كان سائق التاكسي يعاكس النساء بصوت عال كلما تمهل بسبب الزحمة. وسألني إن كنت أعرف المقدم فلان, والرائد فلان, وقلت إنني لا أعرفهما, وقال إنهم أصدقاؤه, ويلتقون بالمقهي في السيدة عائشة ثم أخرج الموبايل ووضعه علي أذنه وراح يقول تحت أمرك ياباشا. وعندما توقفنا مددت يدي إلي جيب سترتي وأنا أميل ناحيته. كنت أعرف أن به ثلاث ورقات: خمسون وعشرون وعشرة. تحسست الورقة الكبيرة وناولتها له, وعدلت جانب السترة ثم التفت ورأيته يرفع يده وفيها جنيه واحد بدلا من الخمسين ويتطلع إلي مستفسرا بدماغ حليق وابتسامة وقحة. وأنا دهشت وفكرت وأخرجت الورقتين وأعطيته العشرين, لكنه قال: لا ثلاثين. أعطيته العشرة الأخري وفتحت الباب ونزلت. -2- كان مدخل المدينة مزدحما بعشرات من مركبات التوك توك التي تتقدم مثل الصراصير الكبيرة بين حشود الناس الذين يتزاحمون في كل اتجاه وهم مستغرقون لا يلوون علي شيء. مشيت علي مهلي وأنا أفكر في هذا الموقف الغريب الذي حدث في التاكسي. أنا متأكد أن هذا الجنيه لا يخصني أبدا, ثم أنني لمحت الخمسين جنيها وأنا أعطيها له, مؤكد أن هذا السائق يحتفظ بجنيه في يده وإذا جاءت فرصة أثناء الحساب فإنه يرفعه بينما يكون قد أغلق كفه علي الورقة التي أعطاها له الزبون. هذا ما حدث فعلا لأنه رفع الجنيه أمامي, وهو يمسكه من طرفه بين إبهامه وسبابته المضمومة إلي كفه مع بقية الأصابع. كيف لم أطلب منه أن يفتح يده وأيقنت أنه نصاب محترف راح يحدثني عن الرتب التي يعرفها لكي يربكني ثم هذه المكالمة المزعومة التي أجراها وتمنيت أن أكون مخطئا لكي أشعر بالارتياح ثم قلت لا يمكن, ورأيتني أصادفه مرة أخري وأركب معه مبتسما ثم أطلق الرصاص علي رأسه الحليق أو أطعنه بالسكين في جنبه الأيمن وأغادر التاكسي وأتركه. وبما أن أحدا في البلد لا يدري بما يدور حوله فقد يظل جالسا هكذا عدة أيام قبل أن يكتشفوه وأكون أنا موجودا في البيت مشغولا في أي شيء آخر. 3 كان فضل الله عثمان أمامي مثل عجوز اصابه الإعياء والتراب وتبدلت ناسه. وقلت في نفسي أنك هنا الآن لا تعرف أحدا ولا أحد يعرفك. ووضعت يدي في جيبي الآخر, ووجدت النقود التي سوف أعود بها إلي البيت, وتساءلت ان كانت نادية مازالت حلوة أم تغيرت ونظرت مرة أخري, واتجهت إلي حارة الصعايدة. كان بيت توفيق في ثلثها الايمن وأنت داخل, ووجدتني أقف حائرا امام مدخلين أو ثلاثة من المداخل المنخفضة عن سطح الأرض رحت اطل هنا, وهناك وسألت واحدة أشارت بيدها إلي ناحية وقالت: اللي جنبنا. هبطت العتبة وتقدمت إلي السلم الضيق ورحت أصعد بضع درجات وأتريث. في الطابق الرابع, وجدت بابا مفتوحا في مواجهتي, وفي مدخله طاولة خشبية عليها بعض الحلل وامرأة شابة ترتدي بنطلون بيجامة مقلم, وفي يدها القريبة غطاء وفي الاخري ملعقة تقلب بها في حلة يتصاعد منها الدخان. وعندما لوحت بيدي إلي الطابق الأعلي قالت: بايته هي والبنات عند أمها. واتسعت ابتسامتها وأضافت: اتفضل. نزلت وأنا أقول لنفسي كيف تخرج نادية تبات عند أمها في مثل هذه الظروف؟ وكيف تضحك هذه الجارة. بينما توفيق توفي في الشقة التي فوقها. وتساءلت ان كان معني هذا أن توفيق رحل منذ زمن طويل ونادية تذكرت الصداقة التي تربطنا, وقالت لا يصح ألا نخبر عبدالله ولذلك طلبت من ابنتها أن تخبرني. وخرجت إلي الحارة وأنا غير قادر علي التأكد من هذا الأمر أو ذاك. وعند الناصية التقيت مع فتاتين طويلتين في ثياب سوداء ونظارات سوداء, وبينهما أمرأة عجوز ضئيلة الحجم يتقدمن داخل الحارة. وانتابني الشك قليلا ونظرت من عند الناصية ورأيتهن يدخلن البيت الذي غادرته قبل لحظات. انها نادية والبنتين, وانتبهت أن وجه المرأة العجوز الذي لمحته لم يكن غريبا وانتابتني رجفة, واستندت بيدي إلي الجدار القريب ثم أغلقت سترتي ومشيت في طريقي إلي البيت. وللكلام, غالبا, بقية. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان