في مقال منشور على موقع المحكمة الدستورية العليا المصرية بعنوان " لم تكن يوما صنيعة لأحد … ولن تكون " كتب المستشار ماهر البحيري رئيس المحكمة المنقضي عمله بها في أول يونيو " إن شاء الله " مهاجما أشخاصا لم يسمهم ولم يذكر ما يدل صراحة عليهم ، وقد اجتهدت في استنباط صفاتهم من خلال كلماته شديدة الغرابة عندما تصدر من شخص يحمل لقب " مستشار " فضلا عن كونه " لحسن الحظ " رئيسا للمحكمة الدستورية العليا من شاكلة " هانت عليهم مصالح الأوطان " و " سهامهم المسمومة " و " الإفتراءات الساقطة " و " الزعم السقيم " و " الذين تفجرت فيهم روح الشر " إلي آخر تلك العبارات التي لا تستقيم مع التحليل الأدبي الرفيع والتأصيل القانوني العميق الذي تتميز به كتابات نظرائه في المحاكم العليا في الدول الأخرى . وعلى ما يبدو من المقال الذي حملت نفسي كرها على قراءة بقيته بعد أن أكملت سطريه الأولين أنه يناقش تاريخ المحكمة الدستورية العليا بدءا من نشأتها وحتي بعد ثورة يناير التي وصفها سيادته " بالمجيدة " !! ورغم أني لا أجد رابطا بين أشخاص قضاة المحكمة في زمن مخصوص كما هو الآن وبين أشخاصها في زمن سابق حتي ينبري رئيس المحكمة الحالي مدافعا عن المحكمة في أوقات لم يكن هو في زمنها بعد قاضيا فيها ، ولا أعرف ما يحمل رئيس المحكمة على استعمال كل أساليب المديح في نشأة وعمل المحكمة وكل أساليب الذم فيمن وصفهم بأنهم توسلوا ب " تلطيخ سمعة المحكمة وقضاتها في الوحل " ورغم ركاكة العبارة الاخيرة من الناحية البلاغية لأن تلطيخ سمعة المحكمة وقضاتها في الوحل على ما يبين من كلام " المستشار " لا يمكن أن يكون وسيلة يتوسل بها هؤلاء الذين أشار إليهم …….المهم دعونا من أسلوب وأدبيات المقال ولنحاول أن نفهم ماذا يريد رئيس المحكمة أن يقول …. أعتقد أن سيادته شرح نشأة المحكمة العليا باعتباره انجازا كما أشار أيضا إلي سجل عمل المحكمة بالأرقام فيما يتعلق بفصلها في دستورية القوانين وفض تنازع الإختصاص إلي آخر ما قامت به المحكمة من تاريخ انشائها عام 1969 . والحقيقة أنه لا يمكن الإنحياز أبدا إلي فكرة الرقابة على دستورية القوانين من محكمة مخصوصة باعتباره انجازا لأن نظما قضائية عريقة كبريطانيا وبلجيكا تحظر على المحاكم ممارسة الرقابة الدستورية وتعلي من شأن البرلمان حتي أنه لا يعلوه شأن وعليه فإن فكرة الرقابة الدستورية في ذاتها ليست قدرا مقدورا بل هى رأي يأخذ به المشرع الدستوري في بعض النظم القانونية ويستهجنه في نظم أخرى والبعض يأخذ برقابة سياسية مختلطة المفردات مع الرقابة القضائية ، وهى أمور يقدرالشارع وجودها وعدمه تبعا لرأيه وللمصلحة الوطنية التي يتغياها في زمن مخصوص . والحقيقة التي لا يمكن لسيادة المستشار كاتب المقال أن ينكرها أن من قام باصدار الأمر بتعيين سيادته في هذه المحكمة هو شخص محكوم عليه بالسجن مدي الحياه في قضايا قتل ويقضي مدد حبس احتياطي في قضايا اهدار المال العام ولهذا كنت أتوقع من سيادة المستشار أن يتحدث عن معارضي وجود المحكمة بمن فيها