ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    نجم الزمالك السابق: فترة الإعداد "مثالية"..والصفقات جيدة وتحتاج إلى وقت    خبر صادم لأنغام.. رائحة كريهة تقود لجثة عمها ومباحث الجيزة تكشف المستور    يواصل التراجع.. استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2-8-2025 مع بداية تعاملات الأسبوع بعد الهبوط العالمي    القنوات الناقلة مباشر لمباراة العين ضد إلتشي الودية    مصر ترفع رصيدها إلى 91 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    الذهب يواصل الاستقرار.. استقرار سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 فى مصر.. واستمرار تراجع أسعار الدولار    بيان مهم بشأن تغير حالة الطقس اليوم: استقبال أمطار وكتلة هوائية معتدلة    محمد رمضان يحيي حفلاً جديدًا في الساحل الشمالي (فيديو)    مسئول إسرائيلي: الاتفاق الشامل في غزة غير قابل للتطبيق    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    رسميًا.. سون يعلن رحيله عن توتنهام هوتسبير    فلسطين.. جيش الاحتلال يدفع بتعزيزات عسكرية نحو مدينة قلقيلية من مدخلها الشرقي    "تيسلا" مطالبة ب 242 مليون دولار كتعويض عن حادث مميت    الهضبة يوجه رسالة خاصة إلى عمرو مصطفى في حفله بالعلمين ومحمد لطفي يقتحم المسرح (فيديو)    من قلبي بغني، محمد حماقي يلهب حماس جمهور جرش في الليلة قبل الأخيرة للمهرجان (فيديو)    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    أسعار الفراخ والبيض في أسواق وبورصة الشرقية اليوم السبت 2-8-2025    سعر الأرز الشعير والأبيض اليوم السبت 2-8-2025 في أسواق الشرقية    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. قائمة الكليات المتاحة لعلمي علوم ورياضة ومؤشرات الحد الأدنى    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    انتخابات مجلس الشيوخ 2025.. هل يوم الإثنين إجازة رسمية؟    جريمة تهز سيوة.. مقتل 4 أفراد من أسرة واحدة وإصابة ابنهم    3 أرقام مقلقة من وديات الزمالك قبل أسبوع من انطلاق الدوري    زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب أفغانستان    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    تشميع محال وإحالة الواقعة للنيابة.. محافظ سوهاج يتخذ إجراءات رادعة بعد مشاجرة "حي شرق" – صور    يونس: محمد شحاتة قادر على التطور.. وأول 10 مباريات فاصلة للزمالك في الدوري    تشيع جنازة عريس لحق بعروسه بعد ساعات من وفاتها بكفر الشيخ    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    نجاح علاج انسداد الشريان الحرقفي بمستشفى شرق المدينة بالإسكندرية    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    بينهم طفل.. إصابة أسرة كاملة في انقلاب دراجة نارية بالوادي الجديد    وزير الزراعة: أسعار الدواجن في انخفاض مستمر.. والأعلاف تراجعت 2000 جنيه للطن    ما هي واجبات أعضاء مجلس الشيوخ؟.. القانون يجيب    إصابة 5 عمال في مشاجرة بسوهاج لتنافس على الزبائن    عبدالمنعم سعيد: الدمار الممنهج في غزة يكشف عن نية واضحة لتغيير هوية القطاع    كما كشف في الجول – النجم الساحلي يعلن عودة كريستو قادما من الأهلي    الشباب المصري يصدر تقريره الأول حول تصويت المصريين بالخارج في انتخابات مجلس الشيوخ    أبرزها رفع المعاش واعتماد لائحة الإعانات.. قرارات الجمعية العمومية لاتحاد نقابات المهن الطبية    إسماعيل هنية كشف خيانة الثورة المضادة فباركوا قتله .. عام على اغتيال قائد حماس    الإخوان : وقف نزيف الحرب على غزة لن يمر عبر تل أبيب    محمد ممدوح عن «روكي الغلابة»: «كان نفسي اشتغل مع دنيا سمير غانم من زمان» (فيديو)    تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)    حدث بالفن| كارثة بسبب حفل محمد رمضان ومطرب يلغي حفله في الساحل حدادًا على المتوفي    "ظهور نجم الأهلي".. 10 صور من احتفال زوجة عماد متعب بعيد ميلاد ابنتهما    روسيا ومدغشقر تبحثان إمكانية إطلاق رحلات جوية بمشاركة شركات طيران إقليمية    كواليس من محاكمة صدام حسين.. ممثل الدفاع: طلب جورج بوش وتوني بلير لهذا السبب    حسام موافي ينصح الشباب: مقاطعة الصديق الذي علمك التدخين حلال    منها «الذهاب بكثرة إلى الحمام ».. 6 علامات مبكرة تدل على سرطان البروستاتا يتم تجاهلها    وصول دفعة أطباء جديدة من عدة محافظات إلى مستشفى العريش العام    2 جنيه زيادة فى أسعار «كوكاكولا مصر».. وتجار: «بيعوضوا الخسائر»    للرزق قوانين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا    هل أعمال الإنسان قدر أم من اختياره؟ أمين الفتوى يجيب    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوتيل كريون قصة قصيرة بقلم د. بهاء عبد المجيد
نشر في اليوم السابع يوم 26 - 05 - 2011

المصعد الذى استقلته "سحر" ضيق جداً، وشعرت بالاختناق وهى تغلق أبوابه، وما إن ضغطت على رقم الطابق الذى تريده حتى قفز قلبها من بين ضلوعها.. أراحت رأسها قليلاً على أحد جدران المصعد الخشبى فرأت صورتها على – المرآة الكبيرة المواجهة لها.. وجهاً مرهقاً وبشرة شاحبة قليلاً وعينين عميقتين، وشعراً ناعماً ينسدل على جبينها، لملمت شعرها بصعوبة وعقصته على قمة رأسها بإحدى البنس، عندما وصلت للطابق المنشود فتحت الباب وخرجت، كان لفندق "كريون " الصغير بمحطة الرمل بابان واحتارت أيهما تدخل!.
