الوصول إلى هنا بسلام مهمة شديدة الصعوبة، فالطرق الترابية عنوان المكان؛ لا مجال لأتوبيسات أو ميكروباصات، يوجد فقط سيارات نصف نقل تُستخدم فى نقل الأهالى، وتشق طريقها فوق رمال وحجارة وعرة، الأطفال يمشون على أقدامهم مسافات طويلة للوصول إلى أقرب مدرسة، مياه الشرب حلم بالنسبة لكثيرين محرومين من أبسط مقومات الحياة، والمريض منهم لا يجد مسعفاً يُغيثه.. هنا ما يقرب من 20 ألف نسمة يعيشون فى قريتى «إبراهيم حسن» و«حنورة» التابعتين لمركز أولاد صقر بمحافظة الشرقية.. مواطنون مصريون فى بطاقة تحقيق الشخصية فقط، أما أبسط حقوقهم فى الحياة فلا يحصلون عليها، هم منفيون ومنسيون. فى جولتنا بالقريتين، استعنا بأحد السكان ليساعدنا فى الوصول إليهما، خاصة أن طريق الأسفلت ينتهى قبل الوصول إليهما بما يقرب من 4 كيلومترات. قبل الوصول إليها مباشرة طلب منا دليلنا الوقوف لنرى بأعيننا ماكينة رفع المياه، المرفوعة من الخدمة، التى كانت مهمتها توصيل المياه إلى القرية، لكنها لم تفعل، وحين سأل الأهالى المسئولين هناك عن السبب سمعوا إجابات عديدة. يقول على المهدى، أحد سكان قرية إبراهيم حسن: «مرة يقولوا لنا إنه مفيش كهربا لتشغيل رافع المياه، ومرة تانية يبرروا انقطاع المياه عندنا بأنه مفيش كميات مياه كافية للوصول إلى قريتنا اللى شاءت الأقدار أن توجد فى نهاية الجزء الشمالى من المحافظة، ومرة تالتة لا يجاوبنا أحد، ولم يعد أمامنا إلا أن نشترى المياه». ويضيف «على» أن «فناطيس مياه الشرب تأتينا من محافظة الدقهلية نظراً لقربها منا، نشترى الجركن الواحد سعة العشرين لتراً بجنيه، ونستخدم تلك المياه فى الشرب فقط، أما الوضوء والاستحمام والطبخ والغسيل فلم نجد أمامنا إلا استخدام المياه الموجودة فى ترعة القرية، التى تختلط بالصرف الصحى، لأننا فى واقع الأمر نعيش دون منظومة صرف صحى من الأساس». حديث الرجل عن المياه والصرف الصحى الذى يستخدمونه فى حاجاتهم اليومية لم يقطعه إلا صوت دبيب كاد يهز أرجاء القرية، سألناه عن مصدر الصوت فأجابنا بأنها حشود من سكان القريتين يهرولون باتجاه سيارات النقل التى وصلت محملة بفناطيس المياه. «ولاء» طفلة لم يتجاوز عمرها العاشرة بعد، كانت تحاول جاهدة الوصول إلى عربة المياه، جسمها النحيل ساعدها فى مهمتها، لكن قبعة كانت ترتديها لتقيها أشعة الشمس الحارقة سقطت على الأرض فما كان منها إلا أن تركت هذا المركز المتقدم الذى حققته فى وقت قياسى وعادت لتبحث عن قبعتها وتثبتها على رأسها، ثم هرعت مرة أخرى إلى سيارة المياه لتبدأ محاولة جديدة. «أنا راسى بتوجعنى أوى وانا باشيل الجراكن على راسى، والشمس بتبقى جايه فى وشى ومش عارفة أعمل إيه»، بتلك الكلمات عبرت طفلة صغيرة عن حزنها لعدم توافر المياه فى قريتها، وأشارت إلى طفل صغير كان يعوم فى الترعة، وقالت: «شايفة الواد الصغير ده؟ إحنا بقى على طول بنعوم فى الترعة دى عشان مفيش ميه، مع إن ريحتها وحشة أوى لأن فيها صرف صحى، ده انا حتى جالى حساسية فى جسمى، لكن هنعمل إيه؟ مفيش قدامنا غيرها». «الميه دى سبب فى العذاب اللى انا فيه»، هكذا قاطع الطفلة الصغيرة مشيراً إلى ذراعه الملفوفة بالشاش قائلاً: «باغسل كلى كل أسبوع بسبب الميه دى، ومش انا لوحدى فيه ناس كتير هنا فى القريتين دول عندهم فشل كلوى»، معاناة «مرسى محمد عبدالرحمن» ومن فى مثل حالته من أهالى القريتين لم تتوقف عند حد إصابتهم بالفشل الكلوى، فالوصول إلى المستشفى لتلقى العلاج هو معاناة من نوع آخر، وذلك نظراً لعدم وجود طرق ممهدة تسمح بوجود وسائل مواصلات، ما يضطرهم إلى تأجير سيارات خاصة تكلفهم ذهاباً وإياباً ما يقرب من خمسين جنيه، يحاول الرجل الخمسينى أن يتغلب على ألم راوده بعد تلقيه جلسة غسيل الكلى ليكمل حديثه قائلاً: «من يومين واحد عنده فشل كلوى مات، وممكن بكره يكون الدور عليا، لكن تفتكرى ذنبى هيبقى فى رقبة مين؟»