افتتاح بطولة إفريقيا للكرة الطائرة «سيدات» بالأهلي    تامر حسني يبدأ تصوير فيلم «ري ستارت» في مايو    رحلة فاطمة محمد علي من خشبة المسرح لنجومية السوشيال ميديا ب ثلاثي البهجة    التربية للطفولة المبكرة أسيوط تنظم مؤتمرها الدولي الخامس عن "الموهبة والإبداع والذكاء الأصطناعي"    أسعار الذهب فى مصر اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    بالصور.. إحلال وتجديد 3 كبارى بالبحيرة بتكلفة 11 مليون جنيه    وزير التنمية المحلية يعلن بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة    خبراء الضرائب: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    وزيرة البيئة تعقد لقاءا ثنائيا مع وزيرة الدولة الألمانية للمناخ    النواب يرسل تهنئة رئيس الجمهورية بذكرى تحرير سيناء    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    وزير الخارجية الروسي يبحث هاتفيا مع نظيره البحريني الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتصعيد بالبحر الأحمر    ذاكرة الزمان المصرى 25أبريل….. الذكرى 42 لتحرير سيناء.    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    تحطم سيارتين انهارت عليهما شرفة عقار في الإبراهيمية بالإسكندرية    والدة الشاب المعاق ذهنيا تتظلم بعد إخلاء سبيل المتهم    الآلاف من أطباء الأسنان يُدلون بأصواتهم لاختيار النقيب العام وأعضاء المجلس    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    «الصحة»: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    «التعليم» تستعرض خطة مواجهة الكثافات الطلابية على مدار 10 سنوات    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    حصاد الزراعة.. البدء الفوري في تنفيذ أنشطة مشروع التحول المستدام لإنتاج المحاصيل    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    مدينة أوروبية تستعد لحظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل (تعرف على السبب)    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    إيرادات الخميس.. شباك التذاكر يحقق 3 ملايين و349 ألف جنيه    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    مياه الشرقية تنفذ أنشطة ثقافية وتوعوية لطلبة مدارس أبو كبير    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    تأجيل الانتخابات البلدية في لبنان حتى 2025    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    مساعدو ترامب يناقشون معاقبة الدول التي تتخلى عن الدولار    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الثالثة .. من رائعة الأديب الكبير صنع الله إبراهيم : الجليد
نشر في اليوم السابع يوم 06 - 01 - 2011

ملخص ما نشر.. الأحداث فى بداية السبعينيات، يبدأ شكرى رحلته ضمن الدارسين الأجانب فى موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتى، فى بيت المغتربين «الأبشجيتى» ويضطر للسكن فى غرفة مع ثلاثة آخرين، ونعرف أن البطل فى الخامسة والثلاثين، ويبدأ فى التجول بموسكو لشراء بعض الأطعمة، الوقت شتاء والجليد يغطى الأرض والشعارات الشيوعية فى كل مكان.
يتنقل شكرى مع رفقاء وزملاء بين المطاعم ومحطات القطار والحافلات ويسهر فى أحد مطاعم موسكو، وبين تنقلاته نتعرف منه على زملاء من دول عربية وأوروبية من اليساريين فى بلادهم الذين قدموا للدراسة والإقامة فى الاتحاد السوفيتى وبشكل غير مباشر نلمح مناقشات عن مصر والوضع فى الشرق الأوسط وعلاقة الاتحاد السوفيتى بالأحزاب الحاكمة فى سوريا أو العراق وينتهى الفصل الأول وشكرى مع عراقيين يناقشون علاقة الشيوعيين فى العراق بالبعث وعبدالكريم قاسم.
فى الفصل التالى يواصل شكرى توغله فى المجتمع يرافق زويا إلى كونسرت فى البلشوى تعزف فيه رباعية لموتسارت، ويعود لنرى علاقة بين هانز وزويا يذهب شكرى يوم السبت مع فريد وبشار السورى وصديقته هيلين إلى منزل صديقة فريد الروسية على مسافة ساعة ونصف بالقطار، ويواصل رصده أحوال الاتحاد السوفيتى «أدارت إيرما التليفزيون فشاهدنا فيلماً دعائياً ضد الخمر، قالت ضاحكة إن عاملاً عجوزاً اقتيد إلى قسم الشرطة بسبب إفراطه فى الشراب، وعندما سئل عن السبب فى لجوئه إلى الزجاجة قال إنها تمنحه الوقت الوحيد الذى يشعر فيه بأنه إنسان»، سهرة مع أسرة إيرما حتى الصباح ويستعرض شعارات الحزب الشيوعى «النقد الذاتى البنّاء أساس حزبنا»، «ومن النار يولد الصلب»، تحدث شكرى مع الآخرين عن مشاكل المسلمين والمسيحيين فى مصر، ثم عدنا إلى المنزل واستأنفنا الشراب ولعب الورق، وتتواصل جولات شكرى التى تنتقل بين المترو والابشجيتى والدارسين الأجانب والعرب، يكتشف شكرى أنه مصاب بالتهاب بروستاتا بسبب البرودة. يذهب للطبيب ويواصل عمله على الآلة الكاتبة، بعد إصلاحها، فى دراسته ولا يتوقف عن الإشارة لما يدور هناك تحت الجليد.
ويواصل عمله فى الصحف المصرية حيث يجمع الأخبار ويربط بينها وهى صحف فترة حرب يونيو 67 وخلال هذا ينسج علاقات مع الفتيات مثل باقى الدارسين.
