أخطر ما في المشهد السياسي المصري الراهن, والذي يعود بجذوره لاستفتاء مارس2011 علي التعديلات الدستورية, هو تحول الوجهة السياسية لمعظم الأحزاب والتيارات المصرية لفكرة الصراع علي التاريخ والشعارات, ورغبة كل منهم في تسجيل النقاط ضد الآخر, فلقد اختصروا المرحلة الثورية في سقوط مبارك رمز النظام السابق, وانتقلوا سريعا لمرحلة التنافس السياسي, وكأن الثورة حققت كل أهدافها فجأة, وأصبحنا في دولة المؤسسات المهنية المنضبطة, والمستقلة عن التوجيه والفساد السياسي وبقايا تراث الاستبداد والقهر.. هناك من دون شك نوع من التشوه في المسيرة السياسية الحالية, يجعل المشهد السياسي غير معبر عن طموح الشارع المصري, يتطلع المواطن البسيط لثورة في القيم يتطلع لمنظومة حياة أفضل لخطاب واضح يحدد مسار المستقبل, خطاب يطمئنه وليس شرطا أن يعود عليه بالمكاسب المادية السريعة والمباشرة, ولكن خطابا يعطيه الثقة في المستقبل. ويري البعض الآن في ملف الجمعية التأسيسية للدستور المصري الجديد, أنها فرصة للانتصار السياسي والثأر من خصوم الماضي, في حين أن للشعب المصري خصوصيته التاريخية التي يجب علي الجميع احترامها, هذا الشعب لا يريد أن يقدم له أحد دينه في شكل الحكم السياسي ل طالبان الأفغانية, التي تزيدت وحاولت أن تفرض نمطا واحدا للحياة علي الجميع, باسم الدين. ولايريد هذا الشعب كذلك علمانية أوروبية, بمفهوم التحلل التام من القيم والأخلاق والمباديء الدينية السمحة.. هذا الشعب له خصوصيته التاريخية, يؤمن بقيم دينية وأخلاقية سمحة ومتجذرة, وفي ذات الوقت لا يقبل أن يحكمه أحد معتبرا نفسه ممثلا للمقدس السماوي. الصراع الدائر الآن في الجمعية التأسيسية للدستور, في جوهره صراع سياسي نخبوي, يقوم علي الشعارات ليس إلا, ويرغب البعض في الانتصار علي التيارات السياسية التي قد يري فيها عدوا تاريخيا, ويرغب في وضع مواد دستورية كل الغرض الأساسي منها: الانتصار لشعار محسوب علي توجه سياسي, يجعل أصحاب هذا الشعار يشعرون بالنصر علي من يظنون أنهم أعداء الماضي, وذلك هو ما قد يدفع الجميع ثمنه. لقد نجح المجلس العسكري قبل أن يرحل, في رسم مسار سياسي للبلاد والثورة المصرية, هو مسار مشوه.. نجح في أن يضع رفاق الثورة في المواجهة, نجح بذكاء شديد وتفوق في أن يوجه الصراع داخل التيارات السياسية, فأصبحت كالنار تأكل بعضها بعضا, نجح في أن يدفع البعض لتصوير الأمر وكأنه صراع بين الدين واللا دين, في حين أن الأمر في حقيقته صراع بين ثورة ونظام قديم. تجمدت الثورة المصرية في يوم جمعة الغضب2011/1/28 ولم تتحرك بعدها, في ذلك اليوم أسقط ثوار مصر النظام القديم بالفعل, أسقطوا رموز السياسة ممثلة في حرق مقرات الحزب الحاكم, وأسقطوا الذراع الأمني الباطش للنظام, الذي اعتدي عليهم بالرصاص والعربات المصفحة ممثلا في: حصار مقرات الشرطة التي جاءت لها أوامر عليا بما فعلته, والمسئولية عن أفعالها سياسية بالمقام الأول.. وكانت هناك خطوة واحدة باقية لثورة مصر حتي تكتمل, وهي: أن تصل الثورة للجهاز الإداري, ويظهر مردودها علي المستوي الاجتماعي, ليكتمل تعاطف الشعب معها, ولكن تم تجميد الثورة المصرية ووضعها في الثلاجة منذ ذلك الحين. كل الخوف, أن ينفجر بركان الغضب الشعبي فجأة, وينفد صبره من تفريغ شحنة المرحلة الثورية وتوهجها في جدل سياسي تاريخي علي شعارات, حسم الشعب المصري أمره فيها بوضوح, حينما كان الميدان في ظل ال18 يوما الأولي للثورة, يرفض رفع شعار سياسي بعينه, ينتصر لتيار علي حساب الآخر. لقد بدأ العد التنازلي ليوم2013/1/25, وأخشي ما أخشاه, أن يسبق الغضب الشعبي الجدل السياسي, ونري موجة ثورية تصحح المسار السياسي من جديد, وقد تكون تلك الموجة الثورية هي المبشرة لموجة تالية لها, قد تكون أشد عنفا وغضبا في موقفها تجاه المسار السياسي لمصر/ الثورة. أو قد يحاول البعض تأزيم الموقف, ليكون الدستور التوافقي هدية لثوار2013/1/25 حتي يؤجل غضبتهم, وتمر موجتهم الثورية بسلام.. نحن في حاجة إلي حكماء من المثقفين وأهل السياسة والرأي, يجاهرون برأيهم ويتحملون ما سيتعرضون له من تشويه من مختلف التيارات تاريخيا. وفي حاجة مستقبلية لأن يفرز الحراك الثوري الشعبي بديلا سياسيا, يستطيع التعبير عن وجهة نظر الثوار بشكل فاعل, ولكن هذه مسألة صعبة بدورها, تتحكم فيها الظروف والعوامل المتغيرة دوما, وتتحكم فيها قدرة الثوار علي الفرز والتنظيم.. إنما يبقي الهدف ضرورة تصحيح المسار السياسي الحالي, ليعبر عن مصر/ الثورة, ويقدم مشروعا جماعيا يلتف الجميع حوله, ويعلو فوق الصرع والخلافات التاريخية, أقله في هذه المرحلة السياسية الراهنة, التي طبيعتها الحقيقة: استكمال تحقيق مطالب ثورة25 يناير, التي لم تكتمل بعد. كاتب وباحث سياسي