم، كذلك برز الفيلم الصربي "أيتها الرياح، حدّثيني" للمخرج ستيفان ديورجيفيتش، المستوحى من تجارب واقعية داخل نطاق عائلته. أفلام الحضور الجماهيري 3 أفلام تمثل الأكثر حضورًا وزخمًا، الأول المصري "هابي بيرث داي"، المعروض في القسم الرسمي خارج المسابقة، والذي اختارته إدارة المهرجان فيلم الافتتاح، ويمثل مصر في سباق "الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي"، الفيلم إخراج سارة جوهر، التي شاركت في كتابته مع محمد دياب، ونال الفيلم 3 جوائز في مهرجان "ترايبيكا" السينمائي هذا العام، أفضل فيلم روائي دولي، وأفضل سيناريو دولي، وجائزة نورا إيفرون لأفضل مخرجة، ويشارك في بطولته نيللي كريم وحنان مطاوع والطفلة ضحى رمضان، وتدور قصته حول الطفلة "توحة"، التي تعمل في منزل أسرة ثرية، وتبني علاقة إنسانية عميقة مع "نيللي" ابنة أصحاب المنزل، ورغم أن "توحة" لم تعرف يومًا متعة الاحتفال بعيد ميلادها، فإنها تسعى لتنظيم احتفال استثنائي ل"نيللي"، بينما تخفي في داخلها أمنية خفية بأن تختبر هي الأخرى معنى الفرح. وإلى جانب ذلك، قدّم المهرجان عرضًا خاصًا للفيلم المصري "السادة الأفاضل" قبل طرحه في دور العرض، الذي يشارك في بطولته محمد ممدوح وأشرف عبد الباقي وبيومي فؤاد ومحمد شاهين وطه الدسوقي وناهد السباعي وهنادي مهنا وانتصار، وتأليف مصطفى صقر ومحمد عز الدين وعبد الرحمن جاويش، وإخراج كريم الشناوي، وتدور أحداث الفيلم بعد وفاة الأب "جلال"، إذ تنهار حياة عائلة "أبو الفضل" الهادئة، فيجد الابن الأكبر "طارق" نفسه مسؤولًا عن كل شيء، بينما يعود "حجازي" من القاهرة ليكتشف أن التعامل مع مرضاه أسهل من التعامل مع أسرته، وتزداد الأمور تعقيدًا مع ظهور الرجل الغامض "سمير" إيطاليا، الذي يطالب العائلة بمبلغ كبير من المال، لتتحول محاولات الأخوين للإصلاح إلى سلسلة من الكوارث، الفيلم الثالث الأمريكي "فرانكشتاين" للمخرج المكسيكي الشهير غييرمو ديل تورو، رغم أن عرضه الرسمي سيبدأ بعد أيام على منصة "نتفليكس". أفلام وردود أفعال إيجابية من الأفلام التي نالت ردود فعل إيجابية بعد عرضها الأول، الفيلم المقدوني "دي جي أحمد" للمخرج جورجي م. أونكوفسكي، المشارك في القسم الرسمي خارج المسابقة، والذي يروي قصة فتى في الخامسة عشرة من عمره يجد ملاذه في الموسيقى داخل مجتمع محافظ، وفي مسابقة الأفلام الوثائقية الفيلم الأمريكي "أورويل 2 + 2 = 5" للمخرج راؤول بيك، الذي اعتمدعلى دمج مقاطع أرشيفية من رواية "1984" مع صور معاصرة من القرن الحادي والعشرين، كذلك الفيلم الأمريكي "القمر الأزرق" للمخرج ريتشارد لينكليتر، الذي يوثّق مسيرة صعود وسقوط المطرب الأسطوري لورينز هارت في أربعينيات القرن الماضي وأثناء الحرب العالمية الثانية، بمشاركة إيثان هوك وأندرو سكوت. الندوات شهدت ندوة تكريم الممثلة المصرية منة شلبي حضورًا جماهيريًا لافتًا، وأدارها المخرج كريم الشناوي، حيث تحدثت منة عن بداياتها، ودعم كبار الفنانين لها، ومسيرتها الفنية حتى اليوم، كما استعرضت تجربتها مع مختلف الأدوار وأبرز محطاتها الفنية. كذلك استقطبت ندوة تكريم النجمة العالمية كيت بلانشيت اهتمامًا واسعًا، وأدارتها الإعلامية اللبنانية رايا أبي راشد، وقد كُرمت بلانشيت كسفيرة النوايا الحسنة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بحصولها على جائزة "بطلة الإنسانية" خلال فعالية "أنسجة الأمل"، المخصصة لتكريم صمود اللاجئين، وحضرت بلانشيت أيضًا مراسم توقيع مذكرة تفاهم بين مهرجان الجونة ومؤسسة "ساويرس للتنمية الاجتماعية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين." اقرأ أيضا: من الجونة.. نجوم أعلنوا غيابهم عن دراما رمضان 2026 كما نظم المهرجان جلسة حوارية خاصة مع المخرج الكبير شريف عرفة، أدارها الممثل والمؤلف عباس أبو الحسن، تحدّث خلالها عرفة عن مسيرته الطويلة وعشقه للسينما الذي بدأ من خلال والده المنتج رياض العريان، ثم تأثره بأفلام كبار المخرجين، وتجربته مع المؤلف ماهر عواد، ثم مع وحيد حامد، مرورًا بتعاونه مع جيل الألفية الجديدة، متناولًا تطور الإنتاج السينمائي منذ الثمانينيات حتى اليوم. واحتفى المهرجان كذلك بمئوية المخرج المصري العالمي يوسف شاهين، إذ انطلقت الاحتفالية من مدينة الجونة، على أن تستمر حتى يناير المقبل في عدة مدن ومهرجانات حول العالم، منها مونبلييه في فرنسا، وطوكيو في اليابان، وبازل في سويسرا. وشهدت الاحتفالية افتتاح معرض خاص بعنوان "باب الحديد"، يُعيد تعريف العلاقة بين السينما والمكان، ويقوم على فكرة تحرير الصورة نحو فضاء تفاعلي، تمزج فيه الذاكرة بالمسار المكاني، وضمن برنامج التكريم، عرض المهرجان فيلم "إسكندرية كمان وكمان"، إلى جانب 4 أفلام أخرى لمخرجين تأثروا بيوسف شاهين وتتلمذوا على أعماله، وهم الفيلم الجزائري "نهلة" للمخرج فاروق بلوفة، وفيلمان للمخرج التونسي فريد بوغدير هما "السينما العربية الفتية" و"عصفور السطح"، والفيلم المغربي "وداعا فوران" للمخرج داوود أولاد السيد.