(1) لم أكن قادرا علي الذهاب إلي الميدان بسبب آلام قدمي, هكذا استقرت بي الأحوال ليل نهار علي الكنبة أمام الجهاز الذي لايغلق, أنتقل بين قناة وأخري لاتفوتني شاردة من هنا أو واردة من هناك. آكل وأشرب وأغفو, لأهب من غفوتي خائفا أن يكون ما شاهدت كان حلما تخلل الغفوة, ثم انتهي. إلا أنني في كل مرة, كانت السعادة تغمرني وأحمد الله. (2) ما أن رأيت اللافتات العبقرية المرحة التي حملها المتظاهرون حتي امتلأت بالطمأنينة والثقة في نجاح الثورة, فهاهي أجمل خصائص المصريين تعود للحياة, وهي سمة لن تجدها أبدا في أي من شعوب الأرض, بشهادة الدنيا قاطبة, تلك القدرة الهائلة علي الاحساس بما تتضمنه اللحظة والعلو فوقها بتعليق غاية في البساطة واللماحية والذكاء, يوقظ أجمل ما في البشر من غبطة وانسانية, وحنو, سمة لاتتوافر إلا لشعب عريق لانظير لجماله, ومصر, عندما تغيب عنها هذه الهبة لاتعود مصر أبدا. وأنا كنت, في زمن آخر, أسهر في امبابة مع كتبي في حجرتي مفتوحة الشباك, والناس تسهر من حولي, وأظل حتي الصباح تلتقط أذناي الضحكات التي تتردد في بيت أو آخر, قهقهات الرجال وصيحاتهم ترافقها ضحكات النساء ناعمة حرة ومن دون وجل في قلب الليل, ولأنني عرفت المدينة وجبتها شارعا شارعا و وحارة حارة, ودارا دارا( وزنجة زنجة) فلقد كان بوسعي دائما أن أتعرف, أو أخمن, مصدر الضحكات إذا تناهت, إلا أنها خفتت مع الايام التي طالت, وصارت الدنيا موحشة, وكست الكآبة وجوه الناس, وفي أيام الثورة انفرجت الوجوه, صحيح أنها خلفت وراءها قلقا. لكن يبقي أن مصر قد عادت لما عاودتها قدرتها علي صناعة المرح المدهش العميق. (3) لم يطل بي الأمر حتي رأيت الأحوال في الميدان ادلهمت, وشعرت بالحرج أن يشارك الجميع, حتي النوق والبغال والخيول, وأنا جالس مطرحي, لذلك انتصبت في قلب الصالة ونضوت عني مباذلي, وارتديت ثيابي وطلبت ان يأخذوني فورا إلي الميدان. كانت الحيطة تتطلب أن يذهبوا بي من وراء, حتي لا أكون مطالبا بالجري أو ما شابه, هكذا غادرنا العربة ناحية مدخل كوبري الجلاء, ونصحوني أن أقف لا أتقدم خطوة واحدة, وأنا وقفت مكاني ورحت أري طلائع المظاهرة الحاشدة القادمة من ناحية امبابة في طريق النيل, ورأيت الطريق إلي كوبري قصر النيل, عند متحف مختار, صفوفا من رجال الامن بثيابهم السوداء يتقدمون متلاحمين بعصيهم الطويلة, وتوقفوا عند مدخل كوبري الجلاء في انتظار المظاهرة التي كانت تتقدم لكي تعبر, وكنت أتأملهم من مكاني وهم يطلون من تحت خوذهم المصقولة من وراء دروعهم التي يتسترون بها. اشتد وجيب قلبي وأنا أري طلائع المظاهرة الحاشدة الصاخبة وهي تتقدم في طريقها لايوقفها شيء, والتحم الجمعان وصارت معركة كبري من الركل واللكم وعصي ترتفع وتنخفض وتقع تحت الأقدام الطائشة وتلوذ بما يشبه الفرار, وطارت الحجارة ولم تلبث سماء المكان أن غطاها الدخان الكثيف الابيض وتراجعت شخصيا إلي مدخل فندق شيراتون الجزيرة, ورأيت رجال الأمن وهم يتراجعون سريعا ويقعون أو يتفرقون تحت ضغط الجموع التي أخذت طريقها ناحية الميدان, وكان شرطيان قد انسلخا رغما عنهما علي رصيف موقف العربات علي جانب من الفندق, وتابعت كيف نالهما من الخلائق ضرب كثير حتي ترك أحدهما زميله وراح يجري لاهثا ويتوقف علي مقربة مني, كان يلهث بفانلته الداخلية الممزقة بعدما انتزعت سترته, بحيث إن أحدا لم يتابعه من الاول لما فرق بينه وأحد المتظاهرين, كان في حال من الذهول وهو يقف علي مقربة باحثا عن زميله الذي اختفي في الزحام, ظل هكذا لبرهة قبل أن يرفع رأسه الحليق ويبربش بعينين دامعتين حتي تبين جدار الفندق العالي, حينئذ تلفت حوله هلعا, وصار يصيح بصوت مشروخ: احنا فين يااسماعيل؟ المزيد من مقالات إبراهيم اصلان