قادها عامل الفندق الشاب إلى بعض الحجرات واختارت الحجرة الأولى رقم 306 والتى تطل على البحر والقلعة المضيئة البعيدة، أرادت أن تلقى بجسدها على الفراش وتريح قدميها المتعبتين من التجول فى محطة الرمل، طوال اليوم تدور وتلف فى المكان نفسه، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، وكأنها تريد أن تبقى فى الشارع وسط الحياة البشر وتجلس فى المقاهى العديدة التى تزدحم بالناس.
ُِطلقت "سحر" منذ سنة تقريباً، كانت تحب زوجها كثيراً. وأرادت أن تسعده. بعد الزواج أصبحت لا تفهمه, كان هناك شىء غامض فى علاقتهما, فلم يكن يسلم لها نفسه كاملاً. كانت تشعر بذلك فى أحضانه..فى تلاقى شفتيهما، كأن روحه ليست فيه، أو كأنه يعشق امرأة أخرى، ولكن حضنه كان الدفء بالنسبة لها ويرضيها منه أى شيء. كان "ضياء" أول رجل فى حياتها ولم تكن لها خبرة كافية بأحوال الرجال وطباع الحياة، عاشت سحر مع جدتها بعد أن تزوجت والدتها من رجل غير أبيها الذى ذهب مع فتاة مغربية بعد أن وعدته بوظيفة مريحة وحياة مستقرة فى مدينة "بروكسل" حيث سيعمل مترجمًا لمجلة تصدر بالعبرية عن السياسة فى الشرق الأوسط فترك وظيفته كمذيع فى البرامج الموجهة للإذاعة المصرية ورحل معها دون أن يترك كلمة وداع لسحر. ولكن منذ هذه اللحظة أرادت أن تثبت للعالم أن بنات الأسر المفككة يمكنهن خلق بيت طبيعى، لذلك عندما تقدم ضياء طالباً يدها وافقت بدون تردد، برغم اختلافهما، فهى دارسة للأدب وهو دارس للعلوم.
حاولت أن تجد أشياء مشتركة غير لحظات الفراش التى تجمعهما ففشلت. كاد يشعرها أن الزواج بدون حب مثل علاقات العهر التى يجب أن تحدث وبعدها ينقطع الاتصال ولا يبقى غير الاشمئزاز. ولتغير أحواله شجعته أن يطلقها ويحرر نفسه منها لأنه أصبح تعيساً، وغير قادر على حب الحياة.. فى الأيام الأولى لعلاقتهما كان بشوشاً يتحدث كثيراً عن الروايات والمسرح والأفلام والأغانى التى يحفظ الكثير منها.
فى بداية زواجهما أتيا إلى هذا الفندق، كانا يريدان أن يبقيا أسبوعاً كاملاً ولكن فى اليوم الثالث أخذ يحملق فى القمر كثيراً والموج الهائج الذى يأتى من بعيد، رأته يقترب كثيراً من سور النافذة، كاد يسقط لولا أنها أمسكت به فى اللحظة الأخيرة.. ارتجف كثيراً هذه الليلة، لم تفلح أحضانها وهدهدتها له فى عودته إلى طبيعته.
حزم حقيبته وأمرها أن تعود إلى القاهرة وحدها ويلحق بها بعد ذلك.
* * *
رائحة الفندق الصغير ذكرتها به، لاحظ العامل وقوفها وحملقتها فى هذه الحجرة، وبعد تردد قال لها:
- حضرتك عايزة الحجرة دى ولا تشوفى غيرها؟
نظرت إليه لأول مرة.. متوسط الطول, وجهه خمرى تتناثر على جانبيه بعض البثور، ليس له شارب, واسع العينين وله أنف يتناسب مع ملامح وجهه الريفي، يرتدى زى الفندق.. بدلة لونها أخضر.. اللون الذى ترتاح له كثيراً.
