الوصول الهادئ ووصلت الطائرة بسلام، ونزلنا ذاك المطار الحميم وتلك البلاد الرائعة، وكان الحب ينتظرنا بالمطار.. نعم، الحب والدفء والأمان. كانت أحضان أبى بها هذه المعانى جميعاً، وضمنا إلى صدره بادئاً بأمى ثم بفراخه الصغار، فقد كان أبى دائماً معنياً بإظهار وإيضاح حبه لأمى وكأنه كان يوصل لنا عن قصد هذه القاعدة المهمة فى بناء الأسرة السليمة والمعافاة، وبذاك فقد التصق برأسى ورسخ بقلبى منذ طفولتى مبدأ مهم ألا وهو أن الحب لا يُخجل بل هو مثار للفخر والزهو، أما البغضاء والكراهية والصلافة وجفاف المشاعر فهى ما تخجل وتخزى وتصم أصحابها. وبعد إغراقنا فى فيض حنانه ودفء أحضانه اصطحبنا إلى المنزل فى سيارته الأنيقة والكبيرة جداً، وكنا ليلاً ومتعبين من السفر فلم نهتم كثيراً بمشاهدة المنظر من خلف زجاج السيارة، أو هكذا كانت حالتى.. وتوقفت السيارة أمام ذاك المنزل الذى لن أنساه أبداً ما حييت، بل إنى أشعر بأن روحى ما زالت معلقه به وأحياناً تسكنه.. لأكون أول شبح من الأحياء. وبوصولنا أخيراً إلى الحى الذى سوف يتحول إلى وطن بديل لسنوات مهمه مقبلة، وجدنا المكان هادئاً كباقى شوارع البحرين حينها، الكل ينام باكراً وفى تمام التاسعة مساء بالكاد ترى أحداً بالشارع. وعند وصولنا كانت المنطقة بأكملها فى سبات عميق، ونحن من القاهرة مقبلون، فلك أن تتخيل مدى استغرابنا للأمر. ويطلق على الحى فى الخليج «الفريج»، وكان فريجنا جميلاً، بيوته من طابق أو طابقين، كل عائله تسكن بيتاً بتصميم ولون مختلف ولكنها فى النهاية تحمل روحاً واحدة، وكان القرميد الأحمر الهرمى سيد الموقف والسمة المشتركة بين الجميع. وتوقفت سيارتنا أمام منزلنا الجديد، ونزلنا منها أطفالاً صغيرة الحجم كبيرة الضحكة والبهجة وما زالت عيوننا التى تسلل إليها النعاس تتابع، لكنها أمست مجهدة تبتغى الراحة وتود النوم، ولكنها تأبى إلا أن تواصل وتتحين الفرص للعبث مجدداً. كان المنزل من طابقين، فيلا متوسط الحجم، لونها كرمال الصحراء، ذاك اللون الذى بات دارجاً اليوم فى الفيلات الحديثة، وكان المنزل محاطاً بحديقة صغيرة تحيط به من جميع الجوانب، وكان له أيضاً أبواب ثلاث، باب المرآب (أو جراج السيارة) الذى يوصلك إلى الداخل أيضاً، والباب الرئيسى، وباب آخر خلفى يوصلك من الحديقة إلى حجرة الضيوف مباشره دون المرور على باقى الحجرات. دخلنا من الباب الرئيسى وما زال أبى يضمنا إليه كل ثانيتين، ما أجمل الآباء الحنونة!! ودخلنا المنزل.. وكانت له رائحة لا تُنسى بل تُحفر فى القلب وللأبد (فأنا دائماً ما اهتممت بالروائح والأرواح)، وكانت هذه المرة رائحة التفاح، التفاح الأحمر!! كانت قويه جداً، ولم تكن كرائحة التفاح العادى، كانت نفّاذة وللقلب أخّاذة، ومشيت خلف الرائحة فكانت صناديق التفاح الأحمر وفاكهة أخرى حولها، ولكن كانت رائحة التفاح غير عادية مسيطرة. وما زلت أبحث إلى اليوم عن تفاح بنفس تلك الرائحة لكن دون جدوى، حتى فى البحرين نفسها لم أجده!! أظن أن ذاك النوع قد انقرض!! كأيامه الحلوة. وظلت هذه الرائحة دائماً هى رائحة منزلنا، تختلط أحياناً باللافندر أو البخور العربى الأصيل، ولكن بقيت السائدة دوماً هى رائحة التفاح الأحمر. وأخذنا أبى فى جولة تعريفية بمنزلنا الجديد.. «المنزل ذو رائحة التفاح».. ونكمل السبت المقبل.