المصرف المتحد يحقق 1.5 مليار جنيه صافي ربح بالنصف الأول من 2025    لافروف ووزير الخارجية المجر يبحثان الوضع في أوكرانيا على هامش قمة ألاسكا    تحركات فلسطينية مكثفة بالأمم المتحدة لدعم حل الدولتين قبل الجمعية العامة في سبتمبر المقبل    محافظ أسيوط يتابع الحالة الصحية لمصابي حادث انقلاب أتوبيس على الطريق الصحراوي الغربي ويوجه بتقديم الرعاية والدعم اللازمين    بالصور .. عطية يتابع غرفة عمليات الثانوية العامة الدور الثاني    صحفي فلسطيني: أم أنس الشريف تمر بحالة صحية عصيبة منذ استشهاد ابنها    وزارة الصحة تقدم 30 مليون خدمة طبية بالنصف الأول من 2025    «الرعاية الصحية» تطلق مبادرة لاستقطاب الخبرات الطبية المصرية العالمية    تحرك شاحنات القافلة السادسة عشرة من المساعدات من مصر إلى غزة    فحوصات طبية ل فيريرا بعد تعرضه لوعكة صحية مفاجئة عقب مباراة المقاولون    "لا يصلح".. نجم الأهلي السابق يكشف خطأ الزمالك في استخدام ناصر ماهر    قمة إنجليزية.. مواعيد مباريات اليوم الأحد    الأحد 17 أغسطس 2025.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    وزيرة التنمية المحلية: إزالة 4623 مخالفة بناء فى عدد من المحافظات    تحويلات مرورية بشارع 26 يوليو بالجيزة بسبب أعمال المونوريل    الفرح تحول إلى مأتم.. مصرع 4 شباب وإصابة 5 آخرين في زفة عروس بالأقصر    ضبط 113.2 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    "الجونة السينمائي" ينعى مدير التصوير تيمور تيمور    بزيادة 14 ألف طن.. قنا تعلن انتهاء موسم توريد القمح    يسري جبر: الثبات في طريق الله يكون بالحب والمواظبة والاستعانة بالله    موعد آخر فرصة لتقليل الاغتراب والتحويلات بتنسيق المرحلتين الأولى والثانية    ننشر التسعيرة الحقيقية ل الفراخ البيضاء اليوم.. احذر التلاعب    5 حالات اختناق إثر 3 حرائق في القاهرة والجيزة    أسعار الخضراوات والفاكهة بسوق العبور اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    شرطة الاحتلال: إغلاق 4 طرق رئيسية بسبب إضراب واسع في إسرائيل    فتنة إسرائيلية    جمعية الكاريكاتير تُكرّم الفنان سامى أمين    "بشكركم إنكم كنتم سبب في النجاح".. حمزة نمرة يوجه رسالة لجمهوره    صناديق «الشيوخ» تعيد ترتيب الكراسى    الأردن يدين تجميد إسرائيل حسابات بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس    إصلاح الإعلام    البوصلة    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    "يغنيان".. 5 صور لإمام عاشور ومروان عطية في السيارة    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    مصرع شخصين وإصابة 30 آخرين فى انقلاب أتوبيس نقل على الطريق الصحراوى بأسيوط    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    «مش عايز حب جمهور الزمالك».. تعليق مثير من مدرب الأهلي السابق بشأن سب الجماهير ل زيزو    مواقيت الصلاة في محافظة أسوان اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تعادل الزمالك والمقاولون العرب؟ (كوميك)    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    وزيرا خارجية روسيا وتركيا يبحثان هاتفيا نتائج القمة الروسية الأمريكية في ألاسكا    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة:خبزالعسكر.... بقلم ميسون أسدي
نشر في الواقع يوم 26 - 06 - 2012

أمضى راجي في المسبح ساعة من الزمن وبعدها دخل إلى غرفة التمارين الرياضية وبدأ السير على جهاز المشي السريع لنصف ساعة أخرى، وفي طريقه إلى الكافيتيريا التقى بصديقته الطبيبة زينات برفقة زوجها. قبّلها مشتاقا وبعزيمة صادقة دعاهما إلى الكافيتيريا لتناول البوظة. طلبت زينات وزوجها القهوة، وتناول راجي البوظة "آيس كريم" بطعم الليمون، وأخذ يلحسها وهو مستمتع مبتسم متمتم خفية، لحس البوظة ورأسه يتدلى تحتها بطريقة أثارت ضحك الطبيبة فسألته :ما الأسهل أن تميل البوظة بحسب رأسك أم تُميلَ رأسك بحسبها؟!
