هجوم بسيارة مفخخة علي السفارة الفرنسية بالعاصمة الليبية طرابلس، هو الأول من نوعه منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي في أكتوبر 1102، أسفر عن إصابة جنديي حراسة فرنسيين، وخسائر مادية ضخمة، في الثالث والعشرين من أبريل الماضي، وتم توصيفه من قبل الحكومة الليبية بالعمل"الإرهابي"، يأتي ذلك في إطار مسلسل انفلات أمني يصاحبه ظهور ميليشيات مسلحة من جنسيات مختلفة من دول الجوار، وكان التفسير المبدئي أنه ضربة من قبل ما يعرف بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي لفرنسا عقابا لها علي تدخلها العسكري في مالي، و هو ما أعاد للأذهان ذكري الهجوم المسلح علي القنصلية الأمريكية في طرابلس يوم الحادي عشر من سبتمبر، والذي أدي لمقتل السفير الأمريكي "كريس ستيفنز"، وأعقبه هجمات متكررة علي كنائس ومنظمات إغاثة إنسانية ودبلوماسيين غربيين، ولم تتمكن أو ربما لم ترغب الحكومة الليبية في توقيف أو تحديد هوية المسئولين عن تلك الهجمات، عجزا أو خوفا من ردة فعل انتقامية حال توقيف بعضهم. ثمانية عشر شهرا مرت علي سقوط نظام العقيد، واجهت خلالها، ومازالت، السلطة الجديدة صعوبات جمة في فرض سيطرتها علي بلد ينتشر فيه السلاح بكثافة، و تصول وتجول فيه ميليشيات مسلحة تفعل كل ما يحلو لها، ويمثل الهجوم علي السفارة الفرنسية منحي جديدا في مسلسل الانفلات الأمني بليبيا، حيث هي المرة الأولي التي يحدث فيها شيء من هذا القبيل بالعاصمة طرابلس، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري فإن خبراء أمنيين يشيرون بوضوح لتورط عناصر من دول مجاورة في الهجوم، و ذلك في تلميح لعناصر تنظيم القاعدة (المعروف عنهم استخدام السيارات المفخخة) المتواجدين بشمال مالي، و يؤكد"ويليام لورنس"مدير مشروع الدراسات الشمال أفريقية بالمركز الدولي لإدارة الأزمات بباريس، أن "الهجوم علي السفارة الفرنسية ليس مفاجئا علي الصعيد الأمني، ولكن المفاجأة تكمن في استهداف مكان بالعاصمة، وما سهل ذلك هو أن الكثير من العناصر الإرهابية تعبر الحدود إلي الداخل الليبي". استفادت تلك الميليشيات من حالة الفوضي السياسية والفراغ الأمني، لبسط نفوذها داخل المدن وعلي الحدود، مستفيدين في ذلك من ترسانة هائلة من الأسلحة من مخلفات حرب الإطاحة بالقذافي، وتتمركز أشهر الميليشيات في مدينتي مصراتة والزنتان، وحذر تقرير صادر عن الأممالمتحدة في أبريل الماضي من أن ليبيا تحولت للبلد المصدر الأول للأسلحة في المنطقة. "ويليام لورانس" يؤكد، في تصريحات خاصة لصحيفة لوموند الفرنسية اليومية، أن بناء أجهزة الأمن السيادية هو التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة الليبية حاليا، إذ إن ذلك يحتاج لوقت طويل في بلد عشائري الطبع وتغلب عليه حسابات إقليمية أكثر من أي شيء آخر، ويعتقد "لورانس" أن الميليشيات ستختفي من ليبيا حال حل المشاكل السياسية، وحينما يتأكد أهلها أن كتائب القذافي لن تعود يوما ما، ويلفت "لورانس"النظر إلي نقطة أن 59٪ من تلك الميليشيات يعمل لحساب الحكومة ولتلك الأخيرة ولها سيطرة عليها ولكن ذلك بفضل مفاوضات واتصالات لا تتوقف بين الدولة المركزية وقبائل تلك الميليشيات. غير أن جهود الحكومة لتوحيد كتائب الميليشيات المختلفة ، تحت هيكل واحد يتبع الدولة، باءت بالفشل، علي غرار الفشل في دمج اللجنة العليا للأمن التي تضم فصائل الثورة المسلحة بوزارتي الدفاع أو الداخلية والشيء الوحيد الذي تغير هو أن هذه الفصائل أصبحت تحصل علي مرتبات من خزينة الدولة. وبالرغم من ذلك فإن ولاءهم أولا وأخيرا لقادتهم الميدانيين وليس للدولة!! وتبدو المشكلة أكثر تعقيدا بالنظر عن قرب لكتائب اللجنة العليا للأمن، حيث إنهم يهاجمون ويختطفون ممثلي الدولة لمجرد تأخر مرتباتهم ويتصارعون في بعض الأحيان مع بعضهم البعض لخلافات أيدولوجية، فبعضهم إسلامي والبعض الآخر بلا توجه محدد، والأسوأ أنهم قد يقومون بخدمات تصفية حسابات بين رجال أعمال كبار، وبعضهم متورط في عمليات تهريب مخدرات. وتبدو العاصمة طرابلس أكثر استقرارا مقارنة بمدينة بني غازي أكبر مدن الشرق ومعقل الثورة التي أطاحت بالقذافي، حيث لا تتوقف أعمال العنف بعاصمة الشرق بشكل أجبر كل الدول الغربية علي سحب سفرائها ودبلوماسييها في يناير الماضي، فقد شهدت المدينة بخلاف مقتل السفيرالأمريكي مقتل 22 رجل أمن من رجال الدولة ، خلال عام 2102، ويؤكد"ويليام لورانس" أن المدينة" نموذج لكيان ممزق تتصارع عليه كتائب مسلحة تسعي لإقصاء الدولة وفرض هيمنتها، والمدينة اليوم أصبحت خارج نطاق سيطرة الدولة بالكامل ومما يزيد الأمر تعقيدا أن جزءا كبيرا من السكان مقتنع بحكم ذاتي فيدرالي". ومن الواضح أن الهجوم علي السفارة الفرنسية في طرابلس كان بمثابة التحذير، إذ إنه وقع في السابعة وعشر دقائق صباحا، في وقت لم يكن فيه أي من الشخصيات الدبلوماسية في السفارة، ويبدو في الحالتين الأمريكية والفرنسية أن الطرفين أساءا التقديرات الأمنية، حيث اعتقد السفير الأمريكي أنه محبوب وتحميه الأغلبية من الشعب الليبي نظرا لدور بلاده ودوره هو شخصيا في التدخل الغربي والإطاحة بالقذافي، وكذلك الأمر بالنسبة للسفير الفرنسي الذي لعبت بلاده دورا هاما أيضا في إنهاء حكم العقيد. و كما يوضح "ويليام لورانس" فإن عملية الهجوم علي السفارة الفرنسية يحمل بصمات تنظيم القاعدة، ولا يعني ذلك بالضرورة أن العملية من تنفيذ جماعة مرتبطة تنظيميا بالقاعدة ولكن مرتبطة بشكل أيدولوجي، ولا يمكن إغفال تلك الجماعات ذات الطابع الإسلامي التي نزحت من مالي جراء التدخل الفرنسي هناك، و تشيرالكثير من التقاريرالأمنية إلي أن الكثير من الجماعات الإسلامية المسلحة تتخذ من المناطق الحدودية مع تشاد والنيجر والجزائر مأوي لها، بل إن بعض التقديرات ترجح وجود"مختار بلمختار" زعيم تنظيم القاعدة في المغرب العربي في جنوب ليبيا.