السعدني في ذمة التاريخ! من السهل أن تكتب عن إنسان في ذمة التاريخ.. لأن ذمة التاريخ واسعة تحتمل كل تفسير!. عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.. كان محمود السعدني يبلغ من العمر 19 سنة.. وكنت القاهرة تموج بحركة وطنية متأججة.. تطالب بالاستقلال أو الموت الزؤام.. وبجلاء القوات البريطانية.. وتموج بمجموعة من الأحزاب السياسية التي تعبر عن كل ألوان الطيف علاوة علي الحركات الفكرية والعقائدية التي تعمل خارج إطار الشرعية.. يعبر بعضها عن أفكار حسن البنا وبعضها الآخر عن أفكار لينين وماركس. لم تكن هناك مسافات كبيرة بين البشر.. كما هو حادث الآن.. ولم تكن هناك جيوش السكرتارية والحراسات الأمنية.. وسباق العمولات.. والانكسار.. والقرارات السيادية التي تحول صغار الصحفيين إلي كبار الكتاب.. وبالتالي فقد اجتذبت الصحافة المصرية عددا كبيرا من أصحاب المواهب الحقيقية الذين دخلوا الصحافة.. وهم لا يملكون سوي مواهبهم.. وبطاقاتهم الشخصية.. ويتنقلون من صحيفة لأخري تنقل الطيور بين الأغصان.. ويتقاضون أتعابهم بنظام «القطعة» وينتشرون في أكثر من 20 صحيفة ومجلة مثل «الأهرام» و«الأساس» و«الزمان» و«المقطم» و«المقتطف» و«الدستور» و«المصري» و«وكالة الأنباء العربية» و«النداء» و«الهلال» و«روزاليوسف» و«صوت السودان» و«صوت الشرق» التي كانت تصدرها السفارة الهندية بالقاهرة، و«البورصة» والإيجيبشان جازيت و«لاريفورم» التي كان من ألمع نجومها الزميل إلياهو يوسف.. رحمة الله عليه. علاوة علي الصحف والمجلات التي كانت تصدر بلغات أبناء الطوائف الذين يعيشون علي أرض مصر في ذلك الوقت. كل صحفي من أبناء هذا الجيل.. كان يدافع عن قضية ما.. ويتحرك في إطار مجموعة.. أو شلة.. سواء كانت هذه القضية عامة.. أو خاصة.. المهم أن يشترك مع مجموعة من الزملاء في قضية ما أذكر منها علي سبيل المثال مجموعة «الصحفيين المفصولين من صحيفة «الجمهور المصري»» التي كان من ألمع نجومها الزميلان إبراهيم البعتي وفتحي الرملي أو مجموعة «أصحاب الصحف المغلقة» أو مجموعة مجلة «الأهداف» التي كان يرأس تحريرها واحد من الصحفيين.. كان من رجال الأزهر الشريف.. ولكنه لم يكمل دراسته.. وهو الأستاذ أحمد ندا.. وعندما دخل السجن.. لأسباب غير سياسية.. أغلقت زوجته السيدة جميلة العلايلي التي كانت تمتلك المجلة.. أبوابها.. الأمر الذي دفع الزملاء الذين يتعاملون مع المجلة بالقطعة لتكوين مجموعة أطلقوا عليها «مجموعة الأهداف». ومن الملاحظات الطريفة أن عددا كبيرا من جيل محمود السعدني.. كانوا من الأزهريين الذين فصلوا من الأزهر.. أو لم يكملوا دراساتهم الأزهرية.. وخلعوا العمائم.. واتجهوا نحو الصحافة و«تبنطلوا» أي ارتدوا البنطلونات.. وكانوا علي درجة رفيعة من الثقافة.. ويحفظون الشعر عن ظهر قلب.. ويستشهدون بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية في كتاباتهم.. ويجيدون فن «الإعراب» إجادة تامة.. وكانوا يتسابقون في إعراب «الفاتحة».. و«قل هو الله أحد». في هذا الوقت لم نكن قد عرفنا التليفزيون.. ولذلك فقد كان من المألوف أن تجتمع كل «شلة» من الأصدقاء في أحد المقاهي