(29)
التقيت ولامارا بعد يومين ولم تكن ناتاشا معها. ذهبنا إلى منزل عبدالحكيم. أعطانا غرفة نومه. ثم التقينا مرة أخرى بعد أيام. فكرت فى التنزه قليلاً لإرضائها، وربما دخول سينما، ثم نأخذ بعض الطعام ونذهب إلى شقة عبدالحكيم. تأخرت قليلاً فبدت كالنمرة. وأسقطت كل قناع من اللطف. مشينا بضع دقائق فى صمت. وشعرت فجأة بالرغبة فى العودة إلى حجرتى لأعمل، وبأنى لا أريد منها شيئاً. قالت إنها تريد الذهاب إلى مكان فى وسط المدينة به موسيقى ورقص. عرضت عليها الذهاب إلى شقة عبدالحكيم رأساً، فرفضت وطلبت منى كبيكين. ذهبت إلى كشك تليفون وأخرجت مفكرة صغيرة من جيبها. تلفنت ثم عادت وطلبت منى كبيكين آخرين. تلفنت مرة أخرى. هل ترينى أن لديها خيارات أخرى؟ قالت إنها ستذهب وحدها إلى وسط المدينة. ودعتها شاعراً بالارتياح.
(30)
استدعتنى القومندانة وأبلغتنى بأنها أضافت إلينا طالباً روسياً. قالت إننا اثنان فقط. قلت لها: غير صحيح. هناك ماريو وجلال الدينوف. نظرت إلى بطريقة من يعلم الحقيقة، ولم تعبأ باعتراضى. تحدثت مع الديجورنايا فهمست وهى تتلفت حولها، إن بعض العواجيز يؤجرون غرفا فى مساكنهم للطلاب، رغم أن هذا غير قانونى. أعطتنى عنوانا قريبا وذهبت إليه. فوق الباب أيقونة مسيحية علق بها مصباح صغير.كان المسكن ل بابوشكا، عجوز، خلا فمها من الأسنان. مبنى حديث مزود بمصعد وتدفئة مركزية. غرفة واحدة ومطبخ وحمام. سألتها: أين سأنام؟ قالت: هنا. وأشارت إلى أريكة متهالكة. وقالت إنها ستنام فى المطبخ، حيث يوجد فوتيل قديم تعلوه كومة من الأغطية. دفعت لها عشرة روبلات إيجارا لشهر. أحضرت من بيت الطلاب بعض الملابس والأغطية بالإضافة إلى الآلة الكاتبة وبعض الصحف.
(31)
شعرت بآلام فى صدرى ونبضات متسارعة لقلبى. ذهبت إلى العيادة الطبية. لم يكن الطبيب يعرف الانجليزية، ولم أتمكن من شرح ما أشعر به. احمر وجهى وخرجت ساخطا على نفسى. أثناء العودة فوجئت بشرطيين فى معاطف عسكرية طويلة، يحيطان بى فى محطة المترو. أمسكا بذراعى فحاولت الاحتجاج. لم يردا على واقتادانى بعنف إلى غرفة جانبية بها ضابط خلف مكتب، ويجواره رجل أربعينى على وجهه علامات الانزعاج والخوف. طلب منى الضابط بطاقة هويتى فأعطيتها له. سجل محتوياتها على ورقة وطلب منى التوقيع عليها. فهمت أنها شهادة بما وجدوه فى ملابس الرجل عند تفتيشه: سلسلة مفاتيح ومفكرة وميدالية ومنديل وعلبة سجائر روسية وثقاب. وكانت هذه الأشياء مكومة فوق المكتب. وقعت على الورقة فتركونى أذهب.
(32)
طرقت باب السوريين ففتح لى حميد. سألته عن زويا. قال: ألم تعرف؟ تعرضت هى وتاليا التى تسكن معها فى الغرفة إلى اعتداء بالضرب من طالب أذربيجانى حاول اغتصابهما، اتهمهما بأنهما «شر..» ترافقان الأجانب، تصرف غريب لأنه شخص رقيق مهذب. نقلت الفتاتان إلى مستشفى الأمراض العصبية للعلاج من صدمة شديدة. فقدت زويا صوتها وتم طرد الطالب وطرد من المعهد.
(33)
قالت البابوشكا، العجوز، إن معها ستة كابيكات وستذهب بها إلى صاحبتهم. ذكرت ذلك لى بالأمس. راقبتنى وأنا أغلى اللبن فى المطبخ. انقطع فقالت: كان يجب أن تغليه وهو طازج. قلت: تقصدين أمس عندما اشتريته؟ قالت: أجل فنحن لسنا فى بلدك حيث البقر. لم أفهم بالضبط ما تعنيه. ولعلها تظننى من إحدى الجمهوريات السوفيتية الآسيوية. أفطرت على موسيقى باخ: تنويعات على الأرغن لتيمة ذات نغمة شرقية. تلفنت ل مادلين من كشك التليفون فى الشارع، وحاولت أن أتفق معها على موعد فى الغد. وقلت إنها يمكن أن تبيت معى. قالت إنها مرتبطة بأصدقاء من الجامعة وستبيت عندهم.
(34)
عادت تاليا من المستشفى أولاً. زرتها فى غرفتها مع حميد. الكتب واللوحات والملابس الداخية ملقاة فى كل مكان. تربى عصفورين صغيرين منذ عودتها. تحدثنا عن معلمة شديدة التبرج بسبب الوحدة التى تعيش فيها. ثم تحدثت عن الطالب الأوزبكى الذى ستتزوجه فى اليوم التالى. أشارت إلى العصفورين وقالت إنهما جهاز العرس. سألناها عن زويا. قالت إنها بقيت فى المستشفى ولا يسمح لها باستقبال الزوار.
تناولت صحيفة البرافدا. تصدرتها صورة بريجنيف بمناسبة حصوله على جائزة لينين للسلام. روت تاليا نكتة عنه. جاء إلى مكتبه فقال له السكرتير: يا رفيق إحدى فردتى حذائك بنية اللون والأخرى سوداء. فقال: أعرف فعندى زوج مماثل فى المنزل.
قالت إنه يهوى اقتناء السيارات الجديدة السريعة وخاصة الأمريكية ويمتلك عددا منها. وابنه يملك يختا ويذهب للصيد فى أفريقيا، وابنته جالينا تهوى اقتناء العشاق والماس، وتشترك فى تهريبه إلى الخارج، وزوجها يورى تشيربانوف، نائب أول وزير الداخلية، يأخذ رشاوى بالملايين.
