مع بداية شهر رجب، يبدأ الإحساس بقرب ضيف عزيز لا يخطئه القلب، ويشرع الوجدان في التقاط إشارات خفية تعلن أن شهر رمضان يقترب يومًا بعد يوم. روائح الشهر الكريم تهل علينا مبكرًا، لا تُشم بالأنف بقدر ما تُستشعر بالروح، فتوقظ فينا حنينًا قديمًا، وتفتح نوافذ الشوق لأيام مختلفة، أكثر صفاءً وطمأنينة. رمضان ليس مجرد شهر في التقويم، بل حالة إنسانية متكاملة، يعيد فيها الزمن ترتيب نفسه داخل النفوس. ما أحوجنا إلى أجوائه التي تمتلئ بالمحبة، وتضمد ما انكسر في القلوب، وتمنح الإنسان فرصة نادرة ليهدأ وسط صخب الحياة، هو شهر جبر الخواطر، وطمأنينة الأرواح، والسكينة التي تتسلل بهدوء إلى تفاصيل أيامنا. مع اقتراب رمضان، نشعر وكأن طاقة روحية جديدة تُعاد شحنها داخلنا، يعود النشاط بعد فتور، ويتجدد الأمل بعد طول انتظار، وتزدهر معاني التفاؤل والعمل والاجتهاد. في هذا الشهر، يصبح الإنسان أقرب إلى نفسه، وأكثر قدرة على التصالح مع العالم من حوله، فيسعى للخير دون ضجيج، ويعمل بحب، ويمنح دون انتظار مقابل. رمضان فرصة حقيقية لصفاء النفوس، وجمع الشمل، وإحياء معاني المودة والتواصل والترابط، هو شهر العائلة بامتياز، حين تجتمع القلوب قبل الأجساد، وتعلو قيمة اللقاء، وتصبح البساطة عنوانًا للسعادة، ومع بدء العد التنازلي، تخطو قلوبنا خطوة خطوة نحو الشهر الكريم، محملة بالشوق والدعاء. نشتاق لصوت المنشاوي، والطبلاوي، وعبد الباسط، وهم يملأون الأثير عبر إذاعة القرآن الكريم، فتشعر أن البيوت تتنفس قرآنًا، نشتاق للصلاة خلف أصحاب الحناجر الذهبية في ليالي التراويح، حيث تمتزج الخشوع بالدموع، ويعلو الإحساس بأننا أقرب ما نكون إلى الله. هكذا تهل روائح رمضان، فتذكرنا بأن القادم أجمل، وأن في الانتظار عبادة، وفي الشوق حياة. اللهم بلغنا رمضان، وبلغنا فيه ما نرجو.