رحم الله الشاعر الكبير كامل الشناوى. نحن لا نعثر على حياته الزاخرة فى الأدب، أو الشعر، أو الصحافة، لكننا نجد حياته فيما عاشه من حياة كانت مزدحمة وفاعلة فى زمن يشبهها!! لقد عاش كامل الشناوى عصرا من البهجة.. عاش زمنا كانت فيه الدنيا دنيا، بحق وحقيق، حيث كان يشكل ذاكرة القاهرة ذلك الحين هذا الزخم من السياسة والأدب والفنون. وكانت تموج بالأفكار الفاعلة مع العائدين من بعثاتهم، وبعض المهاجرين من اللبنانيين الذين رحلوا لها هربا من اضطهاد الأتراك فى زمن الاستعمار البغيض!! والصحافة فى ذلك الزمن تموج بالأفكار التى تهتم بالحرية، وحقوق الإنسان، والعقلانية، واستقلال الوطن، وتعبر عن تعدد الأحزاب، وصراع السياسات.. فى هذا المناخ هاجر كامل الشناوى إلى القاهرة فى صحبة والده القاضى الشرعى. كان طالبا معمما فى الأزهر الشريف، قادما من قرية فى وسط الدلتا. أحب الشعر وكان يشعر به فى دمه، وتفوق فى إلقائه. وحين نشرت له جريدة «البلاغ» أولى قصائده لم يصدق نفسه، وفى اليوم الذى أخبره فيه «إبراهيم المصرى» أن أحمد شوقى بك أمير الشعراء معجب بقصيدته، وأنه ينتظر أن يراه فى فيلته «كرمة ابن هانئ» على نيل الجيزة، كاد يغمى عليه. لمع نجم كامل الشناوى فى الصحافة وفى الشعر، وأدرك بعد تمجيد أمير الشعراء له أنه يمتلك شيئا يخصه هو وحده. كان كامل الشناوى موهوبا، مدركا لنبض عصره، متأثرا بالشعراء الرومانتيكيين من أمثال بول فاليرى، لذا كان شعره ينبض بذلك الإحساس الشفاف، وبذلك الحزن الذى كان علامة على تفوق قصيدة كامل الشناوى الذى كتب القصيدة العاطفية، والوطنية، وظل طوال عمره يعشق الألم. بعد رواج عمله بالصحافة، وشهرته كشاعر قال عنه العقاد (إنه شاعر هذه الأيام وأوقع راوية للشعر على الإطلاق). وظل محبا، ومساعدا لكل موهوب من أجيال الفنون والآداب. اكتشف من الفنانين، اللبنانية نور الهدى وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وبليغ حمدى. وفى الصحافة اكتشف محمد حسنين هيكل وصلاح حافظ وكمال الملاخ وأحمد رجب. ومن الرسامين طوغان وجورج البهجورى ويوسف فرنسيس. ومن الأدباء يوسف إدريس ومصطفى محمود وكمال عبدالحليم ومحمد الفيتورى ومعين بسيو. غنت من شعره أم كلثوم «على باب مصر» وغنى فريد الأطرش «عدت يا يوم مولدى» وغنى عبدالحليم وعبدالوهاب ونجاة الصغيرة، معذبته التليدة قصيدة «لا تكذبى». التى شاعت فى الأنحاء، وأحبها العرب من المحيط إلى الخليج. كان كامل الشناوى من صناع ليل القاهرة، فى صحبة باشوات ذلك الزمان، يمضى من شرفه الكونتننتال إلى مشرب اللواء، ثم إلى حديقة جروبى، إلى كافتيريا الهيلتون يثير الصخب، ويلقى الشعر والنوادر، ويحيطه نجوم ذلك الزمان. كان كامل بك محبا للسخرية، وله آراء فى فنون الظرف، يحيك المقالب لمن حوله، بالذات لهؤلاء الثقلاء. ومن نوادره حينما كان رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية فى زمن الثورة. كان يعمل معه صحفى خامل، يقدم مواضيعه وأخباره مثل الطبيخ البايت. أراد كامل الشناوى أن يستحث همته فحبك له هذا المقلب. أحضره وسأله. - هل سمعت عن تولستوى؟ - طبعا.. طبعا. قال كامل الشناوى: - وطبعا عارف إنه رئيس الحزب الشيوعى السوفيتى. قال الخامل: - أعرف. همس فى أذنه كامل الشناوى: - هو الآن بمدينة القاهرة.. وجاء فى مهمة سرية.. وعليك اكتشاف مكانه.. واتصل بمصادرك فى الخارجية.. إياك أحد يعرف هذه المعلومات. وتوجه الصحفى إلى الخارجية يسأل عن الوفد السوفيتى، ويسأل عن تولستوى رئيس الوفد، والناس فى حيرة من غبائه، وحين سأل كبير الأمناء فى القصر الجمهورى صلاح الشاهد أجابه: - أى وفد سوفيتى؟ عن ماذا تتكلم. أصر الصحفى على موقفه وقال له. مش مهم الوفد.. المهم حسب معلوماتى المؤكدة أن تولستوى وصل القاهرة وعاوز سيادتك تساعدنى فى إجراء مقابلة معه.. دى مسألة حياة أو موت. وضحك كبير الأمناء من الفضيحة.. ويوما شاهد الرئيس جمال عبدالناصر هذا الصحفى وسط وفد من الصحفيين فسأله: أنت بتاع تولستوى؟.. وضحك يومها كثيرا. فى العام 1964 رحل كامل الشناوى مودعا زمنه الجميل قائلا: «أنا لا أخشى آخرتى لأنى أتصورها أكثر جمالا وفنا وخيرا وحقا من الدنيا». فعليه سلام الله.