، صمت قليلاً ثم قال: «هما مش عارفين إننا عايشين هنا؟ يبقى ممكن يحسوا بالذنب أصلاً؟». رجل ثلاثينى قفز فى الترعة عند جزء منها يغطيه بالكامل ورد النيل، ثم أخذ يتحسس بيديه موضع ماسورة تصل المياه من الترعة إلى الأراضى الزراعية المحيطة بها، هى مهمة يومية اعتاد عليها قبل أن يهرع إلى أرضه لمتابعة محاصيله، يقول «محمد غريب»: «لا يوجد أمامنا إلا هذه المياه المختلطة بمياه المجارى لزراعة أراضينا»، ثم أشار إلى أرض زراعية تبعد عنه بعض الأمتار وقال: «الأراضى اللى هنا من أجود الأراضى، لكن كلها بتتروى بمياه مجارى، مفيش قدامنا إلا كده وإلا الأراضى هتبور». كان يركب حماره عائداً إلى منزله، وفور وصوله إليه استند إلى عصاته وكأنه يطلب منها أن تحمل جسده النحيل وسنواته السبعين لتتمكن قدماه من ملامسة الأرض فى أمان. جلس «جاد إبراهيم حسن» على كومة من القش، وأخذ يتذكر ذلك اليوم الذى أصيب فيه بغيبوبة، واضطر الأهالى حينها إلى الاستعانة بعربية «كارو» حتى ينقلوه إلى أقرب مستشفى وهو الذى يبعد عن قريته نحو 25 كيلو، يقول الرجل السبعينى: «إحنا هنا ميتين بالحياة واللى يمرض مالوش دية، لو ربنا كرمه ممكن يوصل للمستشفى، ولو ماكانش فيه عربية كارو أو نص نقل معدية بالصدفة هيموت وهو بيتألم»، ينظر «جاد» إلى أحد الأطفال فى القرية ويقول: «إحنا عشنا مدفونين ومنفيين هنا، لكن دول ذنبهم إيه يعيشوا عيشتنا دى ويشوفوا اللى شفناه؟ وبعدين هو مش فيه ثورتين قاموا فى البلد عشان الغلابة ياخدوا حقهم؟ يبقى ليه لحد النهارده محدش حاول يرحمنا من العيشة دى ونعيش زى بقية البنى آدمين؟». «محمد إبراهيم»، عمدة قرية إبراهيم حسن، يروى معاناة أهل القرية مع رغيف الخبز قائلاً: «القرية عندنا فيها 12 ألف مواطن، وبرغم كده حصة القرية لا تتعدى 8 شكاير دقيق، وبالتالى كل أسرة نصيبها لا يتعدى 10 أرغفة، لكن مش يومياً، هى بتتوزع عليهم يوم ويوم»، يضيف عمدة القرية: «المشكلة ما وقفتش هنا، لكن كمان بسبب صعوبة الوصول للقرية حصة العيش بتتوزع على الأهالى عن طريق سيارة نصف نقل بتيجى تلف عليهم ودى طبعاً بتاخد أجرة على الشغلانة دى، يعنى كل أسرة بتدفع 5 جنيه زيادة عن ثمن العيش عشان تاخد فى الآخر 10 أرغفة 3 أيام فى الأسبوع». إحدى المشكلات الأخرى التى تواجه سكان «إبراهيم حسن» و«حنورة» هى عدم وجود مدرسة ثانوية بالقرية، ما يضطر الطلبة إلى السير على أقدامهم مسافة لا تقل عن 4 كيلومترات للوصول إلى المدرسة الموجودة فى قرية مجاورة. «معالى زايد»، طالبة فى الصف الأول الثانوى، تقول: «إحنا بنتعذب واحنا رايحين المدرسة، لأن مفيش مواصلات تقدر تدخل الطرق اللى هنا دى وتاخدنا، وبنضطر نمشى على رجلينا، وفى الشتاء الطرق دى بتبقى كلها طينة ومابنعرفش نمشى فيها»، تنظر ناحية الأرض فى محاولة لإخفاء عينيها أثناء الكلام وتقول: «إحنا صحيح أولاد قرية بس ممكن يكون فينا ناس كويسين ونشرف البلد، لكن احنا مش بنلحق نذاكر لأننا بنرجع قبل المغرب هلكانين من الطريق، وفيه كتير مننا بيتعب ومش بيروح غير مرة واحدة فى الأسبوع»، وأنهت كلامها قائلة: «نفسى أغمض عينى وافتحها والاقى كل حاجة هنا اتصلحت؛ يبقى عندنا مياه شرب وطرق ومستشفى ومدرسة، لكن شكله كده هيفضل حلم عاش أهالينا يحلموا بيه واحنا هنعيشه من بعدهم، لكن الحقيقة غير الحلم، الحقيقة إننا هنا منفيين ومحدش يعرف عننا حاجة».