(35)
انتهيت من قراءة كتاب «المفكرة الفلسطينية». الفلسيطنى كشخصية تراجيدية ضحية مؤامرات الآخرين. يروى الكتاب على لسان تشرشل فى مجلس الوزراء البريطانى قبل أيام من إعلان وعد بلفور سنة 1917: «قيام وطن قومى لليهود فى فلسطين يخدم أهداف بريطانيا من حيث أنه يساعدها على مواجهة تناقض المصالح الحاد بينها وبين العرب». قال أيضاً: «هذا الوطن القومى لليهود فى فلسطين سوف يكون عازلا يفصل العرب شرق سيناء والعرب غربها، ثم إنه سيكون بحاجة إلى الدفاع عن نفسه ضد الامتداد العربى الواسع، سوف يبقى دائماً فى أحضان الغرب الذى يستطيع فى أى وقت استخدامه قاعدة للعمل ضد أى تهديد لمصالح الامبراطورية البريطانية فى مصر من ناحية، أو فى العراق من ناحية أخرى، كذلك فإن هذا الوطن القومى لليهود سوف يشغل العرب ويمتص طاقاتهم أولاً بأول».
(36)
اشتغلت جيداً فى الصحف ثم نمت ساعة. قلت للعجوز إنى أريد أن أغلى بعض الملابس. قالت مستنكرة: وتعلقها بعد ذلك فى البلكونة؟ قلت: لماذا لأ؟ قالت: غدا عيد أول مايو، وأنت مواطن سوفيتى، تريد أن يأتى أول مايو وملابسك الداخلية معلقة فى الهواء؟ رأتنى أستعد للخروج فسألتنى: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: سأقابل صديقتى. قالت: أعرف أنى وحيدة وسأبقى وحيدة. ظلت واقفة عند مدخل الحجرة حتى فتحت الباب الخارجى فقالت: احضر لى معك ماروجنا. ذهبت إلى موعدى مع مادلين أمام أبشجيتى معهدها. خرجت إلىّ زميلة روسية لها تدعى ليديا. قالت إن مادلين سافرت مع البرازيليين وبقية طلبة أمريكا اللاتينية فى زيارة ميدانية للجنوب. تذكرت أن ماريو تحدث عن ذلك. قالت إن مادلين اشترت لى تذكرة لمسرح البلشوى من السوق السوداء بعشرة روبلات. قالت إنها ذاهبة أيضاً ويمكن أن نذهب معاً. كانت نحيفة فى طولى، لها صدر بارز وشعر بنى اللون مكوم فوق رأسها، وشفتان رفيعتان وبشرة وردية. ذهبنا إلى المسرح. وأنا جالس إلى جوارها جاءتنى منها رائحة دهنية. كان العرض من قسمين: الأول باليه رومانتيكى ورقص تقليدى وموسيقى مملة إلا فى الجزء الذى يقدم رقصة شعبية دانمركية. لكن القسم الثانى كان رائعاً. باليه «اليوسفى العجيب»: موسيقى بيلا بارتوك المتوترة التى تعتمد الإيقاع السريع الرصين ورقصا حديثا يعتمد على الحركات المتوترة واستخدام الأيدى والأوضاع الرياضية للجسم.
ونحن فى طريقنا إلى خارج المسرح وضعت يدها على رأسها. قالت إنها تشكو من الصداع الدائم منذ انفصلت عن زوجها وتركت طفلتها مع أمها. بدأ مطر خفيف. أخرجت مظلة صغيرة من كيسها ورفعتها فوق رأسينا. قالت إنها تريد العودة إلى الأبجشيتى. قلت ضاحكاً: كنت أظن أننا سنذهب عندى. قالت ضاحكة: لا يمكن. مشينا فى أنحاء بروسبكت ماركس ثم انحنينا يساراً وتوقفت أمام مقهىسادكو قالت: نشرب قهوة هنا. ثم قالت: لأ. نعود. أمام باب أبجشيتى معهدها سألتها: متى أراك مرة أخرى. غداً؟ قالت: هذا الأسبوع لن نستطيع الالتقاء لأنى متعبة. وأمامى مذاكرة شديدة لأنى أستعد للامتحان. فكرت: معنى هذا أنى سأقضى يومى العطلة بمفردى. قلت: إذن نلتقى يوم الثلاثاء.قالت: هنا؟ قلت: نلتقى فى أى مكان آخر. أريد أن أدعوك إلى عرين الأسد لنحتفل بنتيجة الامتحان. قالت: أنا واثقة أنى لن أنجح. قلت: إذن لنخفف الصدمة. نأكل ونشرب ونسمع موسيقى. عبست قليلاً ثم قالت: اسمع، لا أدرى متى سأنتهى، ربما فى السابعة أو الثامنة. قلت: إذن بعد أن تنتهى. قالت: لنلتقى يوم الأربعاء. قلت:خراشو، حسنا، الساعة 7 عند محطة المترو، ربما ذهبنا إلى السفارة الفرنسية لنرى فيلما. قالت: سنرى. افترقنا أمام باب الأبشجيتى.