سكت راجي ونظر إليها وقال بعد برهة: لو قلت لك لماذا أملت رأسي تحت البوظة، لن تفهمي شيئا، فأنت ولدت ومِلعقة ذهب في فمك..
ابتسمت زينات بسخرية وقالت: تكلم.. كلنا آذان صاغية..
- عندما كنت في المدرسة الابتدائية وقد نهش الفقر بنا نهشا، اشترى أحد زملائي حبة "آيس كريم" بطعم الليمون. رجوته أن يدعني ألحس منها مرة واحدة لا غير، فرفض. نظرت إليه بعينين جائعتين حاقدتين، فيما تساقطت قطرات من البوظة أرضا، لأنها ذابت وهو "يتلظم" مستمتعا بلحسها. أملت رأسي تحت قطرة البوظة ذات اليمين وذات اليسار، علني أحظى بالتقاط القطرة قبل أن تسقط على الأرض. وأخذت أتمايل يسارا ويمينا حتى أنهى اللئيم التهام بوظته، وأنا أتحسر متلظيا.
- أنا أتفهم شعورك جيدا..
- يصعب على طبيبة مثلك تمتلك العقارات، وعلى زوجك صاحب شبكات الصيدليات، أن يفهما ما مررت به في طفولتي؟
أمسكت زينات بيد راجي بنظرات ملؤها الحب والثقة وأجابته: انظر إلى جبيني الذي لوحته الشمس، أترى تينك الندبتين، أنهما وصمة... بلعت ريقها ونظرت إلى عيني زوجها مباشرة وفي عينيها تساؤل: هل تفضي له.. فأشار لها ان تتابع الحديث: اسمع يا راجي، أنا لم أعرف الذهب ولا حتى الملعقة..
تنحنحت وهزت رأسها: كانوا مجموعة من الفقراء المتكتلين، ككتلة من الصبا المنقضة على الحياة، وجوه تأنس إليها، تشردت في دنيا لها أول وليس لها آخر. مجموعة فتحت الصدور لفرح الصباح، ونادت بأعلى صوتها، بحناجر قوية، من البيوت المتباعدة..
- لوين رايحة زنّوب؟
- إلى المزبلة.
- وأنت ليلى؟
- كمان إلى المزبلة.
- سيجيء معنا علي ونادية؟
- وكمان آمال ووصال ومريم وسعيدة!
- الملتقى قرب عين الماء وبعدها "طيارة" إلى المزبلة!
نظرت زينات إلى راجي متأملة وقالت: هل أبحرت مرّة في المزبلة؟!
أجاب راجي باستغراب: لا...!
- أيقظت المزبلة بهم رغبات لا نهاية لها.. فهي تحتوي العجائب والغرائب. لطالما شدت انتباه المجموعة تماما كما تفعل وتؤثر أفلام "والت ديزني" بأطفال العالم، فتجمع الاطفال حولها حفاة، تسترهم بعض الأسمال البالية. صبيان وبنات بعيونهم الواسعة ونظراتهم الحادة.
