"يُروي أن موسي بن نصير فكر بعد فتح إسبانيا في العودة إلى سوريا من بلاد الغول وألمانيا وفي الاستيلاء على القسطنطينية وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن , وأنه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوي أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق , ولو وفق موسي بن نصير لذلك لجعل أوروبا مسلمة ولحقق للأمم المتمدنة وحدتها الدينية ولأنقذ أوروبا على ما يحتمل من دور القرون الوسطي الذي لم تعرفه أسبانيا بفضل العرب" تلك العبارة, قالها المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب", والذي أخرجه عام 1884, محاولا فيه أن يتصدي لمزاعم مؤرخي أوروبا الذين حاولوا سلب فضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة العالمية, والتهوين من تأثير الإسلام على تمدن العالم, وإرجاع الفضل كله للحضارة الإغريقية والرومانية, ويساعدهم على ذلك ما عليه العرب والمسلمون من تأخر وتخلف في الوقت الحالي. و"حضارة العرب" من ترجمة عادل زعيتر, وأعادت "الهيئة المصرية العامة للكتاب" طباعته هذا العام, وطرحته للقارئ العربي بسعر 22 جنيها. وهم همجية العرب رأي الكثيرون أنه لا تاريخ للعرب قبل ظهور الرسول محمد (صلي الله عليه وسلم), وحجتهم في ذلك أن العرب قبل الإسلام كانوا مؤلفين من قبائل متنقلة متناحرة, ولهذا ظلت الجزيرة العربية غارقة في ظلمات التاريخ ولم تظهر على مسرح الأحداث إلا بعد القرن السادس الميلادي. ويري "لوبون" أن هذا الرأي فاسد, ولو لم نعلم شيئا عن تاريخ العرب قبل الإسلام, مؤكدا أن ظهور حضارة العرب لم يكن إلا نتيجة نضج بطئ, وتطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج. وقال لوبون أن شيوع وهم همجية العرب قبل الإسلام, لم ينشأ عن سكوت التاريخ فقط, وإنما بسبب عدم التفرقة بين أهل البدو وأهل الحضر من العرب, والأعراب قبل النبي "محمد" وبعده أجلاف كأجلاف الأمم السابقة الذين لم يكن لهم تاريخ ولا حضارة. ويؤكد العالم الفرنسي أنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة أشور وبابل تقدما, وكان لهم لغة ناضجة وآداب راقية, وصلات تجارية بأرقي أمم الأرض. وبعد خروجهم من الجزيرة العربية أثبتوا أنهم أهل للاقتباس, واستطاعوا في مائة عام أن ينشئوا دولة عظيمة, وحضارة زاهرة. ويشير المؤلف إلى أن أمم عديدة استطاعت أن تهدم دولا عظيمة, ولكنها لم تقدر أن تبدع حضارة, لعدم امتلاكهم ما عند العرب من ثقافة سابقة, فالبرابرة الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية قاموا بجهود عظيمة دامت قرونا عديدة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية. انتشار الإسلام يتصدي "لوبون" لمزاعم مؤرخو أوروبا من انتشار الإسلام لتحلل محمد (صلي الله عليه وسلم) وإباحته لتعدد الزوج, فيقول أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس, فالذي يقرأ القرآن, على حسب زعمه, يجد فيه ما في الأديان الأخرى من صرامة, كما أن تعدد الزوجات لم يكن غريبا على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور الإسلام, وملذات الجنة التي وعُد بها المسلمون لا تزيد على ما وُعد به النصارى في الإنجيل. ويضيف لوبون: "وسيري القارئ حين نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن, فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم, فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين, ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل. وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة , فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.. لم ينتشر القرآن بالسيف إذن, بل وانتشر