وضعت يداى فى جيبى معطفى، ومضيت إلى نهاية الشارع. شعرت أن الجو رائع ودافئ. ورائحة الهواء منعشة بعد أن توقف المطر. عبرت بحديقة انتشر بضعة أزواج على مقاعدها يتبادلون القبلات. ومرت بى امرأة تسند رفيقها الذى كان يتحدث بلا انقطاع ويبدو ثملاً. مضيت من أمام الجوم الذى علقت فوقه راية حمراء عريضة تحمل عبارة: «نطبق قرارات المؤتمر الرابع والعشرين». محطة المترو. كان هناك شاب روسى يبدو سعيداً ببنطلون أحمر ذى أطراف واسعة حسب الموضة. فى الغالب حصل عليه من السوق السوداء. بحثت عن عملة فى جيبى. هبطت السلم ومضيت فى الممر المؤدى إلى العدادات. مررت من أسفل اليافطة التى تدعو الجمهور إلى إعداد خمسة كبيكات قبل الركوب. وضعت العملة فى العداد وانتظرت حتى أضىء نوره فعبرت. وقفت على السلم الحديدى حتى أصبحت فى الممر السفلى. اتجهت إلى المحطة وجاء القطار. ركبت ووقفت إلى جوار الباب. إلى جوارى كانت فتاة صغيرة شقراء فى الخامسة عشرة ويدها فى يد فتى من سنها. وأمامى مباشرة امرأة فى الثلاثين يبدو عليها الانهاك. ثم نزلت بعد محطتين فى كيروفسكايا وهبطت السلم المتحرك إلى الممر العابر. مضيت فى الممر ثم درت معه إلى اليسار حتى محطة تورجنسكايا. أخذت المترو. أمامى كانت امرأة متبرجة وشعرها مرفوع إلى أعلى فى دوائر. بدا الشعر جيد التصفيف، كما لو كانت قادمة من عند الكوافير. وكانت نائمة. وحولنا انتشرت عشرات من وجوه النسوة العادية المجردة من الجمال. أعلن السائق: محطة المعرض، نهاية الخط. وخرجت من المترو. وقفت على السلم الكهربائى الصاعد. كانت هناك مجموعات ضاحكة من الشباب على السلم الهابط. خرجت إلى الساحة. مضيت حتى محطة الباص. كانت الأنوار ساطعة على مبعدة عند مدخل مبنى المعرض الذى علقت فوقه راية حمراء هائلة تحمل صورة لينين. وقفت انتظر الباص. ركبت. وضعت خمسة كابيكات فى العداد وقطعت بطاقة. وقفت إلى جانب امرأة استندت إلى ظهر المقعد بجانب جسدها. التصقت بها، فانحنت ولم تبتعد. انتصبت قليلاً ثم فقدت الرغبة. بعد ست محطات أعلن السائق: النهاية. ودار فى الساحة المجاوة للمنزل. نزلت وولجته. استدعيت المصعد وركبت إلى الطابق الخامس. الشقة مظلمة فيما عدا مصباح الأيقونة. فتحت ودخلت. باب المطبخ مفتوح. فكرت أن العجوز ربما تتفرج على التليفزيون عند جارتها. خلعت المعطف وعلقته وخلعت سترتى. ثم دخلت الحمام أغسل وجهى وأسنانى. عثرت قدمى فى إناء مياه من الصاج فأعدته إلى مكانه. جففت الآثار. دخلت المطبخ فى هدوء بحثا عن قطعة بطاطس مسلوقة. لمحتها فوق فراشها. عدت إلى غرفتى وأغلقت الباب. صببت قدحاً من النبيذ. استخرجت كيس السلوفان الذى أحتفظ داخله بأدوات المائدة. أعددت قطعة خبز مع جبن وزيتون. أشعلت سيجارة. فتحت النافذة وجلست أمامها أستنشق الهواء الدافئ. أسفل كان ثلاثة شبان يعزفون على قيثارة. شربت. ثم أخذت أضحك. وبعد ذلك شربت قدحا آخر. ثم غسلت الطبق وأعدته مكانه، وغسلت السكين ووضعتها فى كيس السلوفان. أشعلت سيجارة أخرى ثم أطفأت النور. خلعت ملابسى وتمددت على الأريكة. التففت جيداً بالغطاء وانقلبت على وجهى.
(37)
فى الصباح سألتنى العجوز: لماذا دخلت علىّ بالليل؟ قلت إنى كنت أبحث عن بطاطس. قالت: أنت قابلت صديقتك وأنا بقيت وحيدة أبكى. ولم تحضر لى ماروجنا. قلت: صديقتى لم تأت. ابتسمت مبتهجة.
شغّلت كوشنشرتو البيانو الأول ل بارتوك. جاءت ووقفت فى مدخل الحجرة وهى تغمغم ساخطة، ثم انسحبت وأدارت الراديو. أناشيد وموسيقى عسكرية. قمت وأغلقت الباب ففتحته قائلة فى انفعال: اليوم عيد، لماذا تغلق علىّ؟ قلت: أريد أن أسمع الموسيقى. قالت: أنا أيضاً أريد. قلت: أنت شغلت الراديو ولم يعد فى إمكانى الاستماع. قالت: سأغلقه حالاً ومضت فأغلقته. ثم وفدت جارتها فأغلقت الباب على.
عملت قليلاً فى الصحف ثم ظهرت الشمس، وفى الخارج كان الناس فى ملابس الأعياد والأطفال يحملون البالونات. والرجال يحملون مشترواتهم من الموز الذى يظهر فى المناسبات. رأيت زويا متأبطة ذراع شاب حليق الرأس قدرت أنه زوجها. ممتلئ الجسد وأطول منها قليلاً وبعوينات. يسير بجوارها منتصب القامة فى صورة مضحكة. مرا من أمام المنزل تجاه محطة الباص. كانت تسير غارقة فى أفكارها. وكانت أول مرة أراها منذ دخولها المستشفى. لمحت الشقراء التى قابلتها مرة فى المصعد وبدت خجولة جداً. وكانت تجلس على أريكة حجرية بجوار المنزل فى ملابس أنيقة وإلى جوارها طفلتها. بعد قليل ذهبت إلى المطبخ لأعد قهوة. ووجدت العجوز ممددة فى فرشتها. وكانت تبكى. قالت: أنت عندك كل شىء، لا أحد يساعدنى، لست ضرورية لأحد، سأنهى كل شىء بالسكين الطويل. جلست إلى جوارها. قلت: اذهبى إلى الشارع وتمشى حتى السينما. قالت: لا أريد. ليس لى أحد. كنت أفضل فى يوم عيد كهذا أن أذهب إلى الريف أو أى مكان آخر، لكنى لن أذهب وحيدة كالعبيطة، لن أفعل. قلت: عندك صديقتك. قالت: جارة وليست صديقة، صديقتى ماتت. قلت: لا يهم. قالت: عندها بنتها وحفيدتها وكنت عندهم ثم جاء زوار وهم جميعاً الآن حول المائدة وليس لى أحد على الإطلاق، لا زوج ولا عائلة ولا حفيد.
