كأن باكستان أصبحت على عهدٍ دائم من الأزمات، فلا تكاد البلاد تخرج من أزمة حتى تلاحقها أخري وهو ما تحقَّق بالفعل فما برحت البلاد ومعها حزب الشعب الحاكم يتجاوز عملية اغتيال حاكم إقليم البنجاب "سلمان تيسير" على يد حارسه الشخصي حتى تعرض لضربة قويَّة تمثَّلَت في حالة الغضب الشعبي على قرار حكومة سيد رضا جيلاني بزيادة أسعار المحروقات وما تلاه من اضطرابات شعبيَّة أسهمت في تحويل حكومة الحزب لحكومة أقليَّة في البرلمان الاتحادي بعد انسحاب حزبي الحركة القوميَّة المتحد وعلماء الإسلام من الائتلاف، وسط تلويح من قبل حزب الرابطة الإسلاميَّة جناح نواز شريف بالدعوة لانسحاب حزبه من حكومة البنجاب في حالة عدم استجابتها لما سماه الحزب بإصلاحات ضروريَّة خلال ثلاثة أيام. ورغم استجابة جيلاني لمطالب التيارات الشعبية والأحزاب السياسيَّة وتراجعه عن رفع أسعار المشتقات النفطيَّة فإن اغلب الترجيحات تشير إلى أن حكومة حزب الشعب مقدمة على اختبارات صعبة الواحدة تلو الأخرى، فقرارات هذه الحكومة لم تعد تحظي برضا الداخل أو الخارج على حد سواء لدرجة أن كثيرين أصبحوا ينظرون إليها كبطة عرجاء وحكومة تصريف أعمال غير قادرة على اتخاذ قرارات صعبة وتحمل تبعاتها ورغم هذا الوضع إلا أن أحزاب المعارضة الرئيسية تراجعت عن مسعى بإجراء اقتراع بسحب الثقة عن حكومة جيلاني رغم يقينها التام من احتمالات نجاحها في إسقاط هذه الحكومة مخافة أن يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار الهشّ في البلاد بحسب راجا ظفر أحد أبرز المقربين من زعيم المعارضة نواز شريف أو يعيد خيار عودة العسكر للسلطة لصدارة المشهد السياسي الباكستاني. أرض محروقة ولا شكّ أن فقدان حكومة حزب الشعب لأغلبيتها داخل البرلمان سيزيد من صعوبة موقفها في اتخاذ فرارات سياسية أمنية صعبة مثل توسيع نطاق المواجهات المسلحة مع حركة طالبان باكستان بناء على رغبات ملحَّة من إدارة أوباما فمثل هذه العمليات تحتاج لغطاء سياسي قد يسبغ عليها بعض الشرعيَّة خصوصا أن قطاعات عديدة من الشعب لا تبدي ارتياحا لمثل هذه العمليات باعتبارها تمثّل خطورة على استقرار ووحدة البلاد، ناهيك عن العراقيل التي ستوضع أمام حكومة الأقلية لتمرير أي مشاريع قوانين تحتاج لأغلبيَّة مريحة، بل أن هذه التعقيدات الأمنية والاقتصادية ستجعل هذه الحكومة تقع بين فكي نواز شريف وقادة المعارضة، واللذين لن يجدا أدنى صعوبة في إسقاط هذه الحكومة متى رأوا ذلك مناسبًا. ولكل ما سبق فإن الكثيرين لم يجدوا صعوبة في تفسير موقف حزب الرابطة الإسلامية وتراجعه عن مسعى إسقاط حكومة حزب الشعب في ظلّ التوتر التاريخي في علاقات الحزبين والمتفاقم مع اعتلاء ذرداري زعامة الأخير فحزب نواز الشريف يدرك بجلاء صعوبة الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة في باكستان وعدم ملاءمة التطورات في البلاد لميلاد حكومة بقيادته في هذه الظروف المعقدة، لا سيَّما أن العلاقات المتوترة مع واشنطن وتفاقم الصراع مع حركة طالبان قد يحول مهمة حكومة كهذه إلى مهمَّة انتحاريَّة وهو ما