بالدعوة وحدها, وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول". وأكثر العالم الفرنسي في مواضع كثيرة من ذكر الأمثلة على تسامح العرب ورأفتهم بالمغلوبين, ومن ذلك "أن العرب حاصروا الإسكندرية حصارا دام أربعة عشر شهرا, وقتل في أثنائه ثلاثة وعشرون ألف جندي من العرب, وأن عمرو بن العاص كان سمحا رحيما بأهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أصيب بها العرب , ولم يقس عليهم , وصنع ما يكسب قلوبهم , وأجابهم إلى مطالبهم , وأنفق الأموال الطائلة على شؤونهم العامة". بلاط الشهداء وفتوح المسلمين بلاط الشهداء, هي المعركة التي أوقفت زحف الإسلام إلى قلب أوروبا؛ حسبما يري غالبية المؤرخين, وعدوها واحدة من المعارك الفاصلة في تاريخ البشرية, حيث أنقذت أوروبا النصرانية من الطوفان الإسلامي, وأوقفت الزحف الإسلامي شمالا إلى الأبد. تلك المعركة كان ل "لوبون" رأيا أخر, بدأها بقوله أن لغزوات المسلمين مناحٍ مختلفة, فإما أن تكون للاستقرار أو الغزو الخاطف, فأما في الحالة الأولي فقد كان من سياستهم الثابتة أن يكونوا على وفاق مع الأهالي المغلوبين وأن يحترموا دينهم وشرائعهم وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم, كما حدث في مصر وسورية وأسبانيا. وأما في الحالة الثانية فقد ساروا على سياسة كل فاتح, فاعتبروا كل البلاد التي أغاروا عليها كإيطاليا وفرنسا من الفرائس التي يأخذوا منها ما تصل إليه أيديهم. ويؤكد العالم الفرنسي أنه بعد استقرار العرب في أسبانيا شنوا غارات عديدة على فرنسا , ولم يقع ما يدل على أنهم كانوا يريدون الإقامة الجدية بفرنسا, وذلك لعدم ملائمة الأماكن الباردة لهم, فاكتفوا باحتلال بعض المراكز المهمة في جنوبها لتكون قاعدة يستطيعون أن يشنوا منها غارات جديدة على بعض البقاع, وكانت أهم تلك الغارات التي كانت بقيادة عبد الرحمن الغافقي, الذي سار منتصرا إلى الأمام, مخربا الحقول الخصبة والمدن التي تقابله. يقول لوبون "ونحن إذا علمنا أنه لم يكن من عادة العرب أن ينهبوا البلدان التي يرغبون في استيطانها رأينا أن سلوك الغافقي يدل على أنه بدخوله فرنسة, لم يفكر في غير الغنائم". ودارت المعركة, وظلت غير حاسمة, حتى هجمت فرقة من جيش الفرنجة على معسكر المسلمين, فتركوا ميدان القتال ليحافظوا على غنائمهم, فأسفرت هذه الحركة الخرقاء إلى خسارتهم, وتقهقروا إلى الجنوب, وتتبعهم شارل مارتل, وأخذ ينهب البلاد المجاورة, حتى لقد تحالف أمراء النصارى مع العرب ليتخلصوا من "مارتل". وبعد بلاط الشهداء استرد العرب مراكزهم سريعا, وبقوا في فرنسا قرنين بعد ذلك, ووصلوا في زحفهم إلى سويسرا عام 935 م, وكل ذلك يدل على أن النصر الذي أحرزه "مارتل" لم يكن مهما كما زعم المؤرخون, فلم تكن غزوة عبد الرحمن الغافقي سوي حملة ليستولي على مغانم كثيرة, كما لم يستطع شارل مارتل أن يطرد العرب من أية مدينة احتلوها عسكريا, والنتيجة الوحيدة التي أسفر عنها انتصاره أنه جعل العرب أقل جرأة على غزو شمال فرنسا. ويرد "لوبون" على المؤرخين الذين يهولون من انتصار "مارتل", وأنه لولاه لاستمر العرب في غزواتهم واستولوا على أوروبا قائلا" لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب, وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسا غير بارد ولا ماطر كجو أسبانيا, فماذا كان يصيب أوروبا؟ كان يصيب أوروبا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب أسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي, وكان لا يحدث في أوروبا التي تكون قد هُذبت, ما حدث من الكبائر, كالحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوروبا بالدماء عدة قرون" الحروب الصليبية في هذا الفصل يعقد "لوبون" مقارنة بين الفتح العربي والغارات الصليبية من حيث التسامح وحسن معاملة المغلوبين والسياسة الرشيدة فقال " كانت أوروبا , ولا سيما فرنسا , في القرن الحادي عشر الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولي في أشد أدوار التاريخ ظلاما .. ولم يكن الصراع غير نزاع بين أقوام من الهمج وحضارة تعد من أرقي الحضارات التي عرفها التاريخ". ويذكر لوبون الفظائع التي ارتكبها الصليبيون في زحفهم المقدس! , فكلما اقتربت تلك العصابات من هدفها المأمول زادت جنونا , واقترفوا من الجرائم نحو المسلمين والنصارى ما لا يصدر من غير المجانين من الأعمال الوحشية , وكان من أحب ضروب اللهو إليهم من قتل من يلاقون من الأطفال وتطيعهم إربا إربا وشيهم!!. وقال , بعد أن ذكر الفظائع الوحشية وأعمال التخريب والسلب التي اقترفها الصليبيون في طريقهم للقدس وذبحهم لمئات الألوف من المسلمين والعرب والأبرياء " كان سلوكهم حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى". وعن نتائج الحروب الصليبية يقول "لوبون" أنه لم يكن عند أولئك البرابرة – يقصد الأوروبيون – ما يفيد الشرق , الذي لم ينتفع منهم بشئ في الحقيقة , وإنما استفاد الغرب منها بشكل أكبر , فقد أسقطت النظام الإقطاعي في فرنسا وإيطاليا , وازدهرت التجارة في المدن الإيطالية , اقتبست أوروبا من نور الحضارة العربية مما أدي إلى تقدم الصناعة والتجارة , وتغيير طبائع الأوروبيين , وتهذيب أذواقهم الغليظة . حضارة زاهرة يخصص "لوبون" في كتابه صفحات كثيرة للحديث عن الحضارة الإسلامية, مؤكدا أن العرب فور انتهائهم من دور الفتح وما بذلوا من الجهود في الوقائع الحربية, ما لبثوا أن دخلوا في طور بناء حضارتهم, وأبدعوا في العلوم والصناعة الآداب بمثل سرعة صعود نجمهم العسكري. وأرجع العالم الفرنسي تفوق المسلمين إلى بيئة العرب وذكائهم اللامع وخيالهم الخصب وحيويتهم, فبعد أن خرجوا من صحاري الجزيرة العربية وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية, فأدركوا تفوقها الثقافي, وتفوقها العسكري فيما مضي, فجدوا من فورهم ليكونوا على مستواها. ولم يلبث أن تجلي استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة, ولم يمض سوي وقت قصير حتى تركوا على فن العمارة وسائر الفنون طابعهم الخاص. وأفاض لوبون في إيضاح تمدين العرب لأوروبا وأنتهي إلى ما يأتي "إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم, فالعرب هم الذين هذبوا البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان, وهم الذين فتحوا لأوروبا ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية, فكانوا أئمة لنا ستة قرون .. وظلت ترجمات كتب العرب مصدرا وحيدا تقريبا للتدريس في جامعات أوروبا خمسة أو ستة قرون ". وعن إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم, فيؤكد "لوبون" أنه من الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب, قائلا "ولا شئ أسهل من أن نثبت, بما لدينا من الأدلة الواضحة , أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعناية كالتي هدموا بها التماثيل ولم يبق منها ما يحرق".
وأخيرا يري العالم الفرنسي أن أوروبا تنكرت لفضل العرب بسبب العداء الشديد الذي تكنه لأتباع النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) , فقد كانوا أشد ما عرفته أوروبا من الأعداء عدة قرون , وحتى عندما كانوا لا يرعبون أوروبا بأسلحتهم , كانوا يذلونها بأفضلية حضارتهم الساحقة . وأضاف لوبون إلى ذلك التربية المدرسية الأوروبية التي تزعم أن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي انكارا وجحودا بفضل الإسلام والمسلمين.