منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولاياتالمتحدةالأمريكية، انتهجت السياسة الأمريكية نهجاً مغايراً في تعاملاتها الدولية مستندة في ذلك على المبدأ الأشهر للرئيس ترامب (أمريكا أولا) ، وهو المبدأ الذي يفسر ما يجري من تصاعد للخلافات الأمريكية مع الحلفاء سواء من الأوربيين، أو الحلفاء في آسيا الوسطى وأمريكا الوسطى إضافة الى اللاعبين الدوليين كروسياوالصين. وتنفيذاً لذلك المبدأ الأمريكي، شرع ترامب في إعادة صياغة المعاهدات والاتفاقيات الدولية من جديد، دون الرجوع إلى الحلفاء أو التفكير في تأثير قراراته الجديدة على وضعهم ، أو إلى الخلافات التي قد تحدثها مع الدول الأخرى، أو إمكان تحولها إلى فتيل لصراعات مستقبلية في العالم. ولا شك أن المشهد الراهن في العلاقات الأمريكية مع دول الاتحاد الأوروبي والصداع المستمر في العلاقة مع إيران بشأن ملفها النووي ومع دول آسيا الوسطى وأمريكا الوسطى والتي يكتنفها العديد من الإشكاليات التي تهدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية، لأن التوجهات الأمريكية الحالية لن تقتصر على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بل أن ممارستها السياسية الحالية، سوف ترسم المشهد الدولي على المدى البعيد، لاسيما أن ثمة قوى جديدة بدأت تظهر على الساحة العالمية، في ظل وجود قوى تقليدية تريد الحفاظ على مكتسباتها السابقة. المعونات رهن المصالح وفي إطار الربط بين مبدأ (أمريكا أولا) والمصالح الاستراتيجية الأمريكية، جاء قرار الإدارة الأمريكية في يونيو الماضي بتعليق المساعدات الخارجية لعدد من دول أمريكا الوسطى، بما في ذلك: السلفادور وجواتيمالا وهندوراس. وكان تبرير الإدارة الأمريكية لإقدامها على اتخاذ مثل هذا القرار، أن المساعدات يجب أن تكون مشروطة بخدمة مصالح واشنطن الاستراتيجية، ولكن الخبراء الاستراتيجيين في الشأن الأمريكي، أشاروا إلى الآثار السلبية لمثل هذا القرار، كونه يدفع هذه الدول إلى مستوى الفقر ، مما يولد المزيد من الضغوط للهجرة الخارجية منها إلى الولاياتالمتحدة، وهذا ما يتعارض مع سياسة إدارة ترامب الذي يرفض الهجرة إلى واشنطن. وتناغماً مع هذا النهج الذي يركز على الفائدة في الإنفاق على المساعدات، اتبعت إدارة ترامب أيضاً سياسة حازمة تجاه الأمريكيتين مع إعادة تأكيد الهيمنة الأحادية الجانب في المنطقة، وبسبب إرث الرئيس الأمريكي الأسبق جيمس مونرو، الذي أجبر القوى الأوروبية على الخروج من القارة الأمريكية بدعوى تأكيد أن مجال الاهتمام بالمنطقة يقتصر على أمريكا، فإن هذه السياسة سميت بمبدأ "مونرو الجديد". وقد طبقت إدارة ترامب هذا الهدف على جبهات متعددة، منها: سعى ترامب إلى إعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) بشروطه وإنهاء حق المكسيك وكندا في إبرام اتفاقات جديدة من دون موافقة واشنطن، ثم اتخاذ الرئيس الأمريكي موقفاً أكثر تشدداً تجاه كوبا وسعى أيضاً إلى الضغط الحكومي من أجل التغيير في فنزويلا، واعتبر (هندوراس) هدفاً ملحوظاً بشكل علني، فيما عزز مساعداته للدول التي تدور في فلكه هناك مثل كولومبيا، وأخيراً اتخذت الإدارة الأمريكية موقفاً أكثر تشدداً تجاه الدول الإقليمية التي تسعى إلى توثيق علاقاتها مع الصين. ووفقاً لمحللين، فإن الإدارة الأمريكية يقتضي أن توظف معوناتها الخارجية وفق مبدأ أن المساعدات الخارجية لا ترتبط كلياً بالمصالح الاستراتيجية، وإنما باعتبارها أحد أبرز أدوات القوة الناعمة الأمريكية، لأن هذا الربط بين المعونات وتحقيق المصالح غالباً ما يأتي بآثار عكسية، مثلما حدث مع السلفادور (آخر الدول المشمولة بقطع المساعدات) والتي غيرت قبل عام اعترافها الدبلوماسي من تايوان إلى الصين، وأقامت علاقات دبلوماسية مع (بكين) وبالتالي اعترفت بسياسة الصين الواحدة، وتفكر (جواتيمالا) باتخاذ خطوة مماثلة، ونتيجة لذلك، حققت الدول التي غيرت من مواقفها تجاه واشنطن، العديد من المكاسب من خلال توثيق العلاقات مع بكين. آسيا الوسطى وتنازع النفوذ حظيت