شهدت العلاقات المصرية الأمريكية علي مدي ثلاثة عقود موجات المد والجزر، والتي كانت تجتاح تلك العلاقات بين الفينة والاخري وسرعان ما كانت تهدأ أو تنجلي بمجرد تبني واشنطن لواحد من خيارين، إما تقديم بعض المنح الاقتصادية أو التلويح باجراءات لتهميش دور مصر وحرمانها من المعونات الاقتصادية والعسكرية. وقد تناولنا في حلقة الأمس عرضا لموجات المد تلك، وصولا إلي الاجواء التي رافقت الزيارة الاخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس الي القاهرة الاسبوع الماضي. فقد استبق وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، قدوم وزيرة الخارجية إلي القاهرة بالقول إنه لايجب ربط المعونات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لمصر بقضية الإصلاح السياسي، كما أكد وزير التجارة والصناعة علي أن اتفاقات التجارة الحرة التني تبرمها مصر مع أي دولة بما فيها الولاياتالمتحدة ليست من قبيل الهبة أو التفضل علي مصر من قبل هذه الدولة أو تلك وإنما هي تأتي في إطارعلاقات تجارية مشتركة مبنية علي مصالح ومكاسب متبادلة. كماصرح السفير سليمان عواد المتحدث باسم رئاسة الجمهورية بأن قرارات مصر تتخذ من داخل مصر وليس من أي عاصمة أو مكان آخر علي الرغم من اهتمامها بنصائح الشركاء وأشار إلي أن العلاقات مع الولاياتالمتحدة استراتيجية لكن العلاقات الدولية لا تقوم أبدا علي تطابق وجهات النظر في كل الأحوال وإزاء كل المواقف والقضايا وعمليا،كما رفض المصريون الاضطلاع بأي دور من شأنه أن يمارس ضغوطا علي حركة حماس للتخلي عن ثوابتها وطالبوا بألا يتوقف الدعم الدولي والعربي للشعب الفلسطيني ولحكومة الرئيس أبو مازن وأن تتوقف إسرائيل عن تجاوزاتها وتلتزم بما عليها من واجبات. وفيما يخص المسألة الإيرانية، رفضت مصرخيار استخدام القوة ضد إيران أو محاصرتها، كما طالبت بأن يتم التعاطي مع الحالتين الإيرانية والإسرائيلية بميزان واحدا في إطارالمساعي الرامية إلي إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. وأحسب أن ما بدا عليه الموقف المصري هذه المرة حيال ما يمكن أن يوصف بالإملاءات أو الضغوط الأمريكية، إنما تمخض عن صلابة مصرية تستند إلي قاعدتين أساسيتين: أولاهما، الرفض المصري الرسمي الشديد لأي تدخل أمريكي صريح في الشأن الداخلي المصري ،أيا كانت المبررات أو الدوافع، أوتحت مظلة الدعوة إلي الإصلاح السياسي ودعم حقوق الإنسان، لاسيما الأقليات. فالخوض في مثل هذه الأمور يتسم بحساسية شديدة لدي المصريين، الذين تكتسب عندهم الأمور السياسية والعقائدية مسحة خاصة ويتم التعاطي معها من منظور مختلف وبوتيرة تجنح باتجاه البطء والحذر الشديدين،علي نحو يجعلهما أقرب إلي "التابو" وهو الأمر الذي طالما تفهمته واشنطن وتقبلته إدارات أمريكية عديدة متعاقبة بعد أن استعاضت عن الخوض فيها بتعاون مصري ملموس علي صعيد السياسة الخارجية في محيط مصر الإقليمي الذي تحظي فيه القاهرة بثقل ملحوظ كثيرا ما برع الأمريكيون في الإفادة منه. وإذا كانت إدارة الرئيس بوش الابن قد عمدت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، إلي الاصطدام ب "التابو" العربي وفي صدارته ذلك المصري، لا سيما بعد أن انخفضت حرارة التعاون والتنسيق المصري الأمريكي فيما يتصل بالترتيبات الأمريكيةالجديدة والمشبوهة بالمنطقة، فإن القاهرة قد نجحت من جانبها في تحري إجراءات مضادة لا تقل قوة حينما نجعت في تجييش و توظيف مشاعر التوجس والقلق الشعبي من مزاعم إدارة الرئيس بوش بشأن إقرار الديمقراطية في العالم العربي حتي لو اضطرت للاصطدام بحلفائها التقليديين فيها والإطاحة بأنظمتهم المهترئة. حيث أفضي فشل أمريكا الذريع في العراق بعد قرابة أربع سنوات من غزوه واحتلاله تحت شعار "الحرية للعراق"، إلي تآكل صدقية الادعاءات الأمريكية بشأن السعي لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، ومن ثم إلي إيجاد رأي عام عربي غير مرحب بالطروحات والمبادرات الأمريكية في هذا الصدد، الأمر الذي أوجد أرضية داخلية صلبة للأنظمة العربية الحاكمة استندت عليها في رفض مثل هذه المبادرات، ومن ثم تصعيد سقف رفضها لإملاءات أمريكية عديدة في هذا الإطار. وعلي صعيد السياسات الإقليمية لمصر، والتي طالما شكلت ساحة للاختلاف والتباين في وجهات النظر بين القاهرةوواشنطن علي خلفية الالتزامات القومية والإسلامية للمصريين، فقد اصطدمت المطالبات الأمريكية للنظام المصري خلال زيارة رايس الأخيرة بشأن حركة حماس، إيران وسوريا والعراق ب "تابو" مصري آخر يتمثل في اعتبارات الدور الإقليمي والإسلامي لمصر والذي لا تقبل القاهرة المزايدة عليه أو النيل منه لمصلحة أي طرف حتي لو كان الولاياتالمتحدة، وهي الاعتبارات التي تلقي صدي واسعا محليا وإقليميا في ظل تصاعد مشاعر الارتياب العربي والإسلامي من المخططات الأمريكية حيال المنطقة. لذا، قوبلت هذه المطالبات برفض مصري صريح يتكيء هو الآخر علي قدر لا بأس به من التوافق العربي والإسلامي علي الصعيدين الرسمي والشعبي.