نزار قباني لم يكن شاعرًا، وإنما كان أُمّةً من الشعر، استحضَر السابقين عليه، واختزل الآتين من بعده، وركّزهم في قلمه الذي كان يقطرُ سحرًا حقيقيًا لا رُقية منه ولا دواء ولا تميمة، وكان أول من جعل الشعر خبزا ساخنا للجميع! يوم وفاته عام 1998، كانت المرة الأولى التي أبكي فيها على كاتب أثّر في حياتي، ولم أترك صحيفة ولا مجلة ولا كتابا تحدث عنه وقتها، إلا واقتنيته! كنت أشعر أنني فقدتُ أبي الروحي، وصاحب مدرسة الإحساس والوطنية والقدرات اللغوية المدهشة والمباغتة! ومن كثرة ما زيّنت بوسترات نزار قباني جدران غرفتي، ظن أصدقائي أنه مطرب أجنبي مشهور في بلاد برّه، لكنهم لجهلهم لا يعرفونه! وفي كلية التربية، جامعة المنصورة، لم أحب د.عبد الرحمن الوصيفي، أستاذ الأدب الذي اختارته الظروف ليدرس لنا مادة الأدب، كان متكبرًا ويرى أننا أقل من أن يمنحنا علمه، هذا غير أسلوبه الفظ والجاف في التعامل مع من يتجرأ ويسأله سؤالا! ولكن ما إن عرفتُ أنه حصل على رسالة الماجستير في الشعر السياسي لنزار قباني، وقابله بالفعل، وجلس معه، حتى أصبحتُ فجأة أراه روميو عصره وأوانه، وأتتبع لقاءاته في التليفزيون -برنامج صباح الخير يا مصر!- والراديو، إذا كان الحديث عن الشاعر الملهم! بل كنت أتهرب من محاضراته التي يدرس لنا فيها الشعر العباسي، وأحضر محاضراته التي يتحدث فيها عن نزار قباني للصفوف الأخرى! وكانت الفتاة التي تريد أن تتعرف إلي في الكلية، لا تملك إلا أنن تفعل شيئا من ثلاثة: أن تهاديني بديوان لنزار قباني، أو رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أو كتاب لأنيس منصور، وطبعا لم يكن من العدل أن أعامل من أتت بديوان نزار، مثل معاملة من أتت بكتاب لأنيس منصور! وعندما عثرتُ لدى أحد الباعة على مجلدين يباعان بسعر رخيص تحت عنوان "أعمال نزار قباني الكاملة" وتصفحتهما، ووجدتهما نسخا مشوّهة من أهم قصائده، في محاولة للنصب على القراء، ثُرت، وأحسست أنها طعنة موجهة لقلبي مباشرة، وكتبتُ عن الموضوع، وحاولت التواصل مع أحد مسئولي وزارة الثقافة لإيقاف هذه المهزلة، لكن شيئا لم يحدث سوى صدور طبعات أخرى من نفس الأعمال الناقصة! وعندما سافرتُ إلى الكويت بعدها بسنوات للبحث عن عمل، ولم أوفق، أردت أن أَضفي معنى وجوديا أعمق على السفرية، حتى لا تكون خاسرة من جميع الجوانب، فاشتريت بآخر 1000 جنيه كانت معي، الأعمال الكاملة لنزار قباني من مكتبة مدبولي، فكنتُ كمن دخل مغارة علي بابا، ذهب وألماظ ولؤلؤ وياقوت وزبرجد!! وتسببت هذه المجموعي في فصلي عن الواقع والتاريخ والجغرافيا، وأدخلتني في يوتوبيا خاصة بها، لعلي ألجأ إليها كلما اشتد بي الوجع وأضناني الحنين! ماذا أقول عن "بلقيس" التي أَدمت قلبي، و"متى يعلنون وفاة العرب" الكاشفة الجارحة، و"خبز وحشيش وقمر" التي قلبت البرلمان السوري، و"المهرولون" التي لا تزال تصف حالنا إلى اليوم، و"إلى تلميذة" التي كأنك كتبتها بلساني، و"رسالة من سيدة حاقدة" التي هزتني و"منشورات فدائية على جدران إسرائيل" و..و..و..و...!!!! نزار قباني.. كم لك من أيادٍ عليّ، كم عبّرت عني وواسيتني وحملتني معك إلى دُنا تمنيت أن أعايشها وأعيشها وأعشش فيها! كم حميتني في مراهقتي وأمددتني بزاد لا ينفد من الخبرة والحكمة والحب.. كم جعلت أيامي مختلفةومليئة بكل ما هو جميل.. كم أفتقدك الآن.. رحمة الله عليك.