تناولت زينات رشفة من قهوتها وتابعت حديثها: كان هؤلاء يزورون المزبلة دون إذن أو علم من ذويهم. المزبلة موقع سري. مريم الدرويش وبهجات قادتا المسيرة نحو المزبلة، إنهما الأكبر سنا والأقوى جسدا، تقرران من يذهب ومن لا. من يقدم لهما رشوة - شطيرة خبز، حبة قطين، كوز رمان أو ما شابه- ينضم إلى المحظيين المتبركين بخيرات المزبلة.
ضحكت زينات وهي تنطق جملتها الأخيرة ثم استمرت بحديثها: سار الأولاد مسافة كيلومترين من بيوتهم إلى قمة الجبل، عبروا الطريق الوعرة بطلعاتها الحادة، لسعت الشمس الحارقة رؤوسهم الطرية. جفت حلوقهم عطشا.
سأل راجي بتلهف: عن أية مزبلة تتكلمين؟!
- إنها المزبلة الواقعة على الطريق المؤدية إلى مستوطنة "تيفن"، والمطلة على القرية من قمة الجبل، حيث أقيمت على الأراضي التي سلبها اليهود من أهل قريتهم والقرى المجاورة..
اختلس الأطفال النظر إلى غرفة الطعام في المستوطنة، خوفا من أن يطل أحد العاملين بسحنته النحسة ويطردهم من المزبلة كما تُطرد قطط الشوارع. كان منظرهم وهم ينكشون المزبلة يثير حفيظة السكان اليهود، فتفوح من الأطفال المسكنة ويعشش فيهم الذل.
صمتت زينات قليلا ونظرت إلى زوجها، فأومأ برأسه أن "استمري"، تنهدت زينات ثانية وقالت: تشرف المزبلة اليهودية على غرفة الطعام العامة الكبيرة والتي يتناول فيها المستوطنون طعامهم المشترك يوميا، وما يتبقى وراءهم من بقايا طعام يُلقى في تلك المزبلة، فيتسابق الأطفال، من بنات وبنين، كطيور السنونو المهزولة الداكنة التي تبحث عن الطعام ولا تكاد تجد شيئا يسد رمقها. يلملمون أكياس الخبز الإفرنجي، المسمى "بخبز العسكر"، والمقطع إلى قطع متساوية، هشة سهلة المضغ، تكاد تذوب في الفم لطيب مذاقها. إنه حلو ومالح في آن واحد. يتبارزون بجمع أكياس الخبز الجديدة التي انتهت فترة صلاحيتها ولم تفتح بعد. ثم يجمعون كل ما تبقى من فتات.
أما سعيد الحظ فهو الذي يجد علب الزبدة المغلفة بالورق البلاستيكي الأصفر والأبيض. علب الزبدة الصغيرة الرقيقة والشهية، أسالت لعاب زنوب وأثارت مشاعرها. كانت زنّوب كالنسر في الانقضاض والتقاط علب الزبدة الصفراء وليس البيضاء، فالزبدة الصفراء لها حلاوة وطراوة أكثر من الزبدة البيضاء. معظم علب الزبدة مفتوحة و مستعملة. فُتحت وأُكل جزء منها والقي ما تبقى منها في الزبالة. يزيل عنها الأطفال ما علق من أوساخ، بأطراف ملابسهم ويُطوون الورق البلاستيكي حول الزبدة ويلقونه في أكياسهم الخشنة، التي حملوها في جيوب سراويلهم. والمحظوظ هو من يعثر على علبة الزبدة، وقد علق على طرفها قليل من مربَّى المشمش الأصفر أو التوت الأحمر، من سكين اليهودي الذي دهن خبزه بالزبدة والمربَّى، وتكاد دموع السعادة تنهمر من عيون هذا المحظوظ.