بأسلوب أهدأ وأكثر موضوعية ، ورغم أن حسني مبارك هو من عين كل موظفي الدولة خلال الثلاثين عاما السابقة على خلعه فقد كان ذلك جملة لفئات من الموظيفين يعرفون بصفاتهم ولم تكن لأسمائهم عند تعيينهم أهمية ، أما قضاة الدستورية فقد عينهم " المحكوم عليه " بأسمائهم بما يجعل لكثير من الناس " شبهة " حق في التساؤل عن دوافع هذا التعيين خاصة بعد ادانة مصدر قرار التعيين في جرائم قتل وحبسه في جرائم نهب ، ولا يقدح في ذلك أن الدستور الجديد قد أبقي على بعضهم بما اشتمل من تنظيم لتشكيل المحكمة لأنه وضع قواعد عامة ومجردة لتشكيل المحكمة وأحكام أخرى انتقالية أسقطت على من يتولون العمل فيها ولم يكن من تلك الأحكام ما يبحث في فلسفة اختيار الموظفين الحاليين بالمحكمة .. قضاة أو غير ذلك فلم تجر إذن عملية تمحيص لتاريخهم ولا مراجعة لأدائهم . إن انشاء المحكمة العليا كان جزءا من مذبحة القضاء التي قام بها جمال عبد الناصر ليضمن رقابة دستورية خاصة على القوانين يقوم بها قضاة مخصوصون بعد أن تصدى القضاء العادي مرات ومرات لقوانين صاغها التنظيم الأوحد في ذلك الوقت ولم يكن في انشائها يومئذ ما يدعوا إلي الفخر ، ولعل باقي ما ذكره السيد المستشار رئيس المحكمة من نسبة الفضل إليها في اصدار أحكام بعدم الدستورية لكثير من القوانين كانت محكمة النقض قادرة ولم تزل على التصدي لعدم دستوريتها وتبقي الفضيلة الأعلي والميزة الأكبر لمحكمة النقض أن طريقة اختيار قضاتها تخضع لمعايير دقيقة تغل فيها يد السلطة التنفيذية عن التدخل فيكون المعيار للأفضل وليس لمن يلقى لدى الحاكم قبولا ولهذا فإننا نختلف مع سيادة المستشار فيما ذهب إليه من ضرورة وجود المحكمة أو أهميته في الوقت الحالي ونري مع كثيرين أن مصر لم تعد في حاجة إلي رقابة دستورية على القوانين وأن قضاء النقض قادر على التعاطي مع هكذا مسائل بفعالية أكبر . تبقى مسألة الإمتيازات المالية التي حصل عليها السادة المستشارين قضاة الدستورية قبل الثورة والتي يري الكثيرون أنها كانت معاملة تفضيلية على غيرهم من القضاة دونما داع من جهد أو مكانة علمية أو فقهية فنرى مع الكثيرين وجوب إلزام السادة المستشارين برد تلك الفوارق خلال مدة الخمس سنوات السابقة وهى المدة التي تنقضى فيها مديونية الأفراد للدولة وليس في ذلك ثمة عوار لا من ناحية القانون ولا من ناحية الملاءمة لأنها ليست عقوبة ... فقط يحتاج الأمر إلي تشريع عاجل . إنني أهيب بمجلس الشورى سرعة اصدار قانون السلطة القضائية حتي يتحمل شباب القضاء مسئولياته بعد تقصير سن التقاعد إلي ستين عاما ولتشكل المحكمة الدستورية من جديد في أغلب أعضائها ..... وعليه في سبيل تسريع تلك العملية أن يقوم بضرب ميعاد أسبوع واحد لتقول الهيئات القضائية كلمتها فيه ثم يعرضه فورا للتصويت ، وإن أي تأخير في اصدار ذلك التشريع الملح يمثل تهاونا وتقصيرا في حق الوطن لا يعدله سوى التولي يوم الزحف .... ونعوذ بالله أن يكون المشرع المصري بعد الثورة ممن يقصرون في حماية مقدرات الأمة . [email protected]