فجأة خبطت الرياح بالنوافذ المغلقة فانتفضت من مكانها، ورأت السماء من بعيد يتوسطها القمر الذى يحاول أن يظهر من بين السحب المنتشرة هناك، سألته عن ثمن الإقامة فى هذه الحجرة، ثم فتحت حقيبتها.. أخذت تبحث بعصبية بين أصابع الروج والمرآة الصغيرة ومناديل الورق، وأجندة التليفون وبين صفحات الكراسة التى تكتب فيها بعض أفكارها عن القصص القصيرة أو الرواية التى تنوى أن تكتبها يوماً ما.. فرحت ببعض النقود المتبقية من رحلتها طوال النهار فى مدينة الإسكندرية.
قالت:آسفه، لازم أمشى علشان صحبتى مستنيانى تحت، بس حنرجع ناخد الحجرة.. لم تدر لماذا كذبت عليه، نعم معها النقود , ولكن لم تكن تكفى لإيجار هذه الحجرة بالذات.
كاد يقول لها لا ترحلي، لولا خجله، ثم سبقها تجاه كونتر الاستقبال، كانت الساعة التى تعلو لوحة المفاتيح والمجاورة لصورة السيدة العذراء وهى تحمل المسيح رضيعاً، تجاوزت الثانية صباحاً.. فأين تذهب الآن ؟
ليس لها أحد فى هذه المدينة الواسعة، لم تعرف لماذا جاءت إلى هنا ؟ فقط وجدت نفسها وسط محطة قطار رمسيس بعد أن مشت من المدرسة التى تعمل بها فى الظاهر، تخبطتها الأجساد فدخلت أحد القطارات وقبل أن تنزل انطلق القطار مسرعاً، فى شوارع الإسكندرية أخذت تتجول كالتائهة.. شارع النبى دانيال والمعبد اليهودي، المنشية والمحكمة الكبيرة بأبوابها الشاهقة، مقهى البن البرازيلى ورائحة الكابتشينو، ودعوة أحد اليونانيين لها لتناول فنجان من القهوة وحديثه عن المدينة قديماً، وكادت أن تذهب معه لمنزله لولا خوفها من المواجهة،الرجال بسياراتهم البطيئة بمحطة الرمل وإغوائهم لها بالركوب، جلوسها على الكورنيش وبكاؤها، وسؤالها الأزلى لماذا تركها وحدها ورحل ؟ لقد رفض حتى أن يتحدث إليها أو يهاتفها.. تنازل عن كل شيء وغادر.. يتهرب من كل مكان تكون فيه وزهد فى كل ما فى الوجود. هل هناك امرأة أخرى فى حياته، ربما كان له حب قديم؟
هى لا تريد أن تفشل أو تعيش الحياة التعيسة نفسها التى عاشتها والدتها ولن تسأل أحداًِ المساعدة.
* * *
أقنعها الشاب -الذى لمحت صليبا صغيرا على إبهامه- بأنه يمكنها أن تمكث الليلة وما تدفعه سيقبله، وخاصة أن هناك حجرة صغيرة، ربما لا تناسبها، ولكنها أفضل من أن تذهب فى هذه الساعة المتأخرة.
تذكرت الرجل الأسمر النوبى الذى تحرش بها فى مدخل إحدى العمارات عندما سألته عن فندق رخيص تقضى فيه ليلتها، وكاد أن يغتصبها فى حجرته الصغيرة، وكادت أن تستسلم لولا سماعه لنداء أحد السكان يطلب منه شراء بعض الطلبات.
الخوف من سيارات الشرطة ورجالها فى الشارع كما هو سائد فى دولة يحكمها قانون الطوارىء منذ زمن ويتجه المجتمع نحو الانغلاق ربما يقبضون عليها بتهمة التسكع ليلاً.. لن يصدق أحد أنها تريد أن تمشى وحيدة بجوار شاطئ البحر، تفكر فى مصيرها.. كانت تسحرها السفن البعيدة، هل لو سافرت ستجد الحرية؟ ستجد الحب ؟ تشعر أنها ستجن.. فى النهار فكرت أن تذهب إلى الميناء، ادعت أنها صحفية، فأدخلها رجل الأمن ثم نادى على ضابط التصريحات لكى تحصل منه على تصريح بدخول رصيف الميناء.. كانت تريد أن تتخفى فى زى البحارة وتسافر، إلى أى دولة بعيدة عن هنا، فى هذه اللحظة اختلط إحساسها بالرغبة فى الخلاص، بالعبودية لهذا الضابط الذى يعطى لها التصريح، واختلط أيضاً بالخوف لانكشاف كذبتها بأنها ليست صحفية فهرولت بعيدا وكاد يصدمها الترام الذى يشق الشارع الضيق.فى المساء عند بئر مسعود رأت القمر هلالاً وكاد يلامس سطح البحر وأضاء أمواجه بنهر طويل من الفضة السائلة التى تلمع مع تحرك الموج الرقيق مشت بحرص على الصخور المتعرجة، وكادت تسقط فى مياه البحر بسبب شدة الموج الذى أغرقها بشلال من المياه عندما اصطدم بصخور شاطىء ميامى، فرحت بالمياه الهاربة وبللت شعرها ووجهها وملابسها، كانت المياه ناصعة البياض وتناقضت مع دكنة المياه أسفل الصخور، كان هناك بعض الشباب يغنون ويهللون وبعض العشاق يهمسون بكلمات من الحب،استمتعت بأغانيهم وبكلمات النجوى، ذهبت إلى بئر مسعود وسمعت صدى صوت المياه المندفعة بداخله وتسألت هل سقط سيدنا يوسف فى هذا البئر يوماً ما، أخرجت عملة معدنية من حقيبتها وتمنت أمنية ثم ألقتها فى البئر، نظرت مرة ثانية فى أعماقه وخافت وتركت المكان، فى السماء كان القمر قد تبدل لونه إلى اللون الأحمر، فقالت هل هذه الشمس أم القمر.