دعاه للتريث وعدم المضي قدما في إجراءات سحب الثقة وترك سفينة حزب الشعب تغرق في ظلّ محاصرتها بالأزمات. اختبارات صعبة وسواء نجحت حكومة جيلاني في الإبقاء على أغلبية بسيطة داخل البرلمان عبر انتزاع ضمانات من الحركة القومية أو حزب حركة العلماء في تأييد الحكومة داخل البرلمان حتى لو رفضوا العودة للتشكيلة فإن الأمر لن يتجاوز كونه مسكنات مؤقتة، لن تجعل مثل هذه الحكومة بمنأى عن الاختبارات الصعبة في ظل الاستياء الشعبي الشديد من أدائها في مختلف الملفات وتصاعد الاتّهامات لها بالفساد والعجز عن تقديم حلول قوية لمختلف الأزمات التي تعاني منها البلاد، فضلا عن اتهامات تطول قادتها بعدم الكفاءة وافتقاد الخبرة السياسية اللازمة لحكم بلد بوزن باكستان. وفاقم من الوضعية الصعبة لهذه الحكومة صدور إشارات أمريكيَّة متتالية ترفض تعاطي حكومة جيلاني مع الأزمة الأخيرة وتراجعها عن إقرار الزيادات الأخيرة في أسعار المحروقات أبرزها تأكيد وزيرة الخارجيَّة هيلاري كلينتون على أن قرارًا بالتراجع عن رفع الأسعار كان خطأً وما تلاه من تأكيد السفير الأمريكي لدى إسلام أباد. كاميرون مونتر على أن تدخل بلاده في إدارة باكستان للملفات الاقتصاديَّة والسياسيَّة حق بوصفها أكبر مانح للمساعدات، وهو ما اعتبر تغييرًا في النهج الأمريكي تجاه حكومات باكستان المتتالية حيث كانت واشنطن تفضل إبقاء مثل هذه الانتقادات في حيز السرية لعدم إحراج أبرز حلفائها فيما كان يطلق عليه الحرب على الإرهاب. سلَّة العسكر ويبدو أن تغيير النهج الأمريكي في التعامل مع ساسة إسلام أباد يشير إلى أن واشنطن لم يعدْ لها أدني ثقة في الحكم المدني في باكستان في ظلّ ما شهدته الفترة الماضية من تطورات متتالية أكَّدت وجود نوع من الازدواجيَّة في إدارة ملفات الحكم، ففي الوقت الذي أبدت حكومات باكستان المتتالية مواقف تسير في إطار قطع العلاقات مع حركة طالبان وإغلاق كافة النوافذ معها نجد المخابرات العسكريَّة الباكستانيَّة متورطة حتى النخاع في تقديم دعم لوجيستي واستخباراتي للحركة المعادية لواشنطن، وهي صلات أخفقت واشنطن في الحدّ منها رغم الدعم الأمريكي السخي للمؤسَّسة العسكريَّة الباكستانيَّة. من البديهي أن مثل هذه المواقف والأزمات والضعف الشديد لأغلب الحكومات المدنية الباكستانية سيجعل واشنطن تفضل الرهان على وضع البيض كله في سلَّة العسكريين الباكستانيين والتعامل معهم باعتبارهم أصحاب اليد الطولى في البلد المضطربة منذ عقود، دون أن يعني هذا قطع الصلات تمامًا مع الأحزاب التقليدية في ظل يقين أمريكي بعدم تفضيل قائد الجيش الباكستاني الجنرال إشفاق كياني عودة العسكريين للسلطة بشكل مباشر طالما أن الأوضاع ما زالت تحت السيطرة ولم تتجاوز الخطوط الحمراء التي تستوجب عودة الجيش للسلطة. وتخشى واشنطن بشدة من تقديم فشل الحكم المدني للبلاد ودخولها في موجة من الاضطرابات السياسية فرصة لمقاتلي طالبان باكستان لتعزيز أرضيتهم داخل البلاد وبل العمل على إشعال التوتر على الحدود مع أفغانستان، وتوفير ملاذ آمن لمقاتلي طالبان والقاعدة بشكلٍ يزيد