هل تعرف يا راجي أن حكاية المزبلة باتت على لسان حال الأطفال. يحلمون بزيارتها، خاصة الأطفال ممن لم يسمح لهم أهلهم بالذهاب إلى المزبلة البعيدة؟.. كانوا قلة نادرة الوجود. بالغ الأطفال في إشاعاتهم بوصف عظمة مزبلة اليهود، وقد قالوا في حينه إنك تستطيع أن تجد فيها دمى للأطفال وملابس جديدة، حلويات، علب شوكولاطة، دراجات هوائية وطابات، سكاكين، أقلام ودفاتر، أكياس نايلون ملونة، كحلا للعيون وأحمر الشفاه وغيرها مما يلفت انتباه الأولاد والبنات، وأمست زيارة المزبلة لهم كزيارة مدينة الملاهي.
قادت "مريم الدرويش" الأولاد إلى المزبلة، وهي معروفة بقوتها وصلابة جسدها وتسلطها على الضعفاء. وخلال نبشها بين أغراض المزبلة، عربدت مريم وهي ترغي وتزبد، وقررت أن الطرف الشرقي من المزبلة الذي يحتوي على الخبز والزبدة تحت سيطرتها، ومن يدنو منه فهو هالك. اختطفت معظم علب الزبدة وخبز العسكر من أيدي الأولاد الذين ارتاعوا من عربدتها. حرصت زنّوب على ألا تسمح لمريم باختطاف كيسها، فهو كل ما تملك لهذا اليوم فقامت مريم بغرز أظافرها القوية والقاسية في جبين زنوب فساح دمها وترك وراءه اخدودين عميقين، وأخذ الحزن يعصر قلبها، لكنها لم تمكن مريم من اختطاف خبزها. ولم تسمح لها بامتلاك المزبلة. وأعلنت بأعلى صوتها: المزبلة لنا جميعا.
عندما تغيب الشمس وراء الروابي. تحمل زنوب كيس خيش كبير جمعت فيه ما تيسر لها من بقايا طعام المزبلة، بالإضافة إلى ما وجدته، ملعقة، شوكة، سكينا، كأسا مشروما، وما شابه.. وتعود بها إلى أمها غانمة مرتين أو ثلاثا في الأسبوع.. فتقول أمها بشفتيها المرتعشتين وكلامها الممطوط وبفأفأة: "هذه هي البنات المليحة، بدلا من أن تلهو مع أترابها في أمور صبيانية، تجمع الزاد لأهلها"... كان الليل قد أمسى قريبا، في ذلك اليوم الذي تشاجرت فيه زنوب مع مريم الدرويش، حضرت أم زنّوب "القَطْرَ"، وهو الماء المغلي مع السكر وقطرات من الليمون، وتركته جانبا حتى يبرد، أخذت بعض علب زبدة زنوب، وأذابتها في المِقلاة، وحمصت خبز العسكر، ثم غطسته وأغرقته في "القطر" البارد، وقدمته كحلوى مزينة بسعادة. قطعتان من خبز العسكر المحمص الذي يسيل "القطر" من جوانبه لكل ولد من أولادها الملتفين حولها، صامتين هائمين كالقطط الصغيرة، يلتهمون خبز العسكر المقرمش بأسنانهم البيضاء كأسنان الجراء، ويمسكونه بأصابعهم التي تكسوها الأوساخ.. ما أن قضمت زنوب قطعتها الأولى، ومضغتها حتى تفتحت الندبتان اللتان خلّفتهما مريم الدرويش، فسالت قطرات دمائها من على جبينها، واستقرت على خبز العسكر تزينه وكأنها مربى التوت، فمسحت دمها بكمها الأيمن، واغرورقت عيناها بالدموع فمسحتهما بكمها الأيسر. اجتهدت زنّوب في لجم أفكارها بسبب طبيعتها الحساسة. وانفرجت شفتاها عن ابتسامة، فلاحت أسنانها البيضاء منضدة على محيا عاطر مليح.
نظر راجي إلى الزوجين مستغربا، ثم قال: هل زنوب هي ...؟!
لم تجب زينات على سؤال راجي.. بل وضعت أناملها فوق الندبتين في جبينها. تحسستهما بلطف ثم أمعنت تتأمل أصابعها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.