* * *
الحجرة التى قادها إليها كانت فى نهاية ممر ملتو وتشبه الزنزانة، بها فراش صغير يكفى لشخص فقط، وكومودينو وشماعة بذراعين فقط.. رائحة العرق والهواء غير المتجدد جعلتها تنقبض وتذكرت بيتها الواسع ورائحة فراشه العطرة حيث كانت تحرص والدتها على أن تغسل الملاءات وتعطر الجو دائماً وتعرض البساط للشمس على فترات منتظمة.
- "فين البحر ؟" سالت سحر بتوتر.
- " هنا هدوء أكثر ومحدش هيحس بيكى. وحاصحيكى بدرى قبل ما يستلم منى صاحب الفندق الفلوس، ممكن تدفعى أى فلوس معاكى، مش حأعترض". أجاب عامل الفندق بصوتاً يشبه الهمس والغواية.
ما إن دخل الحجرة حتى شعرت بذكورته الطاغية عليها، وتحول تخوفها منه إلى رقة متناهية وهو كذلك بدا أكثر تفاهماً وطيبة.
لاحظت تفاصيل جسده جيداً ورأت توتره واضحاً وقالت لنفسها "لا أزال جذابة للرجال" سألته هل هو من الإسكندرية أم من القاهرة فأجابها: إنه من " تونة الجبل" بمحافظة المنيا، وأنه تركها بعد أن حصل على دبلوم التجارة وأتى إلى الإسكندرية لأنه لا توجد فرص عمل فى مدينتة، وأن جمعية الشبان المسيحيين هى التى وفرت له هذا العمل حيث تربى فيها منذ طفولته بعد موت والديه بعد أن غرق بهما القارب وهما فى رحلة نيلية لزيارة أحد الأديرة البعيدة.
قال وهو يقترب منها أكثر، وهى جالسة على الفراش وتنظر تجاهه ومن ورائه مصباح يخلق هالة من النور حول رأسه.
-"أكيد انتى جعانة؟"
- "تقريباً" قالتها وهى تبلع ريقها الجاف.
- "حاجيبلك حاجة تاكليها".
قالت لنفسها "كم هم طيبون هؤلاء الريفيون فهم يعرفون حق المرأة تماماً وخاصة فى لحظة الحاجة إليهم".
عندما غادر تضخم لديها إحساسها بالوحدة والغربة، والنهاية، لكنها طمعت فى تجربة تثبت بها أنها لا تزال حية، وأنها لم تفقد حواسها بعد.
جاء يحمل سلة صغيرة بها كايزر، ومربى وزبدة وعسل النحل.. شكرته ثم قالت: الجو حار وخانق ولا أستطيع أن أنام فى هذه الحجرة، فهى ليست جيدة التهوية ورائحتها غريبة.. ووضعت السلة على الكومودينو، وحملت حقيبتها وكادت تنصرف لولا أنه حجزها عن الخروج باقترابه من جسدها لحد الالتصاق، فشعرت به ثم ابتعدت عنه، وقالت بانكسار وتوتر أرجوك: "مش هاقدر اقعد هنا".
قال وهو يبتسم وبنبرة إقناعية: "الحر مقدور عليه، عندى مروحة بتاعت صاحب الفندق، حاسيبهالك لمدة ساعة بس لغاية ما تنامي، ثم أتسحب لحجرتك واخذها وأرجوكى متقفليش الباب علشان مأزعجكيش".
عندما قال هذه الكلمات شعرت بالرهبة ودبت سخونة غريبة فى أطرافها وجبهتها خافت من الطعام وفقدت شهيتها، خلعت صندلها ومددت جسدها على الفراش، وأطفأت المصابيح واختلطت صورة البحر بمياهه الزرقاء بظلام الحجرة الدامس، ورأت الأمواج على السقف بيضاء , وتكاد تغرقها. تكورت فى رقدتها ووضعت يديها بين فخديها، ثم تقلبت.. تحسست جبهتها فشعرت أنها محمومة، وتوقعت كل حركة خارج الحجرة، وقع أقدامه وإيقاع أنفاسه وتخيلته يدخل عليها الحجرة... تتشابك أصابعهما وتتلامس ألسنتهما، وتدخل هى فى طوابق النشوى والنسيان.
