تمر أيام قليلة ونسجل فى المدارس البحرينية أنا وإخوتى، ودخلت الصف الأول الابتدائى، مرتدية «المريول» وذهبت لمدرستى الحبيبة، كان يومى الدراسى الأول، الذى كان بعد بدء الدراسة بأشهر قليلة، ميّزت أذنى أطفالاً ومدرسين يتحدثون بلهجة لا أفهمها، أخذت أراقب كل شىء صامتة، مترقبة لحظة فهمى ومقدرتى على حل تلك الطلاسم اللغوية، دخلت فصلى (الأول ج) كان درس رياضيات وكان الأطفال قد بدأوا العد (تلاتاعش، أربعتاعش، خمستاعش وهكذ)!! بكيت لعدم فهمى أى شىء على الإطلاق! إنها اللوغاريتمات قبل الأوان!! ومر العام الأول بسلام. وبالرغم من أن التواصل بلهجة مختلفة كان صعباً للغاية فإنى بنهاية العام نلت المركز الأول بجدارة، كنت فتاة صغيرة الحجم ذات شعر قصير، نحيفة، متفوقة، لا أقبل أن يتقدمنى أحد، عصبية، معتدّة بنفسى وبمصريتى بشدة، وقبل كل شىء كنت طيبة مسالمة.. نعم، ففى عالم الأطفال أيضاً يوجد الشر بكل صنوفه وأشكاله، وكان الشر اسمه «غادة»!! غادة فتاة جميلة وشقية، من عائلة بحرينية مرموقة، لطيفة، تدعى الذكاء، وكنت أصر على أنها لا تملكه، وأثار هذا جنونها فأخذت تبالغ فى إشقائى بمقالبها المؤذية.. كانت طفلة متعجرفة مغرورة، لكنك لا تستطيع أبداً أن تكرهها، بل على العكس، كان الجميع يحب صداقتها، فهى بشوشة مبتسمة دائماً. كانت مشاجرتى الأولى معها حين قالت لى: هذا مقعدى أنا (يا مصرية)!! وعلى الفور استدعيت حضارة السبعة آلاف عام فى حنجرتى ونظرتى التى كادت تحرقها فتراجعت عن غيها واستفزازها، بعد أن رددت لها الصاع صاعين، واسترجعت مقعدى، ولكن للأسف كان بجوارها! كنا نتشاجر يومياً، وتأتى الصديقات والمدرسات للحيلولة دون قتل إحدانا الأخرى، واليوم الذى لا نتشاجر به كنا نتظاهر بالشجار (عبث غريب!!).. وبعد يومين جلسنا متجاورتين فى الفسحة لأنه لم تأت صديقات كل منا فاضطررنا للحديث معاً! كانت غادة تحب الأكل كثيراً، لذا لفتت انتباهها وأسعدتها رائحة الساندوتش الخاص بى، إنه سحر «الطعمية المصرية المنزلية»، أما أنا فكنت أتحين الفرص للخلاص من طعامى، وظلت شطائرى من نصيب غادة يومياً إلى أن علمت أمى بالأمر فأصبحت تعد شطيرتين يومياً، ومن يومها وإلى اليوم لم نفترق أنا وغادة البحرينية.. وبعد مرور ثلاثين عاماً ما زالت هى الأقرب والأحب، وما زلنا كما نحن نتشاجر كلما تحدثنا وتستفز إحدانا الأخرى، بسبب وبدون سبب! أتى شهر رمضان هناك فى المنزل ذى رائحة التفاح لأول مرة، وفى تمام منتصف الشهر صنعت لنا جارتنا أكياس «القرقاعون» وشرحت لنا ما هو كى يتسنى لنا المشاركة فى تلك العادة التراثية.. و«القرقاعون» -أو «الجرجيعان» كما يطلق عليه فى بلاد خليجية أخرى- هو احتفال أشبه بالهالووين الأمريكى ولكن دون رعب، يتجمع به مجموعة من أطفال الفريج -أو الحى- يحملون أكياساً من القماش معلقة فى الرقبة ومتدلية على الصدور ويغنون: «جرجاعون عادت عليكم وَيَا، الصيام الله يسلم ولدكم»، هذا إن أعطانا أصحاب البيت الحلوى التى تملأ الأكياس وإن لم يعطونا قلبت الأغنية تهكماً وسخرية.. كل بيت كان يجهز نفسه لاستقبال أطفال الحى واضعاً لهم الحلوى والمكسرات وأحياناً بعض قطع النقود، ونعود لمنازلنا بحصيلة القرقاعون، والاحتفال بمرور نصف رمضان الكريم. وقبل منتصف الليل من كل ليلة وبعد صلاة التراويح يأتى موعد... انتظروا الحلقة المقبلة من «المنزل ذو رائحة التفاح».