التي تقع جغرافيا بالقرب من محال إقامتهم.. حيث تذوب الفوارق بين قمم الفكر والصحافة.. والذين يتلمسون طريقهم نحو المزيد من الثقافة والمعرفة. وكان أصحاب المقاهي يرحبون بجلسات نجوم الفكر والصحافة والفن.. الذين يمثلون النخبة ويتمتعون بالشهرة لأنهم كانوا عناصر جذب للزبائن العاديين من أرباب الحرف والمهن والوظائف الحكومية الذين يتخذون مقاعدهم بالقرب من مجالس هؤلاء المثقفين.. ليس فقط للاستمتاع بالحوارات التي تجري بينهم ولا بالقفشات والحكايات والتشنيعات الصارخة.. وإنما لكتابة التقارير للمباحث.. إذ كانت هذه المقاهي تعج بالمخبرين. في المقاهي تذوب الفوارق بين الطبقات.. ولا فرق بين زبون وزبون.. ولا بين ضابط هارب من العدالة.. ومفصول من الجيش.. وفنان شعبي.. أو رسام كاريكاتير.. أو شاب يسعي للعمل الصحفي.. ويبحث عن طريق.. أو ممثل في المسرح.. أو موظف في ماركوني.. أو عضو في تنظيم سري أو ناشط سياسي. الحالة الاجتماعية لا تهم. المهم أن كل واحد في المجموعة يرتاح للآخر.. بلا هدف سوي الصحبة.. وخفة الظل. كانت شلة الفنان الشعبي زكريا الحجاوي الذي كان يعمل موظفا ببلدية الجيزة صباحا.. ويعمل محررا بجريدة «المصري» في المساء.. وهو المسئول عن مراسلي الأقاليم بالجريدة الوفدية.. يلتقي بمقهي يقع أمام كوبري عباس بالجيزة اسمه «شهريار» تضم رسام الكاريكاتير الشهير أحمد طوغان.. ويحضرها الشاب محمود السعدني. ويحكي السعدني أنه عندما انتقلت لقاءات الشلة من مقهي «شهريار» لمقهي «كازينو بديعة» أسفل كوبري عباس.. كان أنور السادات يأتي إليهم ومعه ضابط طيار اسمه حسن عزت. ويحكي السعدني أيضا أن زكريا الحجاوي كان يتحدث كثيرا عن أنور السادات.. وكنا نفهم من الكلام أنه يتردد عليه في بيته في منيل الروضة.. وبعد ذلك اختفي زكريا الحجاوي فجأة ولمدة طويلة.. وعرفنا بعد ذلك أنه سافر مع السادات للاختباء من الشرطة في جزيرة معزولة في بحيرة المنزلة. ويروي السعدني أن الفنان أحمد طوغان قال له إن السادات سيصبح حكما علي مصر(!!). وعندما سمع السعدني البيان الأول لثورة يوليو 1952 بصوت أنور السادات.. تصور أن صاحب الصوت هو قائد الثورة. ودارت الأيام.. ورفض جمال عبدالناصر.. الأصوات التي كانت تدعو لتطهير الصحافة.. وإبعاد الكتاب الذين مارسوا المهنة أيام الملك.. واقترح الكاتب الصحفي حسين فهمي أن تكون للثورة صحافتها المعبرة عنها.. والاستفادة بأقلام كبار الصحفيين القدامي وضمهم لصفوفها بدلا من استبعادهم. وهكذا ولدت جريدة «الجمهورية» التي أسسها الأستاذ حسين فهمي.. ورأس مجلس إدارتها أنور السادات، وكان من الطبيعي أن يقوم السادات بتعيين صديقه الحجاوي في موقع صحفي بارز أقرب لمدير التحرير، وكان من الطبيعي أيضا أن يسعي الحجاوي لتعيين محمود السعدني محررا في جريدة الجمهورية، وأذكر.. أيامها.. أنه عين محررا للشئون العربية.. وفي إطار هذه المهمة سافر السعدني للجزائر الشقيقة عدة مرات.. وكانت رسائله تنشر في الجمهورية وفي مجلة التحرير. وعندما فصل الحجاوي من عمله بجريدة الجمهورية كان قد فقد وظيفته الحكومية التي استقال منها.. وبات يواجه أزمة مالية خانقة.. وطلب