باتت الحجرة مثل القبر الموحش، وخافت أن تموت فى هذه الحجرة الصغيرة، ولن يدرى بموتها أحد لا عائلتها،و ولا أصدقاؤها، ولن تنتظرها غير الفضيحة.
قلقت، فخرجت من الحجرة، بحثت عنه فى قاعة البنسيون الصغيرة، وجدته نائماً كالطفل على أريكة تأخذ جانباً من الصالة.. كان ينام مثل القديسين. عادت إلى حجرتها أخذت المروحة ثم عادت مرة ثانية إلى العامل، وجلست بجانبه، ولمست يديه، وطبعت قبلة رقيقة على شفتيه.. نهضت ودخلت الحمام، اغتسلت، رائحة الصابون ولون المياه أعطاها إحساساً بالخلاص والطهر.. دخلت حجرتها، أخذت حقيبتها، وضعت العسل والمربى والزبدة فى منديل من الورق، وضعتهم فى حقيبتها، وقالت:"حأكلهم لما أجوع"، وقضمت قطعة من الخبز وتركت الباقى على الكوميدينو.. تسللت ببطء , بجوار العامل وضعت بعض النقود فوق صدره. نظرت إلى الحجرة المطلة على البحر، فأنعشها الهواء الهارب من البحر الواسع، دخلت ونظرت نظرة أخيرة، قالت: ماذا لو ألقيت بنفسى من هذه الشرفة تساءلت ولم تفعل.
خرجت من البنسيون، وركبت المصعد الذى هبط بها سريعا. نظرت على مرآة المصعد مرة ثانية قالت يجب أن أخفض وزنى قليلاً، وأقص شعري، وسأصبغه بلون الذهب، وسأرتدى ملابس ضيقة، ثم ابتسمت وقالت ما أكثر الرجال فى العالم ! وسأجد الرجل المناسب لى يوماً ما، وابتسمت ابتسامة التفاؤل وتذكرت الرضيع فى الصورة التى تعلو كونتر الاستقبال، خرجت تملؤها القوة برغم سهرها طوال الليل.
كان النهار قد بدأ فى البزوغ فعبرت الطريق تجاه البحر، وسارت على الكورنيش وأخذت تبعد وتبعد حتى غابت عن الشمس والبحر.
المصعد الذى استقلته "سحر" ضيق جداً، وشعرت بالاختناق وهى تغلق أبوابه، وما إن ضغطت على رقم الطابق الذى تريده حتى قفز قلبها من بين ضلوعها.. أراحت رأسها قليلاً على أحد جدران المصعد الخشبى فرأت صورتها على – المرآة الكبيرة المواجهة لها.. وجهاً مرهقاً وبشرة شاحبة قليلاً وعينين عميقتين، وشعراً ناعماً ينسدل على جبينها، لملمت شعرها بصعوبة وعقصته على قمة رأسها بإحدى البنس، عندما وصلت للطابق المنشود فتحت الباب وخرجت، كان لفندق "كريون " الصغير بمحطة الرمل بابان واحتارت أيهما تدخل!.
قادها عامل الفندق الشاب إلى بعض الحجرات واختارت الحجرة الأولى رقم 306 والتى تطل على البحر والقلعة المضيئة البعيدة، أرادت أن تلقى بجسدها على الفراش وتريح قدميها المتعبتين من التجول فى محطة الرمل، طوال اليوم تدور وتلف فى المكان نفسه، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، وكأنها تريد أن تبقى فى الشارع وسط الحياة البشر وتجلس فى المقاهى العديدة التى تزدحم بالناس.
