كنا نكبر فى المنزل ذى رائحة التفاح والأيام تمضى سريعاً، وتتحول الجراء الصغيرة أشبالاً يافعة، نتقن أنا وإخوتى اللهجة البحرينية كسكان البلاد الأصليين، ونتقن كل تفاصيل الحياة هناك ودقائقها، بل ونهواها، اختلفنا كثيراً عن أقراننا من أبناء العائلات المصرية المغتربة بالخليج، كنا نحيا بوطن ثانٍ، أحببناه بعمق غريب، فما زال السمر يحلو عند تذكر طفولتنا وشبابنا الأول ببلاد (دلمون) واستدعاء طرائف يومياتنا الصغيرة هناك، دائماً أكرر لقد تركنا جزءاً من أرواحنا هناك. كبرنا بين ليلة وضحاها فأصبحت شابة تغزو حجرتها صور فنانين ومطربين منهم هشام سليم وراغب علامة وتوم كروز، كلها (بوسترات) ضخمة تكاد تلتهم جدران الحجرة، ويقبع بين صور النجوم العربية أبطال بوليوود أمير خان وسلمان خان أبطال التسعينات بلا منازع، ولم تكن حفلاتهم لتفوتنى فلربما ضحيت (أنا المتفوقة) بامتحان شهرى إن وافق حفلة لأحدهم، إنه جنوننا فى أيامنا تلك وقد كان جنوناً هادئاً، منتهاه قصة شعر غريبة أو موديلات ملابس تسعينية عجيبة، وربما أمسية تزلج على جليد اصطناعى على نغمات (آيس آيس بيبى) أو استعارة سيارة أمى (دون أن تدرى) لأخذ نزهة قصيرة. كانت «نورهان»، أختى الصغرى، هادئة، وديعة، متفوقة فى صمت، كصمت الحملان، حتى تفوقها كانت تتعامل معه بسلاسة وتواضع جم لدرجة أن أحداً منا لم يلحظه!!! أو يلحظها!!! أما أنا فكانت حماستى دائماً زائدة، أقيم المهرجانات فرحاً بدرجاتى، بينما هى كانت فقط هادئة، متأملة فى الكون وكائناته، تفضل الجلوس فى هدوء واسترخاء حتى إننا بالكاد نذكرها، ولا عجب أنها الآن جراحة ماهرة، لهذا كل القصص كانت تخصنا نحن الثلاثة أنا والتوأمان اللذان يصغراننى بعام إلا قليلاً، أسامة وأحمد. ومن قصصهما التى يحلو لى تذكرها، أن أبى جاءته ذات يوم رسالة من مدرستهما تخبره بأن نجليه متغيبان عن الدراسة منذ أسبوع، ولكن كيف وهناك سائق خاص يوصلهما ذهاباً وعودة؟! وجاء أبى بهدوء غاضب خلف طاولة دراستهما وهما يتصنعان المذاكرة وأخذ يربت على رأس «أسامة» بطريقة تمزج بين التهديد والوعيد الصديق، قائلاً: «أخبار المدرسة إيه؟!»، وكالعادة يذوب «أحمد» مختفياً أو ينظر نظرته البريئة ليركز أبى على الوحش الكاسر الآخر «أسامة»، ويكمل وقد جاءته للتو تفاصيل اختفائهما على يد زميل لهما أوشى بهما وذكر أن فى الأمر (مرام)، فتاة جميلة كان يسعى لمعرفتها الجميع.. وألقى أبى فى أذن «أسامة» جملة (مرام وانتقام..) رابتاً بيده مرة أخرى بنفس الوعيد الحذر واللوم الصديق.. ثم استمع منهما عن تفاصيل مغامراتهما وشاركهما أولى خطواتهما نحو سن الشباب وتحرك المشاعر وتكوين العلاقات، استمع ونصح كصديق وشريك وليس كأب ديكتاتور، وكان بهذه الطريقة يحفر مكانة بداخل كل منا ضامناً للأبد بقاءه بين ضلوعنا وأفكارنا وحجرات قلوبنا، صانعاً تواصلاً عجيباً معنا جميعاً يضمن له البقاء حياً بيننا إلى الأبد، لقد نوّع طريقة التعامل بيننا باختلاف يتناسب وطبائعنا وشخصياتنا المتباينة، فلغة الحوار والأفكار والنقاشات معنا لم تكن واحدة، نحن الآن عندما نجتمع ويفضى كل منا للآخر بقصصه مع أبيه، التى لا يعلم الآخرون عنها شيئاً، نشعر وكأننا قد ربينا كل على حدة مع أب مختلف، أبى كان عبقرياً حنوناً حداثياً ذا خلق كريم، كان يعلم ويدرك معنى البنوة، وأن أسمى غايات البشرية هو بناء الإنسان الصالح وتقديمه بذرة ونواة سليمة لمجتمع صحى متعافى وسليم، كان يدرك معنى وقيمة أن أثمن لحظات العمر هى ما تقضيها مع أبنائك، ثمرة فؤادك، تغرس بهم كل جميل وأصيل. وذات ليلة.. وفى المنزل ذى رائحة التفاح وبينما كان أبى يستعد لصلاة الفجر إذا به يتفاجأ ب.. تابعوا الحلقة المقبلة من المنزل ذى رائحة التفاح.