دول آسيا الوسطى بأهمية متزايدة في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، لموقعها الجيوسياسي الذي يسمح للولايات المتحدة التحكم في الديناميات الإقليمية للقوى الصاعدة في أورآسيا، فضلاً عن إمكاناتها الاقتصادية ولاسيما النفط والغاز، ولقربها من مواقع مؤثرة في آسيا، إذ تتصارع فيها القوى الإقليمية والدولية أبرزها أفغانستان، إلى جانب اقترابها من منطقة الخليج العربي، فضلاً عن التنافس التقليدي القديم بين كل من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسياوالصين على بسط هيمنة كل منها على منطقة آسيا الوسطى. ومما لا شك فيه أن التغيير الحادث الآن في السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه النفوذ الروسي والصيني المتزايد في ملفات عدة، يعكس الإدراك بخطر هاتين القوتين على المصالح السياسية والاقتصادية الأمريكية، إذ استعرض ترامب هذه التحديات، قائلا: "إننا نواجه في جميع أنحاء العالم أنظمة ومنافسين مثل الصينوروسيا اللتين تتحديان مصالحنا واقتصادنا وقيمنا". ولذا يعتقد المراقبون أن التوجه الأمريكي القادم، سيكون نحو دول الاتحاد السوفيتي السابقة عموماً، خصوصاً جمهوريات منطقة آسيا الوسطى، ذات الأهمية السياسية والاقتصادية للقوتين الإقليميتين الرئيستين هناك: روسياوالصين. ولكن هذا التوجه الأمريكي الذي قد يمارسه ترامب في تلك المنطقة، سيصطدم بالنفوذ الروسي الذي ينظر إلى دول آسيا الوسطى كمنطقة نفوذ سياسية هامة لا مجال للمساومة عليها، خصوصاً وأن موسكو تبذل جهوداً كبيرة لإبقاء السيطرة الروسية عليها بشكل دائم، وربط دولها بمعاهدات واتفاقيات دولية تعرقل أي محاولة لزعزعة هذا النفوذ أو تهديده. بدورها، تولي الصين أهمية بالغة لهذه المنطقة، باعتبار آسيا الوسطى تشكل منفذاً اقتصادياً لها، وممراً ل "طريق الحرير" التي تسعى بكين جاهدة إلى إحيائه، عبر مشروعها المتمثل في "حزم واحد، طريق واحد" الذي يربطها مع دول أخرى، بالإضافة إلى تطلعها نحو الحفاظ على مصادر الطاقة من نفط وغاز، والتي تحصل عليها بأسعار رخيصة وتفضيلية بموجب اتفاقيات بينها وبين هذه البلدان. كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية، خلال السنوات الماضية، تتعامل مع آسيا الوسطى، كشريك إستراتيجي مهم في محاربة الإرهاب والقضايا الأمنية، وهو ما يرشحها لتكون المحطة القادمة للتنافس والمساومة بين القوى الدولية على المصالح والنفوذ. وفي هذا الإطار، ثمة أصوات بعض القيادات السياسية والعسكرية الأمريكية، تدعو إلى الانسحاب من أفغانستان ووقف الاستنزاف الذي يتكبده الجيش الأمريكي هناك، وبالتالي، فإن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ربما يعزز من قوة واشنطن وحضورها بشكل أكبر في أسيا الوسطى. تجدر الإشارة إلى أن ترامب أصدر خلال العام الماضي، تعليمات بإعداد خطة تقضي بمغادرة الجيش الأمريكي أفغانستان في غضون مدة أقصاها عام، لكنه عاد وقال بعد ذلك بشهر إن ذلك لن يتحقق إلا إذا تم التوصل الى اتفاقات سلام في أفغانستان. وفي هذا السياق، يطرح بعض المحللين الأمنيين العديد من التساؤلات، حول الأسباب التي تدفع الولاياتالمتحدة إلى تحمل تكاليف وأعباء البقاء في أفغانستان، لاسيما أن وجود واشنطن هناك، بات من وجهة نظر هؤلاء المحللين بمثابة حماية لمصالح موسكووبكين في أهم المناطق السياسية والاقتصادية بالنسبة لهما، والمتمثلة في منطقة آسيا الوسطى القريبة من أفغانستان. ومن هنا، يتوقع هؤلاء المحللون أن تطبق إدارة الرئيس ترامب مبدأ (أمريكا أولاً) على الحالة الأفغانية، وتطلب من (موسكو) و(بكين) تحمل مسؤولية الاستقرار في أفعانستان كذلك ، باعتبار أن أي زعزعة لاستقرار دول آسيا الوسطى، يشكل تهديداً مباشراً لنفوذهم السياسي والاقتصادي على الصعيدين الإقليمي والدولي وتحجيماً لدورهما. يبقى القول أن منطقة آسيا الوسطى ستظل من أهم مناطق ممارسة صراع النفوذ بين واشنطنوموسكووبكين، وربما تشهد هذه المنطقة خلال الفترة المقبلة تطبيقاً لمبدأ (أمريكا أولاً).