ُِطلقت "سحر" منذ سنة تقريباً، كانت تحب زوجها كثيراً. وأرادت أن تسعده. بعد الزواج أصبحت لا تفهمه, كان هناك شيء غامض فى علاقتهما, فلم يكن يسلم لها نفسه كاملاً. كانت تشعر بذلك فى أحضانه..فى تلاقى شفتيهما، كأن روحه ليست فيه، أو كأنه يعشق امرأة أخرى، ولكن حضنه كان الدفء بالنسبة لها ويرضيها منه أى شيء. كان "ضياء" أول رجل فى حياتها ولم تكن لها خبرة كافية بأحوال الرجال وطباع الحياة، عاشت سحر مع جدتها بعد أن تزوجت والدتها من رجل غير أبيها الذى ذهب مع فتاة مغربية بعد أن وعدته بوظيفة مريحة وحياة مستقرة فى مدينة "بروكسل" حيث سيعمل مترجمًا لمجلة تصدر بالعبرية عن السياسة فى الشرق الأوسط فترك وظيفته كمذيع فى البرامج الموجهة للإذاعة المصرية ورحل معها دون أن يترك كلمة وداع لسحر. ولكن منذ هذه اللحظة أرادت أن تثبت للعالم أن بنات الأسر المفككة يمكنهن خلق بيت طبيعى، لذلك عندما تقدم ضياء طالباً يدها وافقت بدون تردد، برغم اختلافهما، فهى دارسة للأدب وهو دارس للعلوم.حاولت أن تجد أشياء مشتركة غير لحظات الفراش التى تجمعهما ففشلت. كاد يشعرها أن الزواج بدون حب مثل علاقات العهر التى يجب أن تحدث وبعدها ينقطع الاتصال ولا يبقى غير الاشمئزاز. ولتغير أحواله شجعته أن يطلقها ويحرر نفسه منها لأنه أصبح تعيساً، وغير قادر على حب الحياة.. فى الأيام الأولى لعلاقتهما كان بشوشاً يتحدث كثيراً عن الروايات والمسرح والأفلام والأغانى التى يحفظ الكثير منها.
فى بداية زواجهما أتيا إلى هذا الفندق، كانا يريدان أن يبقيا أسبوعاً كاملاً ولكن فى اليوم الثالث أخذ يحملق فى القمر كثيراً والموج الهائج الذى يأتى من بعيد، رأته يقترب كثيراً من سور النافذة، كاد يسقط لولا أنها أمسكت به فى اللحظة الأخيرة.. ارتجف كثيراً هذه الليلة، لم تفلح أحضانها وهدهدتها له فى عودته إلى طبيعته.
حزم حقيبته وأمرها أن تعود إلى القاهرة وحدها ويلحق بها بعد ذلك.
* * *
رائحة الفندق الصغير ذكرتها به، لاحظ العامل وقوفها وحملقتها فى هذه الحجرة، وبعد تردد قال لها:
- حضرتك عايزة الحجرة دى ولا تشوفى غيرها؟
نظرت إليه لأول مرة.. متوسط الطول, وجهه خمرى تتناثر على جانبيه بعض البثور، ليس له شارب, واسع العينين وله أنف يتناسب مع ملامح وجهه الريفي، يرتدى زى الفندق.. بدلة لونها أخضر.. اللون الذى ترتاح له كثيراً.
فجأة خبطت الرياح بالنوافذ المغلقة فانتفضت من مكانها، ورأت السماء من بعيد يتوسطها القمر الذى يحاول أن يظهر من بين السحب المنتشرة هناك، سألته عن ثمن الإقامة فى هذه الحجرة، ثم فتحت حقيبتها.. أخذت تبحث بعصبية بين أصابع الروج والمرآة الصغيرة ومناديل الورق، وأجندة التليفون وبين صفحات الكراسة التى تكتب فيها بعض أفكارها عن القصص القصيرة أو الرواية التى تنوى أن تكتبها يوماً ما.. فرحت ببعض النقود المتبقية من رحلتها طوال النهار فى مدينة الإسكندرية.
قالت:آسفه، لازم أمشى علشان صحبتى مستنيانى تحت، بس حنرجع ناخد الحجرة.. لم تدر لماذا كذبت عليه، نعم معها النقود , ولكن لم تكن تكفى لإيجار هذه الحجرة بالذات.
كاد يقول لها لا ترحلي، لولا خجله، ثم سبقها تجاه كونتر الاستقبال، كانت الساعة التى تعلو لوحة المفاتيح والمجاورة لصورة السيدة العذراء وهى تحمل المسيح رضيعاً، تجاوزت الثانية صباحاً.. فأين تذهب الآن ؟
ليس لها أحد فى هذه المدينة الواسعة، لم تعرف لماذا جاءت إلى هنا ؟ فقط وجدت نفسها وسط محطة قطار رمسيس بعد أن مشت من المدرسة التى تعمل بها فى الظاهر، تخبطتها الأجساد فدخلت أحد القطارات وقبل أن تنزل انطلق القطار مسرعاً، فى شوارع الإسكندرية أخذت تتجول كالتائهة.. شارع النبى دانيال والمعبد اليهودي، المنشية والمحكمة الكبيرة بأبوابها الشاهقة، مقهى البن البرازيلى ورائحة الكابتشينو، ودعوة أحد اليونانيين لها لتناول فنجان من القهوة وحديثه عن المدينة قديماً، وكادت أن تذهب معه لمنزله لولا خوفها من المواجهة،الرجال بسياراتهم البطيئة بمحطة الرمل وإغوائهم لها بالركوب، جلوسها على الكورنيش وبكاؤها، وسؤالها الأزلى لماذا تركها وحدها ورحل ؟ لقد رفض حتى أن يتحدث إليها أو يهاتفها.. تنازل عن كل شيء وغادر.. يتهرب من كل مكان تكون فيه وزهد فى كل ما فى الوجود. هل هناك امرأة أخرى فى حياته، ربما كان له حب قديم؟
هى لا تريد أن تفشل أو تعيش الحياة التعيسة نفسها التى عاشتها والدتها ولن تسأل أحداًِ المساعدة.
