مع اقتراب شهر رمضان، ينساب في قلوبنا شعور خاص، يشبه النسيم العليل الذي يهب على أرضٍ تشتاق لأمطار الرحمة والتجدد، إنها الروائح الروحانية التي تعبق في الأفق، تحمل الأمل والتفاؤل، وتستحث قلوبنا على التهيؤ لاستقبال أيام مليئة بالبركات والتحديات الروحية، ما أحوجنا إلى هذا الشهر الكريم، الذي يمنحنا فرصة لا مثيل لها لإعادة تواصلنا مع الله، وإحياء أرواحنا في عالم مشغول بالجري وراء المتاع الدنيوي. في لحظات اقتراب رمضان، تعود بنا الذكريات إلى أيام كانت تُشَعرنا بالبساطة والجمال، رمضان في قريتنا الجميلة، شطورة بشمال محافظة سوهاج، كان له نكهة خاصة، طعمه لا يُنسى، وروحانية فريدة لا تتكرر، منذ صلاة العصر، كان الجميع يتأهبون لاستقبال الإفطار في أجواء من النشاط والمحبة، كانت منطقة "المربعة" - التي سميت بذلك لأنها في وسط قريتنا - تعج بالباعة الذين يعرضون الخضروات والفواكه والعصائر وحلويات رمضان الشهية، بينما كانت الأفران القديمة المبنية من الطين تنبعث منها روائح الكنافة البلدية التي تجعل القلوب تخفق في انتظار أول قضمة. مع اقتراب أذان المغرب، كانت مكبرات الصوت في المساجد تفتح نافذة للروح، فتسمع أجمل الألحان القرآنية بأصوات المنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد والطبلاوي، ووسط تلك الأصوات المباركة، كان الأطفال ينتظرون لحظة سماع مدفع الإفطار، فيطلقون الألعاب النارية ويشعلون الفرح في السماء، فتكتمل لوحة رمضان كما لو أنها عمل فني يتداخل فيه الفرح مع القداسة. لكن ما كان يميز رمضان أكثر من أي شيء آخر، هو روح التكافل والتراحم بين الناس، كان الجميع يخرجون صواني الطعام إلى المساجد وإلى البيوت المجاورة، كانت تلك اللحظات بمثابة تجسيد حي للعلاقات الإنسانية، حيث يمتزج الغذاء مع المشاعر الطيبة، وتكتمل الصورة بلحظة هدوء من المحبة والسكينة، كانت الوجوه تتلون بالفرح، والجميع يستشعر بركة الشهر في أبسط الأشياء. أما صلاة التراويح، فقد كانت تتحول إلى عرس روحي في المساجد، يتكدس المصلون، كبارًا وصغارًا، في صفوف منتظمة، وسط أصوات مكبرات الصوت التي تملأ الأرجاء، لتصنع أجواء روحانية مشبعة بالتقوى، في تلك اللحظات، كانت المساجد تتحول إلى بيوت للطمأنينة، حيث كان الأب يصطحب أطفاله إلى الصلاة، فتكتمل الصورة بأصوات من العزيمة والإيمان، ليكتسب رمضان طابعًا لا يمكن نسيانه. وفيما كان البعض يفضل قضاء بعض الوقت أمام التلفاز، كانت برامج رمضان حاضرة بكل قوتها، فالصغار كانوا يعيشون أوقاتهم مع "بوجي وطمطم"، "بكار" و"فطوطة"، بينما كان الكبار يتابعون "ليالي الحلمية" و"السيرة الهلالية"، متأثرين بمسلسلات كانت تحمل دروسًا أخلاقية وتفتح أبوابًا من الأمل. وفي ساعات السحور، كانت الأسرة تلتئم مجددًا حول مائدة بسيطة لكنها مليئة بالدفء والمحبة، كان الأطفال يتزاحمون على بائعي الفول، بينما تجتمع العائلات لتناول السحور معًا. وفي تلك اللحظات، كان الفجر يقترب، فتُطلق المساجد أروع الابتهالات للشيخ النقشبندي ونصر الدين طوبار، لتنساب أصواتهم كالسيل في سكون الليل، وتعلن بداية يوم جديد من أيام رمضان المبارك. ومع كل يوم كان يمضي، كنا نعيش لحظات من النقاء الروحي، ونسج لذكريات قد لا تتكرر، ولكنها ستظل حاضرة في قلوبنا، لأن رمضان لا يقتصر على كونه شهراً للعبادة، بل هو موسم للذكريات الجميلة التي تربطنا بزمن كان مليئًا بالتراحم، السكينة، والمحبة. وهكذا، حين يهل رمضان، تتفتح لنا أبواب من الأمل والفرح، وتذكّرنا بروائح الزمن الجميل، تلك التي لا تُنسى أبداً.