فى هدوء وصمت رحل الكاتب الكبير الإنسان الرائع والأستاذ «يوسف الشريف». خاض «يوسف الشريف» معركته مع المرض اللعين بإرادة حديدية وسخرية لا حدود لها.. وإذا كان «يوسف » قد انتصر على المرض اللعين فى المرة الأولى منذ سنوات، ومن تجربة مقاومة وتحدى السرطان كتب وأبدع وتألق.. لكن عندما عاوده المرض فى جولة ثانية، كان الأمر محسوما رغم روعة وبسالة مقاومة يوسف الشريف له. عرفت يوسف الشريف منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى عندما كان يتردد على أصدقاء وزملاء عمره فى «صباح الخير» من «حسن فؤاد» وحجازى وجمال كامل، ورءوف توفيق وزينب صادق ونهاد جاد ولويس جريس.. كان كاتبا من طراز فريد، وحكّاء لانظير له.. وفى كتاباته وحكاياته الكثير من السياسة والتاريخ والأدب والفن، والصحافة أيضا.. كان يقرأ فى كل المجالات وعنده حكايات ورؤى ووجهات، ومنذ بدأ « العم يوسف» الكتابة فى روزاليوسف وكان ذلك بعد قيام الثورة بسنوات قليلة، كان مهموما بالقضايا الاجتماعية الجادة، والأمور السياسية الجارية فى العالم عموما، وعالم العرب خصوصا، وربما كان يوسف الشريف واحدا من القلائل الذين فهموا واستوعبوا أحوال السودان واليمن فكان له عنهما عشرات الدراسات والمقالات، بشكل عميق وموثق، وبمرور السنوات فقد أصبح «يوسف الشريف» بمثابة الخبير الواعى الفاهم والدارس لكل ما يهم ويخص السودان واليمن من أحوال السياسة والحكم إلى حكايات الناس والبسطاء. ومن بين عشرات الكتب البديعة التى صدرت ونفدت ليوسف الشريف تبقى ثلاثة كتب مهمة ومؤثرة وكان يعتز بها اعتزازا بالغا، الأول كتابه غير المسبوق عن الشاعر والصحفى الظاهرة «كامل الشناوى» وعنوانه «آخر ظرفاء ذلك الزمان» وكتب له المقدمة الموهوب الرائع أستاذنا «صلاح حافظ» وصدر عن مؤسسة روزاليوسف. كان الكتاب بمثابة وثيقة تاريخية وسياسية وصحفية عن زمن وعصر كامل الشناوى وسهراته وندواته وتلامذته واكتشافاته لعالم النجوم فى الأدب والصحافة والفن. ثم يأتى كتابه البديع عن «عبد الرحمن الخميسى» وعنوانه «القديس الصعلوك» وحسب وصف يوسف الشريف نفسه عن الخميسى «بانوراما درامية مثيرة للجدل» أما كتابه (صعاليك الزمن الجميل) فهو درس فى فن الكتابة التى تعيش وتبقى حتى بعد رحيل صاحبها فهو يكتب عن عشرة من أشهر صعاليك السياسة والصحافة والأدب، كانت لكل منهم بصمة متميزة فى الحياة السياسية والصحفية والثقافية طوال سنوات القرن العشرين، الكتاب ليس مجرد سرد لحواديت وقصص عن هؤلاء الصعاليك، بل هو دراسة لزمن وعصر كامل بكل ما فيه من انتصارات وانكسارات. إنه يكتب عن (حفنى باشا محمود) أمير المقالب، والشاعر الصحفى مصطفى حمام، فاسوخة ثورة 1919 وعبد الحميد الديب الشاعر الذى أدمن النحس والبؤس، والموسيقار مدحت عاصم، والكاتب الكبير (محمود السعدنى) ذلك الولد الشقى عاشق الحياة والصعلكة والشاعر الغنائى مأمون الشناوى، والشيخ سيد مكاوى فى مقهى الحرامية، وأمين بك المهدى والحشيش، واللص الشريف حافظ نجيب، وأخيرا يكتب عن صديق العمر عمنا وأستاذنا الرائع (الفقير الهندى) محمود عودة.. ويعترف يوسف الشريف أن أحد دوافعه للكتابة عن المظاليم والصعاليك هو (الوفاء بدين فى عنقى للكتابة عن بقية العقد الفريد لعشرة ظرفاء وصعاليك ذلك الزمان) لكن الأهم هو قوله بعد ذلك «أشهد أننى تعلمت منهم ما لم يصلنى عبر القراءة والسمع والبصر فى عوالم الصحافة أو السياسة والأدب والفنون، ولا التجوال فى أربعة أركان الوطن العربى وشئونه وشجونه وحروبه، ومن حق الأجيال الجديدة إذن أن تعرفهم وتنصفهم وتنهل من معينهم الثقافى والوجدانى والاستمتاع بسحرهم وإبداعاتهم وسير حياتهم وتقلباتها العجيبة». كان يوسف الشريف - والكلام للراحل الجميل كامل زهيرى - يعتقد أن النوم عادة ضارة، فانطلق إلى خفايا القاهرة الأخرى، التى تحتقر النوم وتهجوه، ولمحت فيه قدرة مذهلة على السهر فقد كان يستطيع أن يطبق عدة سهرات فى عدة ليال متوالية..) وعندما توقف قلم يوسف الشريف فى الفترة الأخيرة عن الكتابة، لم يتوقف لسانه عن الكلام والحكايات والذكريات، وتحولت غرفته إلى منتدى ثقافى وسياسى يضم كل الأصدقاء والزملاء على اختلاف انتماءاتهم السياسية. لقد أسعدنى الحظ بالاقتراب من الأستاذ والأخ يوسف الشريف وقرأت له وتعلمت منه وكتبت عنه على صفحات روزاليوسف اليومية منذ شهور، وفى كل الحالات كانت قراءته أو معرفته، متعة لا حدود لها. رحم الله يوسف الشريف ابن مؤسسة روزاليوسف.