من صعوبة أوضاع قواتها هناك، وهو ما يفسر رغبتها في إيجاد نوع من الاستقرار السياسي وتوفير قاعدة عريضة للحكومة الحالية أم بممارسة ضغوط على نواز شريف للدخول في شراكة مع حزب الشعب عبر حكومة ائتلافيَّة قويَّة أو إقناع أحزاب المعارضة بالعودة إلى تأييد حكومة جيلاني فيما يظل التلويح بخيار عودة العسكر للسلطة واردًا. دعم عاجل ولا تفضل واشنطن كذلك استمرار معاناة باكستان من أزمة اقتصادية فهي رغم اعتراضها الشديد عن تراجع حكومة جيلاني عن إحداث زيادة لافتة في أسعار المحروقات وفشله في تحقيق الأهداف الأربعة المتمثلة في توسيع القاعدة الضريبيَّة، واستحداث مصادر جديدة للإيرادات، والقضاء على الإرهاب والتطرف، وطرد الإرهابيين الدوليين قد لا تجد بدًّا من تقديم معونة ضخمة لإنقاذ الاقتصاد من عثرته حتى لا يشغل التركيز في حلّ هذه المعضلة أنظار العسكر والحكومة عن مواجهة التحديات الأمنية الخاصة بالحليف الأمريكي سواء في مناطق القبائل أو على الحدود مع أفغانستان. ويبدو من اللافت التأكيد أن واشنطن قد تربط مثل هذه المعونات بانتزاع تعهدات مع الحكومة الباكستانيَّة والعسكر بضرورة إقرار سياسات تزيل حالة الشكوك التي تعاني منها العلاقات الأمريكيةالباكستانية وتعمل على ترطيب الساحة السياسية الباكستانية ومنع انجرا ر البلاد لموجة من الاضطرابات والكفّ عن تبني سياسات مزدوجة فيما يتعلق بالأوضاع داخل أفغانستان سواء استمرت حكومة حزب الشعب في السلطة أو تَمّت الدعوة لانتخابات مبكرة قد تعيد حزب الرابطة الإسلامية إلى السلطة بعد أحد عشر عامًا من فقده إثر انقلاب عسكري قاده برفيز مشرف. ومن الصعوبة بمكان إيجاد حليف باكستاني مهما كانت قوته قادر على الوفاء بالتزاماته تجاه واشنطن فحالة الشكوك التي تسيطر على علاقات الولاياتالمتحدةوباكستان تجعل أي حكومة باكستانيَّة تفضل التريث كثيرا قبل الرهان على الموقف الأمريكي وهو ما يقابل باستياء أمريكي واضح مما يجعلها تمحص خياراتها وتفكر كثيرا في الاحتفاظ بورقة الجيش باعتباره طوق النجاة لاستراتيجيتها في البلاد. أمر واقع وطبقًا للمعطيات السابقة فإن باكستان وفي ظلّ أزماتها المتتالية واستمرار البرود مسيطرا على علاقتها مع واشنطن تبدو مقدمة على خيارات صعبة فالحكومات المدنية وطوال سنوات حكمها لباكستان تبدو عاجزة عن تقديم نفسها كبديل قوي وتقديم إشارات على إمكانيَّة نضجها مستقبلًا فيما لا يفضل الجيش حاليًا العودة للسلطة، وهو موقف يشاطره إياه رئيس الوزراء السابق نواز شريف، وهو ما يشير إلى أن احتمالات استمرار حكومة حزب الشعب في السلطة رغم إخفاقاتها المتكرِّرة يبدو الخيار الوحيد، طالما أن الأوضاع لم تصل لمرحلة تتجاوز معها البلاد الخطوط، وطالما أن الأمور كذلك فإن استمرار محور ذرداري –جيلاني في السلطة هو الأرجح حتى إشعار آخر، طالما كان ذلك بتوافق بين كافة القوي في الداخل والخارج، ودون أن تبدو في الأفق علامات على وجود رغبة في تعديل الخريطة السياسيَّة والإتيان بحلفاء جدد قادرين على الوفاء بفاتورة الطموحات الأمريكيَّة. المصدر: الإسلام اليوم