(1) أثناء عودتي إلي البيت فكرت فيما جري لي مع سائق التاكسي, واستغربت مرة أخري من هذه الجرأة التي جعلته يفعل معي ما فعل, ويستبدل الخمسين جنيها بجنيه واحد. لو كنت أصغر سنا كنت سحبته من ياقته إلي الخارج ولا أتنازل أبدا عن حقي. ثم قلت إن علي الإنسان أن يكون متسامحا بين وقت وآخر, وان كنت لن أنسي هذه الواقعة أبدا. وطلبت من هذا السائق الآخر أن يعزم علي بسيجارة, وهو قال: من عينيه. وبعدما أشعلها لي أخبرته أنهم يمنعونني عن التدخين, لكني بين الحين والآخر أريد واحدة أدخنها. (2) رحت أدخن إذن وأفكر كيف صار وجه نادية الحلو هكذا؟ لقد بدت لي وكأنها تغطي ملامحه النضرة التي أعرفها تحت قناع من الجلد العجوز لدرجة أنني عرفتها بمشقة, وقلت هذا يعني أنني الآخر صار وجهي في حال يرثي لها, وحمدت الله أنني لمحتها وهي لم تلمحني. تذكرتها عندما نام الحاج عثمان نومته الأخيرة, ووقفت أنا وتوفيق نتابع الطبيب وهو يحاول أن يجد وريدا يحقنه فيه دون جدوي. عشرات المرات يشكه أعلي الذراع وفي ظاهر الكف دون جدوي. والحاج مال وهمس بآخر الكلام الذي قاله: هاتوا نادية. ولما خرج توفيق واستدعاها طلعت لاهثة وأفسحت لها وأنا أري وجهها الخائف بملامحه الوردية السمراء الذي بدا لي ناضحا بالحيوية وأجمل من أي وقت مضي. وشرح لها الطبيب ما يجب أن تفعله وهي انحنت علي الحاج الذي تطلع إليها صامتا وهي شكته بهدوء, وسحبت قليلا من الدماء فعلا ثم حقنته وتراجعت بينما مسح الطبيب ذراع الحاج بقطعة القطن ونظر إليها وقال: شفت ياحاج؟ مايجيبها إلا ستاتها. ووقفت أنا وتوفيق أمام البيت نتابع الطبيب وهو يبتعد في الليل ومن خلفه يمشي الحاج مرسي والحقيبة الصغيرة في يده المدلاة. وتوفيق قال: بنت العفريتة عرفت مكان العرق. (3) عندما فتحت الباب لم يكن أحد موجودا بالبيت. لقد ذهبوا لحضور عقد قران في دار الإفتاء بالأزهر. وأنا أشعر بالقلق من غرابة الوضع لكنني أكون مسرورا عندما أجدني وحيدا وأروح أمشي في الشقة من هنا إلي هناك بإحساس مغاير عن الاحساس الذي يكون عندي عندما يكونون موجودين. لقد بدلت ثيابي وجلست في المقعد الكبير وفتحت التليفزيون ثم استغرقت في النوم. (4) عندما انتبهت كنت لا أزال وحيدا في الصالة, وتطلعت إلي الساعة المعلقة آخر الصالة, ولم أعرف أبدا المدة التي نمتها في كل مرة أريد أن أري الوقت الذي أنام فيه ثم أري الوقت الذي أصحو فيه لكي أعرف المدة التي نمتها, لكن النوم في كل مرة يباغتني قبل أن أنتبه وأنظر مع أن الساعة معلقة في مكانها طيلة الوقت. هو نوم متقطع علي أية حال. وأنا أحلم كثيرا ولا يتبقي لي من أحلامي سوي صورة أو وجه أو تفصيل صغير ما أن استيقظ حتي أمسك به وأحاول جاهدا أن أستدعي بقيته الغائبة من دون جدوي. أحيانا أتذكر حلما صغيرا مكتملا وتغمرني السعادة بسبب من ذلك. قد أحكيه بشكل عفوي وبنوع من عدم الاهتمام لزوجتي عندما نكون وحدنا وهي عادة ما تسمعني مبتسمة وتقول: خير. والآن رأيتني في المدة التي غفوتها علي المقعد الكبير أقبض علي صقر قصير وممتليء وأنا خائف من مخالبه الحادة إذ يقاومني لكني رأيته مستكينا بريشه الناعم الذي تدرجت ألوانه البنية الفاتحة علي جسده ورأسه الشبيه برأس القط الصغير بمنقاره الحاد المعقوف, وعينه القريبة الوادعة, ووجدتني أرفع يدي عن ظهره وأفتح يدي الاخري التي تحمله ولا يطير بل ظل يجلس وادعا وقد لم نفسه حتي يسعه كفي المفتوح, ثم رأيتني وأنا مازلت مكاني في المقعد الكبير, أميل وأمد يدي أقربه إلي الأرض, وهو يقفز بهدوء إلي السجادة المفروشة ويروح يدرج بطيئا ويتمايل علي قدميه الصغيرتين كمن يعرف المكان حتي دخل الحجرة الأخري وغاب. أنا رأيت ذلك واستيقظت. وللكلام. غالبا بقية.