كان في مصر عصر وزمن يمكننا اطلاق عليه زمن الميكروباص الجميل .. نعم كان هناك زمن جميل للميكروباص والتاكسي معا .. كانت السمة الأساسية لهذا الزمن والعلامة الفارقة له هو الثنائي الفني والشعري والشعبي والصوتي المُسجل علي شريط كاسيت مجهول المصدر بين نزار قباني وام كلثوم في الثمانينات؛ هل يمكن لأحد منا ان ينكر انه استمع الي هذا الشريط للمرة الاولي في المواصلات، من منا لم يسمع في المايكروباص معركة الشعر والحياة بين نزار قباني وأم كلثوم، من منا لم يسمع نزار وهو يقول "أحبيني قليلا" وترد ام كلثوم "لسه فاكر قلبي يديلك أمان، لو كنت يا صديقتي في مستوي جنوني" .. وترد الست: "تشكي مش هرحم عينيك ... أأعجبك الشاي .. ترد اسأل روحك أسأل قلبك . كان نزار يقول اشتقت اليك وترد ام كلثوم فات الميعاد . والكثير جدا من الشعر والغناء . اكاد اجزم ان هذا الامر من الصعب والمستحيل ان يتكرر مرة اخري . ولقد كان هذا الشريط الكاسيت غير المعروف المصدر من اكثر الشوارع شعبية وانتشارا في مصر علي الرغم من التأكيد علي ان الشريط لم يتم عبر لقاء مباشر بين نزار وام كلثوم، ولكنه عبارة عن مونتاج شعبي ورغبة شعبية في هذا الحوار وقدر انتشر الشريط والشاعر علي قيد الحياة .. وقد انتشرت هذه المادة الصوتية علي اكثر من نصف مليون موقع الكتروني بعد موته . نعم انتقل زمن المايكروباص والتاكسي الجميل الي الفيس بوك واليوتيوب والمنتديات والانترنت حتي وصلت بيوت نزار قباني تتعدي الملايين علي الانترنت، فعندما كان شريط نزار قباني وام كلثوم هو الاهم ضمن الوجبات اليومية التي لابد ان نستمع لها ونستمتع بها وايضا نلعن الشاعر في العلن، ونحبه في السر .. إنه هو الذي تجرأ وباح بكل عشقه للمرأة علي الملأ بشكل علني وصريح يفهمه لغة وشعرا الجميع لذا كان الاكثر جماهيرية وشعريا حتي وإن كانت كما يقول الشعراء انه مباشر الكتابة .. بل هو مباشر التصويب علي القلب .. وكنت اتمني ان اكون نفس الشاعر الذي يمكّن الناس من صناعة هذا الحوار الذي سوف يبقي بين شعره وبين غناء ام كلثوم . لقد كان حواراً راقياً بين الشعر ورد اكثر ارتقاء بالغناء، بالفعل كان رصيد نزار المسموع كافيا جدا لفتح حوار شعري غنائي مع رصيد لا ينفد من سيدة الغناء العربي . وتوجد علي الشبكة العنكبوتية مئات بل الالاف من القصائد التي تأخذ صفة قصائد لم تنشر من قبل لنزار قباني؛ حيث يسجل محرك البحث في هذا الامر اكثر من اربعين الف موقع يحمل قصائد لم تنشر من قبل لنزار قباني، وهذا يجعل الامر ايضا به رغبة في استمرار الشعر بعد موت نزار وسوف نقوم لاحقا بالبحث في مدي صحة هذه القصائد ونسبتها الي الشاعر نزار قباني . كما يستخدم أكثر من عشرة اشخاص اسم الشاعر الكبير نزار قباني كمستخدمين للفيس بوك ويضعون علي بروفيلهم صور الشاعر، علي الرغم من ان المبرر لهذا هو حبهم لهذا الشاعر الذي لابد ان يحب، وعلي الرغم من انه مات الا اننا ورثنا شعره واسمه وقمنا بإحيائه مرة اخري علي الانترنت.. علي الحياة الافتراضية.. التي تجعل من الميت حيا.. وعلي الرغم من بهاء هذه الصورة الا اننا لابد اننا نعترف بوجود ازمة جديدة سوف يعاني منها الفيس بوك وسوف نعاني نحن ايضا منها معه علي الرغم من ان الفيس بوك مؤخرا استخدم كإحدي وسائل الحمايات وهي اضافة رقم التليفون المحمول للمشترك وارسال رسالة قصيرة لتفعيل الاشتراك في اوقات اكتشاف عدم حماية الحسابات او استرجاعها وربما يحد هذا من عدد الذين يستخدمون اسماء شخصيات عامة ومهمة كأسماء لهم علي الفيس بوك . ولكن: ماذا تبقي من نزار قباني، نزار بعيون لم تره لحما ودما وجسدا (وانا منهم)،عيون لم تجلس امامه في امسيات شعرية، او مؤتمرات جماهرية، او ندوات ثقافية وفكرية، ماذا يسمع شباب الانترنت من اشعاره؟ وما الذي يعجب الجيل الالكتروني منه؟ وكم عددهم وماهية تعليمهم وافكارهم؟ وهل هو عندهم شاعر المرأة فقط، او شاعر اختصر الشعر في السرير؟ وكم كتب عنه الشعر السوري ماهر شرف الدين مؤخر عبر تصنفيات للعديد من الشعراء في مقالة بجريدة الغاوون التي تصدر من لبنان عن ماهية الشعر . أشياء كثيرة ومهمة يكشفها التصفح الالكتروني، والسير عبر اروقة الانترنت العديدة، والتي تتكاثر يوميا، أشياء كثيرة يكشفها الفيس بوك ليس كموقع الكتروني ولكن كوسيلة يستخدمها الجميع من اجل تقديم رؤية تخصهم دون ان يدركوا انهم الان يقدمون رؤاهم الي العالم، او تقديم افكارهم عن الشعر وعن الحياة والموت، انهم الان يمارسون الافعال ويأتي من بعد النقاد والباحثين والمحللين ليتحدثوا عما يحدث، وعما حدث، وعما كان .. وفي هذا يتفق الامر الان ويستقيم .. يصبح حقيقيا وجادا .. ويصبح علميا وانسانيا في نفس الوقت.