يستعرض رسام الكاريكاتير الشهير أحمد طوغان في كتابه «سيرة فنان صنعته الآلام»، الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، تجربته الثرية التي أتاحت له التقاء ومزاملة روَّاد لمعت أسماؤهم في سماء الصحافة والأدب والسياسة، كصديق العمر محمود السعدني، والرئيس الراحل محمد أنور السادات، وزكريا الحجاوي، ومحمد عبد المنعم رخا، وإحسان عبد القدوس، وعباس الأسواني، وصاروخان، وكامل زهيري، بالإضافة إلى أسماء قد نعرفها ولكن لا ندرك قدرها، مثل: أبو الخير نجيب، ومصطفى القشاشي، وسعد زغلول فؤاد، وعبد المنعم الصاوي. وفي رحلته الثرية، يأخذنا طوغان إلى أماكن يسكنها السحر وتطوف بأرجائها الأسطورة؛ لنُحلِّق معه في أجواء ممتعة، قبل أن يُعيدنا إلى صلادة الواقع مرَّة أُخرى، حين يتحدَّث عن جريدتَي «الجمهورية»، و«كاريكاتير»، ثم صدمته في وفاة ابنه بسَّام.. ورغم أنه يضرب بفُرشاته الهموم ليُخرج منها بهجةً كامنةً، إلَّا أنه لا يُخفي آلامه، تلك التي صنعت منه فنانًا ذا مذاقٍ خاص. والكتاب الصادر في 440 صفحة من القطع الكبير، والذي حرَّره أحمد كمال زكي، ينقسم إلى ستة أبواب، بالإضافة إلى ملحق للصور والرسوم والكاريكاتير، وقد افتُتح الكتاب بإهداء إلى أحفاد طوغان، ثم مقدمة كتبها الراحل خيري شلبي عن طوغان ومذكراته، حيث قال إنها «ليست مجرد مذكرات صحفي رسام حقَّق شهرة مدوية، إنما هي فصول من تاريخنا المعاصر، غير أنه التاريخ الحي، التاريخ غير المرئي، التاريخ المخبوء في كواليس استدرجنا إليها ليرينا ما لم نكن نعرفه عن شخصيات عايشناها وتتلمذنا على أيديها وتأثرنا بها. بينما كان الختام بقلم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، من خلال مقدمته التي كتبها لكتاب طوغان «قضايا الشعوب» الصادر عن جريدة الجمهورية عام 1957. استعرض الفنان أحمد طوغان قصة حياته، منذ ولادته في المنيا، ثم انتقاله إلى أسيوط، قالًا: «وُلدتُ في مدينة المنيا بصعيد مصر في العشرين من ديسمبر عام 1926م، وبدأت أدرك ما حولي في مدينة أسيوط. كان أبي ضابطًا بالشرطة، وأيامها كان ضباط الشرطة يتنقَّلون بين مختلف المدن حسب الحاجة إليهم». ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أيامه في القاهرة، قائلًا: «حضرت إلى القاهرة وأنا في الخامسة والعشرين من عمري، وسكنت في أول شارع شريف، بعمارة أمامها حديقة صغيرة ولها بواب نوبي اسمه فرح، كان نبيل الوجه، فيه الأنفة والاعتزاز بالنفس ككل أبناء النوبة، يرتدي جلابية لونها أزرق مُحلَّى بالقصب في الشتاء، وفي الصيف جلابية بيضاء عليها النقوش نفسها، ويضع على رأسه عمامة بيضاء كبيرة». وفي الباب الثاني، يتحدث طوغان عن الحوادث التي تعرض لها وكادت تودي بحياته، بداية من أول حادث تعرض له في أسيوط، حين كان في العاشرة من عمره، حين كان ينزل من على سلم منزلهم فلمح زلعة قديمة في الحوش، ودفعه حب الاستطلاع إلى البحث عما تحتويه، فأدخل يده فيها وسرعان ما أخرجها وعلى ظهرها عقرب كبيرة سوداء، وعندما كسروا الزَّلعة كانت فيها أربع عقارب صغيرة! أما الحادثة الثانية التي كاد يموت فيها – كما يقول – فكانت بعد حضوره إلى القاهرة، كما تحدث عن نجاته من الموت حرقًا، عندما التهمه حريق من الدرجة الرابعة ونقلوه إلى مستشفى الدمرداش بالعباسية، ويصف الحالة التي كان عليها بقوله: «لم يكن بين الأطباء مَنْ يتصوَّر أنني سوف أعود إلى الحياة، وكانت معجزة يتحدثون عنها عندما غادرت المستشفى، وأنا على قيد الحياة»، ويوضح قائلًا: «ظللت في مستشفى الدمرداش سنة ونصف السنة، منها ثلاثة أشهر كنت غائبًا عن الوعي، وضعوني في سرير عليه قبة من الأسلاك مغطاة بقماش سميك يتدلى منها عدد من اللمبات الكهربائية للحفاظ على درجة حرارة معينة حسب تعليمات