* * *
أقنعها الشاب -الذى لمحت صليبا صغيرا على إبهامه- بأنه يمكنها أن تمكث الليلة وما تدفعه سيقبله، وخاصة أن هناك حجرة صغيرة، ربما لا تناسبها، ولكنها أفضل من أن تذهب فى هذه الساعة المتأخرة.
تذكرت الرجل الأسمر النوبى الذى تحرش بها فى مدخل إحدى العمارات عندما سألته عن فندق رخيص تقضى فيه ليلتها، وكاد أن يغتصبها فى حجرته الصغيرة، وكادت أن تستسلم لولا سماعه لنداء أحد السكان يطلب منه شراء بعض الطلبات.
الخوف من سيارات الشرطة ورجالها فى الشارع كما هو سائد فى دولة يحكمها قانون الطوارئ منذ زمن ويتجه المجتمع نحو الانغلاق ربما يقبضون عليها بتهمة التسكع ليلاً.. لن يصدق أحد أنها تريد أن تمشى وحيدة بجوار شاطئ البحر، تفكر فى مصيرها.. كانت تسحرها السفن البعيدة، هل لو سافرت ستجد الحرية؟ ستجد الحب ؟ تشعر أنها ستجن.. فى النهار فكرت أن تذهب إلى الميناء، ادعت أنها صحفية، فأدخلها رجل الأمن ثم نادى على ضابط التصريحات لكى تحصل منه على تصريح بدخول رصيف الميناء.. كانت تريد أن تتخفى فى زى البحارة وتسافر، إلى أى دولة بعيدة عن هنا، فى هذه اللحظة اختلط إحساسها بالرغبة فى الخلاص، بالعبودية لهذا الضابط الذى يعطى لها التصريح، واختلط أيضاً بالخوف لانكشاف كذبتها بأنها ليست صحفية فهرولت بعيدا وكاد يصدمها الترام الذى يشق الشارع الضيق.فى المساء عند بئر مسعود رأت القمر هلالاً وكاد يلامس سطح البحر وأضاء أمواجه بنهر طويل من الفضة السائلة التى تلمع مع تحرك الموج الرقيق مشت بحرص على الصخور المتعرجة، وكادت تسقط فى مياه البحر بسبب شدة الموج الذى أغرقها بشلال من المياه عندما اصطدم بصخور شاطىء ميامى، فرحت بالمياه الهاربة وبللت شعرها ووجهها وملابسها، كانت المياه ناصعة البياض وتناقضت مع دكنة المياه أسفل الصخور، كان هناك بعض الشباب يغنون ويهللون وبعض العشاق يهمسون بكلمات من الحب،استمتعت بأغانيهم وبكلمات النجوى، ذهبت إلى بئر مسعود وسمعت صدى صوت المياه المندفعة بداخله وتسألت هل سقط سيدنا يوسف فى هذا البئر يوماً ما، أخرجت عملة معدنية من حقيبتها وتمنت أمنية ثم ألقتها فى البئر، نظرت مرة ثانية فى أعماقه وخافت وتركت المكان، فى السماء كان القمر قد تبدل لونه إلى اللون الأحمر، فقالت هل هذه الشمس أم القمر.
* * *
الحجرة التى قادها إليها كانت فى نهاية ممر ملتو وتشبه الزنزانة، بها فراش صغير يكفى لشخص فقط، وكومودينو وشماعة بذراعين فقط.. رائحة العرق والهواء غير المتجدد جعلتها تنقبض وتذكرت بيتها الواسع ورائحة فراشه العطرة حيث كانت تحرص والدتها على أن تغسل الملاءات وتعطر الجو دائماً وتعرض البساط للشمس على فترات منتظمة.
- "فين البحر ؟" سالت سحر بتوتر.
- " هنا هدوء أكثر ومحدش هيحس بيكى. وحاصحيكى بدرى قبل ما يستلم منى صاحب الفندق الفلوس، ممكن تدفعى أى فلوس معاكى، مش حأعترض". أجاب عامل الفندق بصوتاً يشبه الهمس والغواية.
ما إن دخل الحجرة حتى شعرت بذكورته الطاغية عليها، وتحول تخوفها منه إلى رقة متناهية وهو كذلك بدا أكثر تفاهماً وطيبة.
لاحظت تفاصيل جسده جيداً ورأت توتره واضحاً وقالت لنفسها "لا أزال جذابة للرجال" سألته هل هو من الإسكندرية أم من القاهرة فأجابها: إنه من " تونة الجبل" بمحافظة المنيا، وأنه تركها بعد أن حصل على دبلوم التجارة وأتى إلى الإسكندرية لأنه لا توجد فرص عمل فى مدينتة، وأن جمعية الشبان المسيحيين هى التى وفرت له هذا العمل حيث تربى فيها منذ طفولته بعد موت والديه بعد أن غرق بهما القارب وهما فى رحلة نيلية لزيارة أحد الأديرة البعيدة.