طلبت منى أن أشترى لها ولجارتها ماروجنا وأعطتنى 40 كبيكا. لبست وخرجت إلى الشارع. ذهبت إلى الحانوت واشتريت نصف رغيف خبز وزجاجة كفير. بحثت عن بائع الماروجنا حتى وجدته. التقيت بحميد. قال إنه استيقظ لتوه. ولم يجد فريد أوشريف. ذهبا إلى مسيرة الصباح التى تستمر حتى الثانية بعد الظهر. قال: لقد باعانى وماذا أفعل الآن؟ قلت: تعالى معى نأكل ثم نرى. قال: ماذا ستأكل؟ قلت بطاطس مسلوقة بسبب معدتى. قال: نقلى بيض. قلت: عندى. دخلنا حانوت الخضروات فلم نجد غير علبة خيار محفوظ فى سائل سكرى. قال إنه التقى بحسن السودانى أمس وكانت معه فتاة، وذهبوا إلى مطعم الأراجفى أفضل مطعم جيورجى فى موسكو. شربوا براندى أرمنى وأكلوا دجاجا مشويا فى صلصة ساتسيفى مع طماطم طازجة وكرنب مخلل وفلفل أحمر. كان حسن هو الذى عرض عليهم الشراب، ثم رفض أن يدفع فى النهاية واضطر حميد أن يدفع 25 روبلا، بينما شعر أن السودانى معه نقود كثيرة. سألت عن زويا فقال إنها غادرت المستشفى وأقامت مع أمها وبالأمس أحضرت زوجها إلى غرفته وجلسوا جميعاً فى سلام. قلت إن هذا سيىء فلا يجب أن تضعه فى موقف كهذا، الجميع يعلمون أنها تخونه. سألته إذا كانت قد عادت إلى غرفتها بالأبجشيتى فقال: لا. انتقلت إلى منزل أمها القريب. مضينا فى الطريق إلى منزلى. قال: ألا تظن أنه من حقى أن أطالب السودانى بالنقود؟ قلت طبعا. قال: مرة دخلت مطعم مع فتاة وكنت أظن أن معى ستة روبلات، ومعها هى على أقل تقدير خمسة، شربنا زجاجة فودكا ووضعت يدى فى جيبى، فإذا عندى روبل واحد فقط، سألتها عما معها قالت بضع كبيكات، احترت ماذا أفعل، خلعت سلسلة ذهبية كنت اشتريتها فى ألمانيا الغربية بثلاثين ماركا أى 40 روبل وناديت على الساقى وقلت له: هل تلزمك؟ أومأ مجيبا وأخذها وتحرك بسرعة فقلت له إذن أحضر زجاجة فودكا ثانية، فأحضرها ثم اختفى وظهر بعد قليل وألقى السلسلة على المائدة قائلاً إنها لا تلزمه، احترت ماذا أفعل وتطلعت حولى فى أرجاء المطعم، فإذا شخص بلامح شرقية يقترب منا ويدفع الحساب عنا وقدم نفسه إلينا على أنه مهندس بترول من باكو عاصمة أذربيجان، أمسكت به ليجلس معنا. قلت: عجيبة هؤلاء الأذربيجانيين، من أين لهم بالنقود، ماذا يأخذ؟ قال: غالبا 200 روبل. قلت: لا يكفوا لشىء فضلاً عن كرمهم العبيط هذا. قال: لديهم مصادر دخل أخرى كالسوق السوداء، لا أحد يعيش على راتبه الرسمى فقط، هذا ينطبق على جميع الجمهوريات وخاصة الآسيوية، كان لى صديق من أوزبكستان، لا يمكن أن تصدق ما رواه لى عن الفساد فيها، البعض يعيشون كما فى العصور الوسطى، يمتلكون جيوشاً خاصة وميليشيات ويحولون العمال إلى عبيد فى ممتلكاتهم.
صعدنا إلى غرفتى. كانت العجوز تلعب الورق مع الجارة وعجوز أخرى. أعطيتها الماروجنا. ثم أعطيتها رواية «آخر الفرسان» الروسية. قالت الجارة: أوه رائع، هذه رواية جميلة. قلت: يجب القراءة. قالت الأخرى: أفضل من البكاء. جلس حميد فى حجرتى وأخرجت علبة لحم محفوظ وأربع بيضات وزجاجة نبيذ أحمر جزائرى وعلبة أرنبيط مسلوق. قلت إنى متردد فى أخذ علبة اللحم إلى المطبخ لفتحها فثمنها روبل وهؤلاء العجائز يعشن على كبيكات. دخلت المطبخ عدة مرات ثم عدت حائراً ماذا أفعل ثم دخلت المطبخ مرة أخرى وفتحت الدولاب وأخذت فتاحة الزجاجات والعلب. تطلعت إلىّ العجوز فى فضول الطفل. عدت إلى الحجرة فأعطيت الفتاحة لحميد. ثبتها على حافة العلبة فوق المائدة وضربها بيده فصدر صوت ما عن المائدة. صحت به: هس. وخيل لى أنى سمعت زمجرة من العجوز. أخذت منه العلبة ووضعتها فوق الأرض الخشبية. ضربت الفتاحة بيدى ثم أكمل هو العملية محاذرا أن يصدر عنا صوت حتى انفتحت. حملتها إلى المطبخ وبحثت عن الوعاء الكبير ذى المقبض والعجوز ترقبنى بينما تلعب الورق. لم أجده. سألتها عنه فقالت إن به أكلها وبدت منفعلة. قالت: خذ الصغيرة. غمغمت أن الوعاء الصغير لا يكفى. أين هو؟ قالت: لا أعرف. ابحث. فتحت الدولاب فوجدته فى الأسفل. وضعته فى الحوض. وضعت العلبة على النار ثم غسلت الوعاء ورأيت اللحم برز من العلبة فأسرعت أنقله إلى الوعاء فملأه. قالت لها العجوز الأخرى: أعطه الوعاء الأكبر، هذا صغير. استجمعت شجاعتى وقلت لها فى حزم: من فضلك أعطنى الوعاء الكبير لأن هذا صغير. تطلعت إلىّ فى انفعال. قلت: سأنقل محتوياته فى شىء ما ثم أعيدها. قالت أين؟ هذا وعائى وبطاطسى. ثم قامت منفعلة وأحضرت الوعاء وأفرغت محتوياته فى وعاء آخر وهى تصرخ: اشتر لنفسك وعاء. هذه أوعيتى وهذه بطاطسى. وجمت العجوزتان الأخريان ثم غادرتا. غسلت هى الوعاء ثم جففته بالخرقة القذرة وأعطته لى فنقلت إليه محتويات الوعاء الصغير وهى تتحرك حولى فى عصبية مزمجرة. ثم كسرت البيض وحملته إلى المائدة وكانت هى قد دخلت الحجرة وطافت بها ثم خرجت وعادت وقدمت إلينا شوكتيها القديمتين اللتين تشبهان مخالب ثعلب قذرة. نحيتهما جانبا وأخرجت شوكتين من كيس السلوفان.
