قلنا من قبل إننا لانعرف المعايير التي يتم على أساسها اختيار الوزراء وكبار المسئولين في مصر، لأن الاختيارات تأتي صادمة لنا في كثير من الأحيان، لكن الأكثر غرابة هو اختيار المستشار أحمد الزند، رئيس نادي القضاة، وزيرًا للعدل، بعد تسعة أيام من استقالة سلفه المستشار محفوظ صابر، إثر تصريحاته التي فجرت موجة غضب عارمة بين المصريين، واعتبروها تعكس نوعًا من التمييز بحق المصريين، أكد فيها أنه لا يمكن لأبناء عمال النظافة أن يصبحوا قضاة مبررًا ذلك بأن "القاضي له شموخه ولا بد أن يكون مستندًا لوسط محترم ماديًا ومعنويًا". من هنا جاءت صدمة اختيار الزند خلفًا له، لكونه يتبنى الرأي نفسه تجاه تعيين أبناء الفقراء في القضاء، وهو صاحب العبارة الشهيرة عن "الزحف المقدس لأبناء القضاة"، حين قال في تصريحات للزند في مؤتمر لنادي القضاة بالمنوفية في العام 2012 فيها إنه "سيظل تعيين أبناء القضاة" مستمرًا "سنة وراء أخرى"، مشددًا على أنه ليست هناك "قوة في مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس" من أبناء القضاة إلى السلك القضائي، وهي تصريحات أثارت جدلاً واسعًا وقتها لايقل عن الجدل الذي فجرته تصريحات وزير العدل السابق وكانت سببًا في إبعاده عن منصبه. وهو ما يجعلني وغيري يتساءل عن الفارق بين التصريحين الصادمين، فكلاهما يعكس وجهة نظر تحمل استعلاءً وتحقيرًا من أحلام وطموحات أبناء المصريين البسطاء، وكلامهما لايمت بأي صلة ل "العدل" اللذين يتقلدان وزارته، فهل غاب هذا عن وعي الرئيس عبدالفتاح السيسي، والمهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء وهما يستقران على اختيار الزند وزيرًا للعدل، على الرغم من أرشيفه الذاخر بالمواقف المثيرة للجدل، والتي كان يمكن لهما بضغطة زر واحدة أن يراجعاها حتى ينتهيا إلى الرأي من عدم ملائمته لتقلد المنصب الوزاري. لكن المؤكد أنهما يعلمان بها ولاحاجة بمن يذكرهما بها، وليس بحاجة لي أو بأمثالي حتى ينبهاهما إلى "السي في" الخاص برئيس نادي القضاة، وكم العبارات الاستفزازية الذي يتفوه به في المؤتمرات التي يشارك بها، والذي بحكم جيرتنا له في "المصريون" كنا دائمي سماعه، وهو بالمناسبة على خصومة قضائية مع الجريدة بعد أن نشرت تحقيقًا بالمستندات يكشف عن مخالفات شابت عملية بيع أرض النادي ببورسعيد، بأقل من سعرها الحقيقي، لأحد الأشخاص الذي يمت بصلة مصاهرة به، وهي القضية التي تباشرها جهات التحقيق حاليًا، ولانعرف سوف يتم التصرف فيها بعد أن أصبح وزيرًا للعدل. فضلاً عن خصومته مع آخرين وتقدمه ببلاغات ضدهم، كما هو الحال بالنسبة للمستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، على خلفية رفضه السماح للجهاز بالرقابة على أموال النادي، وهو موقف يتسق مع وجهة نظره الاستعلائية التي تعتبر القضاة فوق البشر في مصر، وفوق أي مساءلة، كما عبر عن ذلك في مقابلة مع توفيق عكاشة ملك قناة "الفراعين"، قال فيها: "نحن على أرض هذا الوطن أسياد وغيرنا هم العبيد". ويعرف الزند بموقفه المعادي ل "تيار الاستقلال" الذي يطالب باستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، والذي يتعرض أحد أبرز رموزه وهو المستشار زكريا عبدالعزيز لحرب شرسة حاليًا، بعد إحالته إلى لجنة "التأديب والصلاحية"، بدعوى الاشتغال بالسياسة واقتحام مبنى مباحث أمن الدولة بمدينة نصر، إبان ثورة 25يناير، بينما يقبع المستشار محمود الخضيري، رئيس نادي قضاة الإسكندرية السابق في السجن حاليًا، بتهمة "تعذيب" محام بميدان التحرير خلال الثورة، فيما أحيل المستشار ناجي دربالة إلى التقاعد، بدعوى التوقيع على بيان لدعم الرئيس الأسبق محمد مرسي، في الوقت الذي لم يُسمح فيه بعودة المستشار أحمد سليمان وزير العدل الأسبق إلى منصة القضاء، وتعرض نجله القاضي أيضًا للاستبعاد. الأمر الذي نستغرب له، هو حرص السيسي على التأكيد في كثير من المناسبات على عدم عدائه لثورة يناير، وفي حين يقول ذلك يختار "الزند" المعروف بأنه من أكثر المهاجمين للثورة، وقائد الجناح المضاد لها في أوساط القضاة، وقد انخرط بشكل واضح في الصراع ضد "الإخوان المسلمين" وحكمهم، خاصة بعد الاتجاه إلى تخفيض سن التقاعد للقضاة وقتها، وفي أحد مؤتمراته، حرّض الرئيس الأمريكي باراك أوبا على التدخل لإنقاذ مصر. فكيف بعد كل هذا يأتي من يقول إن النظام الحالي لايناصب ثورة 25يناير العداء، إذ ليس هناك ما هو أكثر من اختيار "الزند" في حكومة يقف على رأسها عضو سابق بلجنة السياسات بالحزب "الوطني" المنحل ليؤكد بما لايدع مجالاً للشك، أن "الثورة المضادة" هي التي تتولى مقاليد الحكم في مصر الآن. الخوف الأكبر من دلالة اختيار "الزند" بأن القضاة في مصر أصبحوا رأس الحربة التي يتكأ عليها النظام الحالي في التخلص من خصومه، في ظل الجدل الذي لايتوقف عن الأحكام "القاسية" التي يصدرها، والتي شملت إحالة المئات إلى "حبل المشنقة"، مع ما أثارته تلك الأحكام من ردود فعل دولية منددة. أخيرًا: ليس من مصلحة النظام أن يظهر في صورة الذي يسفه من أحلام المصريين البسطاء ويضرب ب "العدالة الاجتماعية" التي هتف بها الملايين في ميدان التحرير وكل ميادين الثورة عرض الحائط، وهو يختار أكثر من يعبرون عن هذا التوجه في مصر حاليًا، ولأن "فاقد الشيء لن يعطيه".