قال وهو يقترب منها أكثر، وهى جالسة على الفراش وتنظر تجاهه ومن ورائه مصباح يخلق هالة من النور حول رأسه.
-"أكيد انتى جعانة؟"
- "تقريباً" قالتها وهى تبلع ريقها الجاف.
- "حاجيبلك حاجة تاكليها".
قالت لنفسها "كم هم طيبون هؤلاء الريفيون فهم يعرفون حق المرأة تماماً وخاصة فى لحظة الحاجة إليهم".
عندما غادر تضخم لديها إحساسها بالوحدة والغربة، والنهاية، لكنها طمعت فى تجربة تثبت بها أنها لا تزال حية، وأنها لم تفقد حواسها بعد.
جاء يحمل سلة صغيرة بها كايزر، ومربى وزبدة وعسل النحل.. شكرته ثم قالت: الجو حار وخانق ولا أستطيع أن أنام فى هذه الحجرة، فهى ليست جيدة التهوية ورائحتها غريبة.. ووضعت السلة على الكومودينو، وحملت حقيبتها وكادت تنصرف لولا أنه حجزها عن الخروج باقترابه من جسدها لحد الالتصاق، فشعرت به ثم ابتعدت عنه، وقالت بانكسار وتوتر أرجوك: "مش هاقدر اقعد هنا".
قال وهو يبتسم وبنبرة إقناعية: "الحر مقدور عليه، عندى مروحة بتاعت صاحب الفندق، حاسيبهالك لمدة ساعة بس لغاية ما تنامي، ثم أتسحب لحجرتك واخذها وأرجوكى متقفليش الباب علشان مأزعجكيش".
عندما قال هذه الكلمات شعرت بالرهبة ودبت سخونة غريبة فى أطرافها وجبهتها خافت من الطعام وفقدت شهيتها، خلعت صندلها ومددت جسدها على الفراش، وأطفأت المصابيح واختلطت صورة البحر بمياهه الزرقاء بظلام الحجرة الدامس، ورأت الأمواج على السقف بيضاء , وتكاد تغرقها. تكورت فى رقدتها ووضعت يديها بين فخديها، ثم تقلبت.. تحسست جبهتها فشعرت أنها محمومة، وتوقعت كل حركة خارج الحجرة، وقع أقدامه وإيقاع أنفاسه وتخيلته يدخل عليها الحجرة... تتشابك أصابعهما وتتلامس ألسنتهما، وتدخل هى فى طوابق النشوى والنسيان.
باتت الحجرة مثل القبر الموحش، وخافت أن تموت فى هذه الحجرة الصغيرة، ولن يدرى بموتها أحد لا عائلتها،و ولا أصدقاؤها، ولن تنتظرها غير الفضيحة.
قلقت، فخرجت من الحجرة، بحثت عنه فى قاعة البنسيون الصغيرة، وجدته نائماً كالطفل على أريكة تأخذ جانباً من الصالة.. كان ينام مثل القديسين. عادت إلى حجرتها أخذت المروحة ثم عادت مرة ثانية إلى العامل، وجلست بجانبه، ولمست يديه، وطبعت قبلة رقيقة على شفتيه.. نهضت ودخلت الحمام، اغتسلت، رائحة الصابون ولون المياه أعطاها إحساساً بالخلاص والطهر.. دخلت حجرتها، أخذت حقيبتها، وضعت العسل والمربى والزبدة فى منديل من الورق، وضعتهم فى حقيبتها، وقالت:"حأكلهم لما أجوع"، وقضمت قطعة من الخبز وتركت الباقى على الكوميدينو.. تسللت ببطء , بجوار العامل وضعت بعض النقود فوق صدره. نظرت إلى الحجرة المطلة على البحر، فأنعشها الهواء الهارب من البحر الواسع، دخلت ونظرت نظرة أخيرة، قالت: ماذا لو ألقيت بنفسى من هذه الشرفة تساءلت ولم تفعل.
خرجت من البنسيون، وركبت المصعد الذى هبط بها سريعا. نظرت على مرآة المصعد مرة ثانية قالت يجب أن أخفض وزنى قليلاً، وأقص شعري، وسأصبغه بلون الذهب، وسأرتدى ملابس ضيقة، ثم ابتسمت وقالت ما أكثر الرجال فى العالم ! وسأجد الرجل المناسب لى يوماً ما، وابتسمت ابتسامة التفاؤل وتذكرت الرضيع فى الصورة التى تعلو كونتر الاستقبال، خرجت تملؤها القوة برغم سهرها طوال الليل.
كان النهار قد بدأ فى البزوغ فعبرت الطريق تجاه البحر، وسارت على الكورنيش وأخذت تبعد وتبعد حتى غابت عن الشمس والبحر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.