فتحت زجاجة النبيذ فتفتتت السدادة. قلت: لا بد إنها سدادة سوفيتية. قال حميد: طبعاً لأن التعبئة تتم هنا. فهم يستوردون النبيذ من الجزائر فى براميل أو صهاريج بواخر. شربنا وتقززنا قليلاً من مرارته الزاعقة.. قال: الجزائريون يبيعون النبيذ الفاخر لفرنسا ويرسلون البقية هنا. قلت: وهنا أظنهم يضيفون إليه ماء. قال: ووساخات، انظر ما تبقى فى قاع الكوب. قال: هل رأيت فيلم ليسوباد حيث يتم خلط النبيذ فى مصنع من أجل استكمال الخطة؟ قلت: لا أذكر. قال: المخرج هو يوسيليان الذى أخرج فيلم «عاش طائراً مغرداً». الموضوع عن شاب مراهق وديع يلتحق بمصنع لإنتاج النبيذ، وهناك عاملة تجيد اللعب بالرجال، ثم يكتشف أن النبيذ يتم خلطه ويقول له الجميع ألا فائدة من الوقوف فى وجه المدير، ثم تغازله الفتاة وتدعوه إلى منزلها، أمام المنزل يضربه عاشق بلطجى وتستمتع الفتاة بذلك، ثم يذهب الفتى إلى المصنع بوجه متورم، يلتقى بالفتاة التى تحاول الاعتذار إليه فيربت على خدها فى تعال قائلاً: لا شىء يا فتاة. وينحيها جانبا فتتابعه مذهولة، ثم يأمر العمال بالكف عن ضخ النبيذ ويأمرهم بصب مادة قطرانية فى الصهريج المخصص لذلك ويعلن أنه بهذا لن يستطيع أحد خلط النبيذ.
أنهينا الزجاجة وأشعلنا سيجارتين. ظهرت العجوز قائلة: الدخان كثير ورأسى يوجعنى. لماذا لا تدخنان فى البلكونة؟ قلت فى غضب: لا تدخلى الحجرة، سأدخن هنا. قالت: هنا مسكنى أدخل متى أشاء. قلت لها: سأغلق الباب. وأردت أن أغلقه فمنعتنى فى عصبية وقد تورد وجهها انفعالاً. قلت: إذن سأترك المنزل، قالت: مع السلامة. جلست مع حميد وهو يغالب الضحك. قال: العجائز، العجائز، لنخرج. قلت: أين تريد أن نذهب؟ قال: إلى أى مكان به بيرة، اليوم عيد ولا معنى لأن نقضيه هنا. حكيت له كيف فتحت العجوز باب غرفتى ليلاً فى هدوء وأنا نائم فاستيقظت وسألتها عما تريد فلم تتكلم ثم كررت السؤال فتأوهت قائلة: كنت أريد دواء، نم، نم. قال: سكنت مرة مع عجوز مرحة، كانت نظيفة وقوية، وكانت تضحك معى وتسألنى عن البنات فى الفراش وتسجل لى مكالماتى التليفونية، أما هذه فدنيئة.
أخذت العجوز تبحث عن مفتاحها قائلة إنها تريد الخروج ونسيت أين وضعته. قال حميد: لم تضيعه، هذا أسلوب العواجيز، ستقول الآن إن دخان السجائر هو المسؤول. وجدت العجوز المفتاح وخرجت. عاد يقول: لا معنى لأن نقضى اليوم هنا، بنا نشرب بيرة. قلت: المفروض ألا أشرب كثيرا وكنت أريد أن أعمل بعد الظهر. قال: تعرف ماذا أريد الآن؟ امرأة. قلت وأنا أيضاً، قال: تعال نبحث. قلت: أين؟ قال: فى وسط المدينة. سألته عن صديقته تانيا. حكى لى عن مشكلته معها وكيف كان سكرانا وأخذ يقبل صديقتها راقصة الباليه فتركت السيارة غاضبة ووقعت على الأرض وقالت إنها لا تريد أن تعرفه بعد اليوم. سألت: هل الصديقة جميلة؟ قال: جسمها رائع. قلت: إذن ابق معها. قال: لكنى أريد تانيا. قلت فى خبث: وزوجتك؟ قال: فى دمشق. ثم قال إنها من عائلة كبيرة وتعرف بها فى أحد النوادى وعندما جاءته البعثة قرر أن يتزوجها وتعمد أن تحمل قبل أن يسافر. سألته عن السبب. قال: كى تجد ما يشغلها وهو فى موسكو وكى لا تفكر فى تركه.