الأطباء، كنت عاري الجسم تمامًا تحت القبة، بلا غطاء خوفًا من التصاق الغطاء بالجروح الغائرة في الفخذ والبطن والصدر والوجه». ويأتي الباب الثالث ليتحدث طوغان عن شخصيات وأحداث في حياته، وهو الباب الأطول والأكثر ثراءً؛ إذ يصل عدد الصفحات التي أُفردت لهذا الجزء وحده إلى 180 صفحة، يتحدث فيها باستفاضة وحميمية عن أصدقاء ورفاق عمل أثر فيهم وأثروا فيه، ويأتي في مقدمتهم الكاتب الراحل محمود السعدني، صديق العمر، حيث يبدأ بإيراد قصته مع السعدني وبداية تعرفه به، ثم رغبتهما في التطوع من أجل إنقاذ فلسطين، ورحلتهما معًا في طريق الصحافة، وإصدارهما مجلة باسم «الأسبوع»، نجحا في إخراج تسعة أعداد منها إلى النور، قبل أن تتوقف المجلة، لكن رحلة طوغان والسعدني الصحفية لم تتوقف، وسارت في طريقها بثبات وتألق، كما يتحدث عن اعتقال السعدني الذي قال في التحقيقات إنه ينتمي إلى تنظيم «زمش»، وعندما سأله المحقق عن هذا التنظيم، قال: «يعني زي ما سيادتك شايف كده، أنا لا شيوعي، ولا إخواني، ولا أي حاجة»، وبالرغم من كونه من «زمش» إلا أنه أمضى في المعتقل سنة ونصف السنة! وبعد جولة ثرية أزال فيها طوغان الغبار عن أسماء شخصيات مهمة، خاصة في مجال الصحافة، ينتقل الكاتب إلى ذكرياته ومذكراته الخاصة بأيام الحب والحرب في حياته، حيث يستعرض باختصار قصص الحب وحكايات الغرام في حياته، ثم تحدث عن أيام الحرب والنكبة التي أدت إلى ضياع فلسطين، ثم كارثة يونيو 67؛ لينتقل بعد ذلك إلى حرب 6 أكتوبر 73، وقد اختتم كلامه عنها بقوله: وانتهت حرب أكتوبر المجيدة الخالدة في التاريخ بالنصر للأمة العربية التي كان كثيرون قد تصوروها في عداد الأموات، أخذنا بثأر رجالنا الذين قتلوهم وهم مقيدو الأيدي ومعصوبو الأعين، وجئنا بجنودهم حفاة الأقدام، جاحظي العيون، زائغي الأبصار». ولم يغفل طوغان الحديث عن محاولات النيل من هذا النصر الخالد؛ إذ يقول: «بالرغم من الانتصار الباهر الذي حققه الجيش المصري، والذهول الذي أصاب العالم، والأحاديث والروايات عن بطولة الجندي المصري وعبقرية القيادة المصرية، إلا أن محاولات تشويه الصورة الباهرة بدأت، اتهموا مصر والسادات بالخيانة، وسافر معمر القذافي إلى فرنسا في حملة دعائية مولها ب 75 مليون دولار قال فيها: إنني عربي، وأقول لكم إننا لم نهزم إسرائيل، وإن الأمر كان مجرد تمثيلية بين حكومة إسرائيل وبين السادات! ويأبى طوغان أن تخلو مذكراته من البعدين العربي والدولي؛ إذ يتحدث عن أيام المجد في وهران، مستعيدًا قصة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، من خلال تجربته الشخصية مع جيش التحرير الوطني الجزائري، ولقائه عددًا من كوادره وقادته، وحضوره بعض العمليات التي قام بها مقاتلو جيش التحرير الوطني ضد قوات الاحتلال الفرنسي، كما تحدث عن تجربته في اليمن، التي وصفها ب «بلاد السحر والخيال»، وكان قد حضر جانبًا من حرب اليمن التي شاركت فيها القوات المصرية دعمًا لثورة اليمن، ويروي تفاصيل أحداث عاشها هناك في هذه البلاد التي تحملك – بمجرد أن تطأ أرضها بقدميك – إلى القرن الرابع عشر! ويختتم طوغان مذكراته بحديث ذي شجون؛ إذ يتحدث عن حكايته في جريدة «الجمهورية»، ثم مجلة «كاريكاتير»، الحلم الذي راوده خمسة عشر عامًا، وبعد أن بدأ يتجسد على أرض الواقع، ويحقق النجاح المرتجى، إذا بالسوس يدخلها «بعد أن استطاع واحد من الذين شنَّعوا على المجلة وتنبأوا لها بالفشل والبوار أن يتسلل إليها»، وليتحول الحلم إلى كابوس، فيضطر إلى الانسحاب ومراقبة الموقف من بعيد، يقول: «أدركت أن الضياع والفشل هو مصير الحلم، فنويت الانسحاب، وبعد حوالي ستة أشهر أعلنت القرار وخرجت منها، لتستمر بعدها في هبوط حوالي خمس سنوات، أنفقت فيها ما كانت قد حققته من أرباح».