من جامعة القاهرة إلى "ستانفورد" بالولايات المتحدة شق البروفيسور المصري عباس الجمل "أستاذ كرسي هيتاشي أمريكا" فى كلية الهندسة بجامعة ستانفورد طريقًا علميًا غير مألوف، ليصبح اليوم صاحب الفضل في التقنيات التى يستخدمها البشر حول العالم، فبفضل أبحاثه الرائدة في حساسات الصور والرقائق الذكية، تحولت الهواتف المحمولة من مجرد أدوات للاتصال الصوتي إلى كاميرات احترافية وحواسيب فائقة الدقة تغزو العالم أجمع. احتفاءً بهذا الإنجاز العلمي حصد الجمل قبل أيام جائزة "نوابغ العرب 2025" عن فئة الهندسة والتكنولوجيا بدولة الإمارات، تقديرًا لبصمته التاريخية فى صياغة المستقبل الرقمي، وبهذه المناسبة أجرت "آخرساعة" هذا الحوار مع النابغة المصري الذي يكشف فيه كواليس رحلته من الإحباط الأول إلى القمة العالمية، ورؤيته لمستقبل الذكاء الاصطناعي والشبكات التى ستربط مليارات الأجهزة حول كوكب الأرض. ◄ تقنية «FPGAs» حررت المصممين من تكاليف التصنيع الباهظة ◄ فكرت في العودة لمصر بعد فشلي بأول اختبار.. لكنني أنهيت العام ب«امتياز» ◄ في 1997 استبعدوا فكرة استبدال الكاميرات التقليدية بالحساسات الرقمية ◄ الشبكات القادمة لن تنقل البيانات فقط بل ستتخذ القرارات لمليارات الأجهزة ◄ ما الذي دفعك لاختيار مجال الاتصالات ونظرية المعلومات منذ البداية؟ فى جامعة القاهرة درست هندسة الإلكترونيات والاتصالات، ثم ركزت بشكل أساسى على الإلكترونيات خلال عملى كمعيد. وفى الوقت نفسه كان لدىّ شغف دائم بالرياضيات. وعندما التحقت بجامعة ستانفورد، شعرت أننى أمتلك معرفة كافية بالإلكترونيات وأردت الانتقال إلى مواضيع أكثر تعمقًا فى الجانب النظرى، وبدأت بدراسة مساقات تركز على الأسس الرياضية للهندسة الكهربائية، ثم تحدثت مع البروفيسور توماس كوفر، الذى أطلعنى على مجال "نظرية معلومات الشبكات "Network Information Theory" (علم يدرس القواعد الرياضية التى تحدد كفاءة وسرعة نقل البيانات عبر الشبكات المعقدة)، وبما أنه أحد رواد هذا المجال، فقد أثر حماسه فىّ بشدة، وقررت متابعة دراسة الدكتوراه فى هذا التخصص. ◄ كيف تصف رحلتك الأكاديمية من جامعة القاهرة إلى ستانفورد؟ كان الفصل الدراسي الأول في ستانفورد تحديًا كبيرًا، فقد اخترت دراسة دورات متقدمة في الرياضيات والاحتمالات لكى أهيئ نفسى للبحث في علوم المعلومات، وما زلت أتذكر أول اختبار قصير خضته في مادة علم الاحتمالات (القواعد الرياضية التى تتوقع فرص وقوع الأحداث وتُستخدم لتصميم أنظمة اتصالات دقيقة وسريعة) وكانت نتيجتى كارثية. وأثناء عودتى للمنزل، ظل يراودنى شعور بأننى لا أصلح لهذا المجال وأن علىّ الانسحاب والعودة إلى مصر، لكن بدلًا من ذلك، ذهبت إلى المكتبة واستعرت كتابًا تمهيديًا فى الاحتمالات وقضيت اليومين التاليين فى دراسته كما يقولون "من الجلدة للجلدة"، وهذا الجهد أتى بثماره، حيث أنهيت الفصل الدراسى بتقدير امتياز فى جميع المواد، ومنذ تلك اللحظة، لم أواجه أى صعوبة فى التكيُّف مع النظام الجامعى الأمريكى، لأنه يركز على التفكير النقدي والتحليل بدلًا من الحفظ والتلقين. ◄ اقرأ أيضًا | مدير إدارة المساحة العسكرية: رصدنا 2 مليون تعدٍ على أملاك الدولة| حوار ◄ ما أبرز التحديات التي واجهتك في مسيرتك البحثية، وكيف تغلبت عليها؟ التحديات الأساسية كان سببها تغيير تخصصي عدة مرات، فقد بدأت مسيرتي في "نظرية المعلومات"، حيث قمت بحل عدد من المسائل المعقدة وأصبحت معروفًا فى هذا المجال، وعندما قررت الانتقال إلى مجال "تصميم الدوائر المتكاملة" "Integrated Circuit Design" (عملية تصميم الرقائق الإلكترونية الدقيقة التي تشغل الأجهزة الحديثة)، لم أكن معروفًا فى ذلك الوسط، وواجهت صعوبة فى البداية لقبول أبحاثى فى المؤتمرات الرائدة. لم يكن هذا الانتقال سهلًا؛ أن تتحول من باحث مرموق إلى "دخيل" على مجال جديد، لكن لحسن الحظ، ومن خلال إسهاماتى فى تطوير مصفوفات البوابات المنطقية القابلة للبرمجة "FPGAs" (شرائح إلكترونية يمكن إعادة برمجتها وتعديل وظائفها بعد تصنيعها) أصبحت معروفًا تدريجيًا وبدأت أبحاثى تُقبل. وبعد عدة سنوات قررت العمل على حساسات الصور "Image Sensors"، وهو مجال كنت أعرف عنه القليل فى ذلك الوقت. ومرة أخرى، وجدت نفسى غريبًا فى مجتمع علمى جديد، لكن فى النهاية حققت شهرة واسعة فى هذا المجال أيضًا، واختير أحد أبحاثنا ضمن أفضل 50 بحثًا فى تاريخ هذا التخصص. باختصار، ما ساعدنى على تجاوز هذه التحديات كان الإيمان الراسخ بالمشاريع التى دفعتنى لتغيير تخصصي، والمثابرة أمام العثرات، والثقة بالنفس. ◄ أي من إنجازاتك البحثية تعتبرها الأكثر محورية في حياتك المهنية؟ أعتقد أنه كتابى "نظرية معلومات الشبكات" الصادر فى عام 2011، والذى كان تتويجًا ل30 عامًا من البحث والتدريس، ويأتى فى المرتبة التالية مباشرة ابتكار بنية "Actel FPGA" عام 1986، وعملى على "حساسات الصور ذات البكسل الرقمى (Digital Pixel Image Sensors) فى التسعينيات. ◄ كيف ترى تأثير أبحاثك على حياة الناس والتكنولوجيا الحديثة؟ كان لتقنية FPGAs تأثير هائل على طريقة تصميم الأنظمة الإلكترونية، ولفهم السبب يجب معرفة البدائل التى كانت متاحة فى ذلك الوقت؛ فقبل ظهور هذه التقنية كان أمام المصممين خياران: إما تصميم شريحة من الصفر وتصنيعها فى مصانع أشباه الموصلات المكلفة، أو استخدام مصفوفات بوابات مبرمجة مسبقًا لا يمكن تعديل سوى طبقات بسيطة منها، وكلا النهجين يتطلب وقتًا طويلًا وتكاليف باهظة، وأى خطأ يعنى البدء من جديد. فى المقابل، توفر تقنية FPGAs شرائح جاهزة يمكن للمصمم تعديل وظائفها كهربيًا على مكتبه فورًا، ما قلّل الوقت والتكلفة بشكل مذهل، وسمح بالتجربة والابتكار دون خوف من الخسائر المادية. أما عملنا فى حساسات صور "CMOS Image Sensors" (سى إم أوه إس هى التقنية التى تحول الضوء إلى إشارات رقمية لإنتاج الصور)، فقد بدأ كمخاطرة كبيرة، ففى عام 1991، كانت الهواتف المحمولة أجهزة للاتصال الصوتى فقط، والكاميرات تعتمد على الأفلام التقليدية أو تقنية قديمة تسمى CCD وكانت هذه التقنية تستهلك طاقة عالية ولا تتوافق مع تكنولوجيا CMOS المستخدمة فى معظم الدوائر المتكاملة، وفى عام 1997 نظمت ندوة بعنوان "هل ستحل CMOS محل CCD؟"، وكان معظم الحاضرين مقتنعين بأن الإجابة هى "لا" قاطعة، والآن أصبح الأمر جزءًا من الماضى؛ فحساسات CMOS موجودة اليوم فى كل هاتف محمول فى العالم، وفى أجهزة الكمبيوتر، وأنظمة أخرى لا حصر لها. ◄ كيف توازن بين العمل الأكاديمي والمشاركة في الشركات والمشاريع الصناعية؟ الإجابة هى ببساطة: العمل بجهد مضاعف. لمتابعة المشاريع الصناعية والريادية كنت أحصل على إجازات من منصبى فى ستانفورد، والحقيقة أن سماح الجامعة بمنحى هذه الإجازات يعكس رؤيتهم طويلة المدى، فهم يدركون أن اكتساب خبرة هندسية عملية يثرينى كباحث ومعلم، ويجعلنى عضوًا أكثر فاعلية فى هيئة التدريس. وعندما أكون فى ستانفورد، أكرّس نفسى بنسبة 100% لواجباتى كأستاذ وباحث ومشرف على طلاب الدراسات العليا. ◄ ما النصيحة التي تقدمها للباحثين المصريين الشباب الطامحين للعمل دوليًا في الهندسة والاتصالات؟ أهم نصيحة هى أن تؤمن بنفسك وتثابر ولا تسمح أبداً للتحديات - وهى كثيرة - بأن تعوق سعيك إلى النجاح. ومن الضرورى أيضًا أن تثق بحدسك فيما يتعلق باتجاهات التكنولوجيا والمشكلات التى تستحق الحل، وألا تخشى أبدًا خوض المخاطر المدروسة. ◄ هل هناك مشاريع حالية تعمل عليها وتود مشاركتها مع القراء؟ أعمل حاليًا على مراجعة شاملة للكتاب الكلاسيكى "عناصر نظرية المعلومات" (Elements of Information Theory)، وهو الكتاب الأكثر انتشارًا فى هذا التخصص عالميًا. وبعد وفاة مؤلفيه الأصليين، دُعيت لإعداد الطبعة الثالثة، وأخطط لإدراج تطبيقات نظرية المعلومات فى مجالات حديثة مثل "الذكاء الاصطناعى" و"علوم الحاسوب". ◄ كيف ترى مستقبل الاتصالات الرقمية ونظرية المعلومات خلال العقد القادم؟ نحن ننتقل من عالم يربط الأشخاص والحواسيب، إلى عالم يربط مليارات الأجهزة؛ من الحساسات التى تراقب بيئتنا، إلى المبانى والمركبات الذكية، والروبوتات التى تتواصل مع بعضها بسلاسة. وهذا التحول يفرض تحديات هائلة على شبكات الاتصال التى سيتعين عليها التعامل مع عدد من المستخدمين يفوق ما عهدناه بمراحل، إذ لن يقتصر دور الشبكات على نقل البيانات فحسب، بل ستلعب دورًا مركزيًا فى عمليات الحوسبة ودعم اتخاذ القرار. ◄ كيف يمكن للباحثين العرب المساهمة بفاعلية أكبر في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة الذكية؟ الباحثون العرب يقدمون بالفعل مساهمات مهمة، لكن معظمهم يتواجد فى الخارج. ويمكن للباحثين داخل العالم العربى الاستفادة بشكل كبير من التعاون مع هؤلاء الخبراء. وهذا التعاون يمكن أن يتخذ أشكالًا عديدة، بدءًا من المشاريع البحثية المشتركة والمحاضرات وصولًا إلى الاستشارات العلمية. ◄ أهم إنجازات النابغة المصري ◄ أسهم في تطوير مصفوفات البوابات القابلة للبرمجة (FPGA) التى دعمت إحداث تحوّل جوهري في تصميم الدوائر الإلكترونية وأنظمة الحوسبة المتقدمة. ◄ طوّر هيكلية المسارات (Routing Architecture) المستخدمة حاليًا فى تصميم التطبيقات الإلكترونية المعتمدة على الشرائح الذكية. ◄ قاد تطوير مستشعرات الصور CMOS التي تُعد التقنية الأساسية فى كاميرات الهواتف الذكية والعديد من الأجهزة الرقمية. ◄ لعبت أبحاثه وابتكاراته دورًا مهمًا في تطوير التقنيات الداعمة لنظم الحوسبة والحساسات الرقمية والاتصال. ◄ نشر أكثر من 230 ورقة بحثية وله مؤلفات علمية مهمة أبرزها كتاب "نظرية معلومات الشبكات" الصادر عن دار نشر جامعة كامبريدج ويُعد مرجعًا لطلبة الهندسة والتكنولوجيا حول العالم. ◄ حصل الجمل على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1972 ونال درجة الماجستير في الإحصاء ثم الدكتوراه فى الهندسة الكهربائية من جامعة ستانفورد عام 1978. ◄ أصبح مديراً لمختبر نظم المعلومات فى جامعة ستانفورد من عام 2003 حتى عام 2012، ثم رئيسًا لقسم الهندسة الكهربائية فيها من عام 2012 إلى عام 2017. ◄ له مساهمات بحثية في نظرية معلومات الشبكة، ووحدات FPGA وأجهزة وأنظمة التصوير الرقمى. ◄ يحمل 35 براءة اختراع فى نظم الشبكات ومصفوفات البوابات القابلة للبرمجة وأجهزة وأنظمة التصوير الرقمي. ◄ عضو الأكاديمية الوطنية الأمريكية للهندسة، وزميل معهد مهندسى الكهرباء والإلكترونيات (IEEE)، الذى يعد أكبر هيئة مهنية تقنية فى العالم.