ألفت العلاقات المصرية الأمريكية علي مدي عمرها الذي قارب الثلاثة عقود، موجات المد والجزر التي تجتاح تلك العلاقات ما بين الفينة والأخري والتي سرعان ما كانت تهدأ أو تنجلي بمجرد تبني واشنطن لواحد من خيارين، إما تقديم بعض المنح الاقتصادية أو تلويح الإدارة باللجوء لبعض الإجراءات كالحرمان من المعونات الاقتصادية والعسكرية ،تهميش الدور المصري أوإستبعاده من ترتيبات إقليمية معينة. في واقع الأمر إن ثمة توتراً حقيقيا مكتوما ينتاب منذ سنوات، بدت بعض مؤشراته مؤخرا في ردود الفعل الأمريكية الرسمية الغاضبة التي أعقبت الاستحقاقين الرئاسي والبرلماني اللذين شهدتهما مصر تباعا خلال الثلث الأخير من العام الماضي، بالإضافة إلي ما صاحبهما أو تلاهما من تطورات داخلية مهمة شهدتها الساحة السياسية المصرية خلال الأشهر القليلة الماضية وتركت صدي ودويا لدي الجانب الأمريكي، كان من أبرزها، قضية الحكم علي رئيس حزب الغد المصري الدكتور أيمن نور، الذي تعتبره واشنطن ناشطا ليبراليا ورمزا فاعلا من رموز المعارضة المصرية، علاوة علي إقدام القاهرة بشكل مفاجيء، وقبيل أيام من زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في مستهل جولة لها بالمنطقة، علي الإعلان عن تأجيل عملية إجراء الانتخابات المحلية لمدة عامين، وهوالأمر الذي أثار استياء واشنطن، التي اعتبرت بدورها مثل هذه الإجراءات ارتدادا بعملية التحول الديمقراطي المستعصي في مصر إلي الوراء. ووسط هذه الأجواء السياسية الداخلية الملبدة بالغيوم، والتي صاحبتها حزمة من الأزمات والإخفاقات الحكومية التي تضافرت الطبيعة مع سوء الإدارة كيما تفاقم من تداعياتهاالسلبية علي الصعيدين الداخلي والخارجي، تنشط المساعي والتحركات الأمريكية لا ستغلال الفرص والطرق علي الحديد وهو ساخن عبر ابتزاز القاهرة ومعاقبتها علي مواقف وسياسات قد يعتبرها المصريون شجاعة فيما هي تبدو من وجهة النظر الأمريكية مناهضة لاستراتيجية الإدارة ومشاريعها في المنطقة. من هذا المنطلق، تبدأ الإجراءات العقابية أولي خطواتها بهجوم إعلامي أمريكي انتقادي علي مصر بغرض تمهيد السبيل أمام ضغوط سياسية مكثفة توطئة لابتزاز القاهرة. وبدورها، استهلت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية الحملة الأمريكية علي النظام المصري عندما أوردت علي صدر أولي صفحاتها نماذج لتجاوزات انتخابية تم رصدها إبان الانتخابات البرلمانية التي شهدتها مصر مؤخرا والتي وصفتها الصحيفة في إفتتاحيتها ب "لقبيحة"، كما أكدت صراحة علي أن النظام الحاكم في مصر قد استنفد ذرائع ومبررات إرجاء عملية الإصلاح، حتي إنها طالبت إدارة الرئيس بوش بإعادة النظر في المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية المقدمة لمصر. وبدورهم، أعرب مسئولون في الإدارة عن أسفهم لطريقة تعاطي النظام في مصر مع هذه الانتخابات، التي اعتبروها مخيبة للآمال بشأن الإصلاح السياسي في مصر، بعد أن نالت التدخلات الحكومية الفجة لتعظيم فرص الحزب الوطني الحاكم في الفوز بها، من نزاهة تلك الانتخابات وشفافيتها. وعلي صعيد مواز، أعلن الممثل التجاري الأمريكي روب بورتمان أن بلاده ليست مستعدة في الوقت الراهن لبدء المفاوضات الرسمية مع مصر حول اتفاقية التجارة الحرة رغم أن كلاً من وزير التجارة المصري رشيد محمد رشيد والسفير الأمريكي لدي القاهرة فرانسيس ريتشارد سبقا وأن أعلنا عن الانتهاء من أعمال الإعداد الإداري والتحضيرالفني لتلك المفاوضات في شهر ديسمبر الماضي ،وهو ما بررته وزيرة الخارجية الأمريكية من جانبها خلال زيارتها الأخيرة للقاهرة بأن الجو السياسي داخل الكونجرس الأمريكي غير مهيأ هذه الأيام لطرح هذا الموضوع. وما إن حانت اللحظة الحاسمة حتي حلت رايس علي القاهرة وفي جعبتها حزمة من المطالب والطروحات إلي الجانب المصري، وكلها ثقة في أن يمتثل لها المصريون، الذين ارتكنوا إلي تلاشي الصدام مع الولاياتالمتحدة ومن ثم تجنب غضبها الذي يستتبع حرمانا من عطاياها السخية نوعا ما لبلد يواجه المشاكل الاقتصادية وتحفه نقاط الضعف التي طالما يبرع الأمريكيون في استغلالها وتوظيفهاعلي الوجه الأمثل. فإلي جانب ضرورة المضي قدما في مسيرة الإصلاح السياسي بغير تراجع أو مماطلة ودونما إبطاء، تضمنت المطالب الأمريكية مقترحات بأن تضطلع القاهرة ،بكل ما لها من ثقل إقليمي، بدور ملموس في دعم المساعي الأمريكية الرامية إلي محاصرة كل من إيران وحركة حماس وتضييق الخناق عليهما كيما ينصاعا للضغوط الأمريكية ويذعنا لمطالب إدارة الرئيس بوش، هذا إلي جانب محاولة إقناع سوريا بالإذعان للضغوط الأمريكية وتسهيل عملية تنحية الرئيس اللبناني إميل لحود علي اعتبار أن الرئيس بشار كان وراء التمديد له فيما اعتبرته واشنطن مخالفا للقرار1559،فضلا عن دعم الحكومة العراقية الجديدة ومساندة الجهود الرامية إلي تقويض الممارسات والحركات الإرهابية في عراق ما بعد صدام. وإذا كانت أجواء التوتر في العلاقات المصرية الأمريكية ،بكل ما يعلق بها من تداعيات أو تهديدات، ليست بالأمر المستحدث علي القاهرة،فإن ما يستجدي التأمل و الوقوف عنده هذه المرة وسط هذا الخضم المتلاطم الأمواج، هو ردود الفعل المتماسكة والحماسية من جانب المسئولين المصريين علي اللهجة الحادة التي اتسمت بها تصريحات المسئولين الأمريكيين الحادة قبيل زيارة رايس للقاهرة، إلي جانب ما طوته تصريحات تلك الأخيرة إبان الزيارة في ثناياها من تهديدات وتحذيرات أمريكية بشأن إعادة النظر في بعض صور الدعم المقدم للقاهرة، إما في صورة مساعدات مباشرة أو استثمارات غير مباشرة أو اتفاقات للتعاون التجاري والاقتصادي. حيث حرص المسئولون المصريون علي إبراز قدر لا بأس به من الثبات والجرأة حيال المحاولات الأمريكية الرامية إلي الابتزاز واستغلال الفرص،تتجاوز مجرد الاكتفاء بالتأكيد علي قوة وعمق العلاقات بين البلدين الصديقين رغم أية اختلافات وقتية عابرة في وجهات النظر.