من السعدني التوسط لدي السادات لإعادته لعمله.. والتقي السعدني السادات وقال له: - زكريا الحجاوي.. يا فندم. وما كاد ينطق الاسم الحجاوي حتي صرخ السادات قائلا: - اخرس قطع لسانك.. اوعي تجيب الاسم ده مرة تانية علي لسانك! وفي أحد الأيام كتب السعدني مقالا يهاجم فيه الموسيقار فريد الأطرش.. والدروز.. في مجلة «التحرير» أغضب السادات.. فاستدعاه لمكتبه في جريدة الجمهورية. دخل السعدني غرفة «القائمقام» السادات الذي نظر إليه بغضب شديد وهو يهز المجلة في يده قائلا له: - انت صحفي واللا عربجي؟! أجاب السعدني مبتسما: - مافيش فرق.. يا ريس! وانتهت المقابلة.. بوقف السعدني عن العمل في جريدة الجمهورية. ولا أود الدخول في تفاصيل هذه المرحلة والصراعات داخل مجلس قيادة الثورة التي القت بظلالها علي جريدة الجمهورية.. ولا قصة المقال الذي كتبه أنور السادات مهاجما خالد محيي الدين وكان عنوانه «الصاغ الأحمر» لأن ذلك يخرجنا علي موضوع هذه السطور. أعود لمحمود السعدني فأقول إنه من الغريب أن التعارف الذي نشأ بين السادات والسعدني في مقهي «كازينو بديعة».. والذي أسفر بدوره عن رفع الكلفة وزيادة الألفة من جانب السعدني أدي إلي علاقة متوترة متذبذبة بينهما وكانت نتيجتها.. أن السادات تولي رئاسة الجمهورية في مصر 11 سنة قضي منها السعدني عامين في السجن وثمانية أعوام في المنفي!. وأستأذن القاريء في التوقف عن الاستطراد في حكايات العلاقات المتوترة بين السعدني والصحافة.. لأكتب ما بقي من هذه السطور عن علاقة السعدني بظرفاء مصر.. لأنه من المعروف أن السعدني كاتب ساخر.. وربطته بظرفاء عصره علاقات تستحق الرواية. كانت للسعدني علاقات بكل نجوم عصره.. بل إنه استطاع أن يكتشف روح الدعابة والقفشات الذكية في أناس متجهمين لا يخطر علي البال.. أنهم يبتسمون أو يفهمون النكات الخارجة.. ومن بينهم علي سبيل المثال عدد من أصحاب الأصوات القوية التي نسمعها تقرأ القرآن الكريم.. ونجلس أمامها في خشوع التقاة عند الصلاة. كانت له قدرة فائقة علي رفع الحواجز وإزالة أسوار الزيف.. بينه وبين معارفه.. وأذكر في هذا الصدد حكايات لا يصدقها العقل.. فعلا.. وكان الطرف الذي يضع علي وجهه قناع التكشيرة.. يرد علي السعدني بكلمات ألعن منها.. في سرعة بدهية خارقة وحضور بديهة تكشف خفة الروح.. وكان يقول إن «خفة الروح» مهنة.. كأي مهنة أخري يمكن للإنسان يأكل منها ويعيش مبسوطا.. ويموت وعلي وجهه ابتسامة!. وإذا كانت الطيور علي أشكالها تقع فقد ربطت بين الأستاذ كامل الشناوي.. وجلسات كامل الشناوي وبين السعدني علاقة لا تقوم إلا بين الأذكياء. كانت علاقة ذكاء.. وكان كلاهما يعشق الليل.. وفق مبدأ أن الأغبياء وأنصاف الأذكياء لا يضحكون. ولا أستطيع أن أنهي سطوري عن كامل الشناوي دون الإشارة لنجاة الصغيرة.. التي كان يملي أخبارها للأستاذ موسي صبري كل ليلة في فندق سميراميس.. وعندما داعبه السعدني قائلا: كفاية بقي يا كامل.. يعني لازم تكتب لها شعر وأخبار كمان؟ قال كامل الشناوي: - إنها تستحق شعري! انتهت المساحة المخصصة لهذا الكلام.. ولا يبقي سوي أن ندعو الله أن يفسح لمحمود السعدني أبواب الجنة.