لبست بلوفر أزرق برقبة وفوقه السترة الزرقاء. ركبنا الباص ثم المترو وجلسنا فى آخر عربة وآخر مقعد. كانت أمامنا امرأة فى الخامسة والأربعين ذات بشرة كابية. وهناك روج فى شفتيها، وشعرها مصبوغ منسدل على جبهتها، ترتدى معطفاً صيفياً جديداً، وحذاء جديداً، يدها بلا خاتم وقابضة على حقيبة يد فوقها مجلة مطوية ومظلة صغيرة. كانت عيناها إلى أسفل وتتجنب رفعهما فى أى اتجاه. قلت لحميد: ستقرأ مجلة الأدب الأجنبى وتذهب إلى الباليه أو المسرح، وكل ما تتمناه هو رجل لكن الرجال سكارى. قال: هل تعرف كم يعيش فى موسكو؟ بين 8 و10 ملايين إنسان، منهم مليون متزوجون ومليونان عجائز فوق سن الجنس ومليونان عجائز تحت سن الجنس وثلاثة ملايين من النساء بين سن 20 و54. قال بعد لحظة: كل هؤلاء يعيشون على الانتصارات الصغيرة: شراء زهور أثناء عاصفة ثلجية فى فبراير، الحصول على تذكرتى مسرح، العثور على زوج من الأحذية فى المقاس المناسب أو ملابس داخلية مستوردة فى حانوت لايبزيج.
نزلنا فى محطة مكتبة لينين. ومضينا فى الممر السفلى إلى محطة أخرى ومنها إلى بار البيرة فوجدناه مغلقا. استندنا إلى سياج خارجى يطل على الشارع والآلاف تروح وتجىء أمامنا. قال أين نذهب؟ قلت لا أعرف، أنت القائد.
مضينا إلى كافيه إيليت. كان هناك زحام شديد. وقفنا إلى جوار فتاتين. حانت منهما نظرة إلىّ فابتسمتا. إحداهما جميلة جداً والأخرى قبيحة جداً. جذبنى حميد من ذراعى قائلاً: هذا نابور. قلت: ماذا تقصد؟ قال: قاعدة الحياة السوفيتية. عندما تريد شراء شىء تجده يباع مع شىء آخر لا تريده وعليك أن تشتريهما معاً. سأل: ندخل؟ قلت: لا أعرف. قال: لا يوجد مكان. قلت: ولا فى الطابق الأسفل؟ قال: هيا نذهب. أكملنا الشارع حتى نهايته حيث مطعم أرباط الفخم الذى يتألف من صالة هائلة صفت فيها المقاعد والموائد. ظهرت من خلال الزجاج ثلاث مغنيات فوق منصة. هالنى العدد الهائل من النساء الوحيدات. عندما اقتربنا من بابه رأينا الحارس يحول بين الناس والدخول. دفعنى حميد أمامه قائلا إنى أجنبى الشكل. اعترضنى الحارس فقلت له إننا ذاهبان إلى البار. أفسح لنا فمضينا إلى البار الذى كان صالة طويلة مليئة بالموائد فى نهايتها ألواح زجاجية تشرف على الطريق. كانت هناك بضعة مقاعدخالية قرب البار لكن حولها رجال. اخترنا مائدة تجلس إليها فتاة وشاب مائل عليها. سألناه إذا كان المقعدان سفابودنا، خاليين؟ رد بالإيجاب. جلسنا وسألنى حميد: ماذا نشرب؟ قلت: أنت القائد. مضى إلى البار وأحسست بالفتاة تتأملنى. تطلعت حولى إلى مائدة قريبة جلست إليها ثلاث فتيات واحدة قبيحة والثانية بظهرها لى والثالثة متوسطة الجمال. اقترب شابان منهما ووقفا يتحدثان إليهما فيما يشبه الدعوة والفتيات يضحكن ويرفضن. عاد حميد بكأسين طويلين عبارة عن خليط من الجن والفودكا والكونياك وفى القاع حبات من الكرز وقطعة من الكمثرى. جلسنا نحتسى بالشفاطة السائل المثلج. كانت جارتنا صغيرة السن متوسطة الجمال أنيقة وملابسها قصيرة، والفتى يرتدى كرافتة ملونة فوق قميص جديد برزت أكمامه خارج السترة تحليها زراير زجاجية كبيرة فى لون بيج. وكان يتحدث واضعا يده على خده والحديث بينهما متقطعا. وسمعتها تقول له بدلال: يا نى ماجو، لا أستطيع. انطلقت الألعاب النارية فى السماء خلف الفتاة فاستدارت بكرسيها الدائرى بحيث أصبح فخذاها أمامى وجعلت تتأمل السماء من خلال لوح الزجاج. ولاحظت أنها تتأمل نفسها فى الزجاج أكثر من السماء. جاءت عجوز بدينة فى ملابس العاملات وجذبت الستائر فوق الزجاج قائلة بغضب: غير مسموح. قلت لها إننا نريد أن نتفرج. قالت: تفرج فى منزلك أو فى الشارع أما هنا فلا. انتهزت جارتنا الفرصة لتجاذبنا الحديث مبدية ضيقها بهذا التصرف الغبى. قلت: اليوم عيد ولا بد أنها وحيدة. قالت: محتمل نحن هنا لنبتهج لكنها غبية وفظيعة. قال لها الشاب وقد احمر وجهه: اهتمى بكأسك. قمت وجذبت الستارة وضحكت الفتاة. جاءت العجوز وأغلقت الستارة وهى تصيح غاضبة وعنفت الفتاة. سمعتها تقول بعد قليل إنها ضجرة. فعرض عليها الشاب الانصراف. قامت وودعتنا وتحرك الشاب فى صمت وعينه إلى الأرض والدم يندفع إلى وجهه. قلت له: سبرازنيكم، كل سنة وأنت طيب. فأجاب: سبرازنيكم. وجهت اهتمامى إلى المائدة المجاورة. رجل طويل عريض بعيونات وقفاه ناحيتى وإلى جانبه فتاة أنيقة صففت شعرها فى حلقات متمردة مصبوغة قليلاً بلون أصفر. كانت شفتاها ناعمتين موردتين وفى عينيها رموش صناعية. وكان رداؤها قصيراً يكشف عن فخذين فى كولون أبيض. قلت لحميد: بيروقراطى مع سكرتيرته. قال: أو عضو مهم بالحزب. كان الصمت بينهما طويلاً. يقطعه هو أحياناً فتستمع إليه ثم تضربه على ساعده فى ألفة. لاحظت أنى أتأملها فمسحت عينيها وتأملت فخذيها دون أن تبذل محاولة تغطيتهما. قال حميد: نخرج. قلت: نبقى. قال: نخرج. قلت إلى أين ؟ قال بار الأخضر أو الأقصر. هناك فنلنديات ودانمركيات. خرجنا إلى الطريق وسرنا وسط المئات. تأملت بنايات شارع كالينين العالية التى انتشرت فوق واجهاتها الزهور والأعلام الحمراء ولافتات تعلن: «المجد لأول مايو» و«المجد للعمل». قال: أمس كنت مع شريف وفريد وكنا سكارى ودار حديث طويل عن الماركسية اللينينية وكل واحد يؤكد أنه ماركسى لينينى أكثر من الآخر. فوق محطة المترو شعار بالأنوار: «المجد للحزب الشيوعى». وأعلاه جريدة ضوئية: «مواطنو موسكو المحترمون: شاهدوا فيلم خمسين سنة للاتحاد السوفييتى». الميدان الأحمر شعلة ضوء وأعلام حمراء. انحنينا فى شارع جوركى الذى يرتفع تدريجيا فهالنا حشد هائل من الجماهير مقبل من أعلى نحو الميدان وهم يرددون الأغانى والأناشيد. دخلنا الفندق ومضينا إلى الطابق الذى يوجد به بار يتعامل بالدولار ويشبه الكهف.. طلب حميد بإنجليزية ركيكة من عامل البار كأسين من الويسكى. تطلعت إليه متسائلاً فهمس لى: لو طلبت بالروسية سيغشنا. كان البار مزدحماً بالأجانب والسوفييت الآسيويين. قال حميد: هنا تعقد صفقات السوق السرية، أخشاب مهربة إلى وسط آسيا، كافيار أسود إلى الغرب فى علب مكتوب عليها رنجة، ذهب وفراء وألماس وأيقونات بل وحبوب منع الحمل المستوردة.
جلس أمامنا شاب أسمر وسيم. سألنى: من أين؟ قلت: من مصر. قال إنه من المكسيك وضحك متسائلا: فتح ما زالت قائمة أم انتهت؟ قلت: هذا هو السؤال. كانت برفقته فتاة روسية ذات حواجب رفيعة للغاية تضع يدها على خدها. يدور بينهما حديث متقطع. انضم إليهما آخر بلحية ومجموعة ثالثة: شابان أحدهما فنلندى أو ألمانى والآخر شكله إنجليزى أو أمريكى بلحية وفتاة روسية أنيقة ثرثارة ضاحكة لا تكف عن احتضان الألمانى. وبجوارى جلست عجوز ومعها شاب صومالى أو إثيوبى أحضر كأسين وأخذ يقبلها وسمعتها تقول له إنها تريد أن تصوره. بعدها فتاة طويلة شقراء وقرغيزى وسيم يمسك يدها ويمررها على خده وقد أغلق عينيه فى تكلف وهى كالملكة تركت له يدها بينما اكتشفنا وجها عاطلا من الجمال. انضمت إلينا امرأة فى العقد الرابع من عمرها وطلبت زجاجة نبيذ. قال لها حميد نشرب نخب عيد ميلادك. شربنا. حاولت أن تتحدث معنا فتجاهلناها، احتست زجاجة النبيذ وهى تهز رأسها لنفسها فى استسلام حزين ثم انصرفت. توافد جمع من السياح تتقدمهم امرأة طويلة فى رداء أحمر اللون تحتضن أخرى، ويصدر عنهم ضجيج مرتفع. أتى من خلفنا صوت موسيقى راقصة. اقتربت فتاة طويلة نحيفة فى بنطلون كاوبوى وأنف بارز وقالت للأمريكى ذى اللحية: أريد أن أشرب. يبدو أنه يعرفها لكنه غير مرحب بوجودها. جلست بجواره على نفس المقعد وسمعتها تقول لآخر إنها يهودية.
قال حميد: نخرج. كنا قد أصبحنا فى منتصف الليل ومازال الشارع مزدحما. عند مدخل المترو وقف شاب متنكر فى صورة امرأة وقد أضاف قطعا من الملابس إلى مؤخرته وصدره وأخذ يهزهما. تجمع الواقفون حوله يتفرجون.
(38)
عاتبتنى العجوز لأنى لم أوجه لها تحية الصباح. طلبت منى أن أشغل الموسيقى كما أشاء. اشتغلت جيداً. غادرت الغرفة فسألتنى: ألا تريد أن تشرب شايا؟ قلت: أجل. تبعتها إلى المطبخ. وضعت ملعقة شاى فى كوبى البلاستيكى. أشعلت النار. وكما توقعت قالت: ماء البراد ساخن. قلت: أريده أن يغلى. قالت فى لطف: لكنه غلى. قلت: لا. يغلى عندما أضيفه إلى الشاى. قالت مستسلمة: كما تشاء. كانت رائحة فمها لا تطاق ورائحتها كلها خانقة. قالت: رأسى يوجعنى. كان وجههاً محمراً. قلت: الشمس اليوم قوية. قالت كنت فى المقبرة وكان زحام شديد والشمس قوية ونظفت المكان بالمكنسة ثم وضعت الزهور. ابتسمت ومضت تقول: قبره حسن، لونه أخضر ورمادى، ليس لى أن أشكو. ظهرت الدموع فى عينيها: المرة القادمة سأشترى ألوانا وأزوق له القبر، أعطيه شيئاً من البهجة فهو الآن معتم.
التقيت زويا وزوجها فى الشارع. قبلتنى فى خدى وعرفته بى قائلة: هذا هو الذى حدثتك عنه. سألتنى عما إذا كان هانز قد عاد. فتجاهلت السؤال. مررنا ببيت صديقة لها. ناديناها فخرجت إلينا. وجهت الحديث إلى زوج زويا: متى وصلت؟ ثم ضحكت وقالت: متى ستعود؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.